الوهم يقود إلى العمى والتفاهة السياسية

 

د.فايز رشيد ( الأردن ) الجمعة 6/5/2016 م …

من بين المئات من العناوين التي قرأتها، والتي تدور ولو قليلا حول الموضوع المطروح، استوقفني عنوانان، الأول، عنوان مجموعة قصصية للراحل الشهيد المبدع غسان كنفاني، «عالم ليس لنا»، والثاني «لن يفهمني أحد غير الزيتون»، وهو عنوان قصيدة للشاعر عزالدين المناصرة.

العنوانان ينطقان بنوع مما يجري في عالمنا حاليا من تقييم للإنسان، ارتباطا بوضعه الاقتصادي ووفقا لما يمتلكه من أموال، وليس لذكائه وقدراته. في الوقت ذاته نرى اضمحلالا متدرجا لقيَم مثل، الأصالة، المبدئية، الأخلاق العالية، الشهامة، النبل وغيرها من الصفات، التي مثلت عناوين رئيسية للوجود الإنساني في عالمنا العربي لصالح ما يوحي عكسها. هذا على صعيد الاجتماع! وكذا الحال في السياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات.

الوعي هو انعكاس للواقع، الذي يتشكل من المعرفة بما يدور في المجتمع من ظواهر، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية وغيرها. كل هذه الظواهر/ المجالات لها نظرياتها المبنية على تعريفات تحاول أن تكون محددة، فالاختلاف حولها كبير وواسع، لكن هناك سمات مشتركة لكل واحدة منها، وقاسما مشتركا أعظم فيما بينها. هذه الظواهر ليست منفصلة بعضها عن بعض، فهي مرتبطة بشكل جدلي: تؤثر كل منها في الأخرى وتستقبل تأثيرها، لذا فلا فصل بينها. بالتالي، فإن القيم المجتمعية تتراكم تدريجيا عبر عملية تاريخية طويلة، وعبر خصوصية ثقافية وتبادل حتمي مع الثقافات الأخرى، وعبر علم الاجتماع والسياسة، والاقتصاد وعلاقاته. إذن بالضرورة هي حصيلة معرفية قادرة على التشكل، وفقا لنمطية العلاقات بين كافة المجالات المختلفة.

في حاضرنا مجال كبير للاعتماد على ظاهرة الوهم، الذي هو رسم حالة غير طبيعية لتفاصيل الواقع، وبضمنه السياسي. ذلك أن معيار النجاح في الخطوة السياسية أو الفشل فيها، مرهون بواقعية النظرة إلى الحدث السياسي المعني، بكل حقائقه ومعطياته، وبالضرورة إمكانياته المتاحة غير المرئية، التي بالجهد الدؤوب يمكن إظهارها وتحقيقها، وما قد تفرزه من خطوات تالية. نقول ذلك، في محاولة لإدراك حالة النكوص السياسي العربي الحالي، في عصر التجمعات الجيو- سياسية القائمة، أو التي ستتشكل، انطلاقا من رغبة قوة التأثير السياسي لتجمع دول (إلا الدول العربية)، مقارنة مع التأثير الهزيل لقوة تأثير الدول فرادى. مثل آخر على صحة ما نقول، إن العدو الصهيوني أصبح في طور الإعداد لمشروع قانون سيقدمه إلى الكنيست في دورتها الحالية، وينص على ضم الضفة الغربية إلى الكيان باعتبارها «أرضا إسرائيلية». الخبر نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في عددها الصادر الأحد الماضي، عن قائد المستوطنين في الضفة الغربية شيلا إلدار، الذي كشف فيه النقاب عن أن الكنيست ستمرر قريبا مشروع قرار الضم. إلدار ينتمي إلى حزب «الليكود» الحاكم. جاء تصريحه بعد حصوله على تعهدات من وزراء ونواب ومن قادة حزب «البيت اليهودي»، بأن يتم سن قانون يُشرّع ضم الضفة الغربية، مشددا على أن هذا المشروع سيكون على رأس أولويات جميع كتل اليمين البرلمانية، التي تمتلك أغلبية نسبية، وليس بعيدا أن يكسب المشروع أصوات حزب العمل (المعارض) بزعامة هيرتزوغ، الذي لوحظ عليه مؤخرا من تصريحاته، اقترابه الحميم من نهج الليكود. وأشارت الصحيفة إلى أن ما ورد على لسان إلدار، لقي تأييد العديدين من زعماء الأحزاب الإسرائيلية الأخرى، التي كان يُشك في تصويتها لصالح نجاح المشروع حتى الأمس القريب. الخطوة، لم يكن إلدار ليطرحها، لولا ضوء اخضر من زعيم الحزب نتنياهو، الذي وإمعانا في التحدي، عقد جلسة حكومته الأخيرة في مستوطنة في أراضي هضبة الجولان العربية السورية، وقد صرّح بعدها قائلا، «واهم كل من يتصور أن إسرائيل ستتخلى عن الهضبة». في ظل هذا الوضوح الإسرائيلي، ما زال عديدون من الفلسطينيين والعرب، يراهنون على إمكانية قبول إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية في أراضي عام 1967، من خلال المفاوضات معها! مع العلم أن نتنياهو رفض حتى المبادرة الفرنسية الجديدة، رغم تقزيمها للحقوق الوطنية الفلسطينية، إلى جانب تصريحات عديدة لمسؤولين إسرائيليين، أكدوا فيها، ألا دولة فلسطينية ستقام بين النهر والبحر، غير دولة إسرائيل. ما نسأله لهذا البعض: ألا تدخل مراهنتكم على انتزاع دولة فلسطينية عتيدة من بين مخالب الوحش الصهيوني في باب العمى السياسي؟

ليس غريبا ما قلناه في ظل ازدياد وتائر «التفاهة» المنتشرة في عالمنا، فما أكثر ما نواجه من مظاهرها في يومنا.. بدءا من فضائيات تتجاهل الخبر الفلسطيني والبدء حتى في شيطنته.. مع العلم أن كثيرين كانوا قد نبّهوا مالكيها لهذه المسألة.. ولأنهم فوقيون، كونهم يعتقدون (بأنهم يمتلكون رأسمال كبير فلا يرون إلا من خلاله، ومن أرقام رصيدهم البنكي) بامتلاكهم للحقيقة المطلقة، مرورا بصحف صفراء وصولا إلى أناس يعيشون عالمهم، وليس لهم أي علاقة بقضايا أوطانهم.. وأولئك الذين لا يعرفون أن الناس تعرف، وتقرأ ما لا يقرأون. وأولئك الذين تعجبهم الكتابات التافهة ويؤيدونها مختارين، ولا يعلقون على كل ما هو جدي! ليس غريبا ما قلناه لأن «التفاهة « أصبحت مدرسة، بل مدارس وعناوين لروايات عالمية! منها «حفلة التفاهة» للمبدع ميلان كونديرا، وتحولت أيضا إلى كتب ثقافية، آخرها وليس أخيرها كتاب «نظام التفاهة» لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو (الذي تطرقت إليه «القدس العربي» قبل عشرة أيام). ونظرا لدقة تشخيص الكتاب لواقع عالمنا الحالي سنتطرق إلى مضمونه باختصار شديد: يؤكد الكتاب السيطرة الحالية للتافهين على العالم، بعد أن حسموا المعركة بدون ثورات، وسيطروا على عالمنا، وباتوا يحكمونه، اجترحوا حلول القابلية للتعليب محل التفكير العميق لبني البشر. يوصي دونو الإنسان الراغب أن يكون واحدا منهم، بـ»لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسّع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة ـ أي مرونة وقابليه للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. نعم، لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة». أما أسباب سيطرة التافهين على العالم فيعزيها المؤلف إلى عاملين اثنين، سوسيولوجي – اقتصادي، وسياسي – دولي. إذ صار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط المنتمي إلى «لوبي»،  على قاعدة نجاحية عنوانها «إجادة اللعبة». إن الخبير هو ممثل السلطة، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل المثقف، الملتزم تجاه القيم الأصيلة والمُثل المجتمعية العليا، فجامعات اليوم، التي تموّلها الشركات الرأسمالية، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال ذات مرة إن «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». نعم، لا مكان في زمننا للعقل النقدي ولا لحسّه، أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. الأهم أن الإنسان صار مستهلكا لإرضاء متطلبات السوق.

يرى دونو أن «نظام التفاهة» هو مرحلة من مراحل تطورالرأسمال المالي، كان بدايتها عهد مارغريت ثاتشر – رئيسه وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين– وتميزت هذه المرحلة، بحكم الكفاءات التكنوقراطية كبديل للنخب الشعبية. كما يؤكد، أن نظام التافهين ولد في الدول الغربية الرأسمالية، ولكن يمكن الاستخلاص منه، انه يشمل أيضا الدول النامية ودول العالم الثالث، التي تطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي تحت شعارات «الانفتاح الاقتصادي»، «الخصخصة»، «الليبرالية «، «الواقعية والمرونة السياسية»، «الموضوعية»، «اللايقين واللاجدوى» وغيرها من التعابير الجديدة. إن موقف الرأسمالية كان وسيظل سلبيا مترددا من الضوابط الأخلاقية لمتطلبات الأسواق، إنتاجيا واستهلاكيا، لذا فهي تشكل سببا رئيسيا لـ»نظام التفاهة». أيضا يرتبط نظام التفاهة من وجهة نظر المؤلف، بالديكتاتورية والاستبداد، وتزييف الإرادات الجماهيرية للناس، وبالنفاق الاجتماعي المنتشر كثيرا في مفاهيم وعقليات الشعوب حاليا، وبالكذب والتضليل الإعلامي لوسائل الإعلام.

لقد انتشرت في الآونة الاخيرة (وفقا للكاتب ) لافتات مكتوب عليها «توقف عن جعل الناس الاغبياء مشهورين»، فالدفع بالتافهين الى واجهة العمل الاجتماعي، يعتبرجريمة بحق الأجيال الناشئة، ولو اخذنا جولة مطولة على حسابات المشاهير الجدد في مواقع التواصل الاجتماعي، لوجدنا انها تشترك في سمة واحدة هي، اعتمادها بشكل رئيسي على» صناعة التفاهة»، أو ما يمكن أن نطلق عليه «الاستغفال».

الشعارات أصبحت، أصدر أغاني هابطة، أرقص، إصرخ، أصدر اصواتا غريبة، تكلم لمجرد الكلام، خالف مُثل الناس، ستشتهر وسيزداد المصفقون لك، وبعد ان يتجاوز عدد مشاهديك والمعلقين على تفاهاتك، الملايين، ستنهال عليك العروض. هذا هو الواقع القائم للأسف: انهيار أخلاقي، اجتماعي، قيمي. انتشار اللايقين والعبث.

أترون؟ يلتقي دونو مع ما خطّه كاتب هذه السطور منذ فترة،على صفحات «القدس العربي» من سلسلة مقالات تحت عنوان، «أمراض عربية»، الفارق الوحيد بيننا أنه عمم هذه الحالة عالميا. وهو ما يدل على الأفكار المشتركة وتواردها بين الكتاب،رغم كل بعد جغرافي.

قد يعجبك ايضا