قراءة في كتاب … الهنود الحمر ودولة كنعان للمؤلف منير العكش

 

محمد العبد الله ( فلسطين ) الإثنين 23/11/2015 م …

أغنى الدكتور والباحث «منير العكش» المكتبة العربية بعشرات الكتب والدراسات باللغة العربية والإنجليزية، والترجمات. لكن كتاب «دولة فلسطينية للهنود الحمر- 445 صفحة إصدار رياض الريس للكتب والنشر» الذي نقدمه بهذا العرض السريع والمختزل، بالنظر لما يتضمنه هذا الإنجاز البحثي الاستثنائي، هو الأحدث في إصدارات الكاتب، فقد زود الكاتب المعرفة العربية بعدة كتب هامة ساهمت بتسليط الضوء على مراحل تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، «المستوطنة/المستعمرة» البيضاء على يد غزاة «بيض» قدموا من القارة الأوروبية، ومارسوا واحدة من أبشع وأقسى مجازر الإبادة البشرية في التاريخ.

لقد أسست كتب المؤلف «أميركا والإبادات الثقافية» و«أميركا والإبادات الجنسية» و«حق التضحية بالآخر،أميركا والإبادات الجماعية» و«تلمود العم سام:الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا» وصولاً للكتاب الذي بين أيدينا، لعمل متكامل، ساعد جمهور واسع من  القراء والمهتمين على معرفةِ واقع النشأة والتأسيس والامتداد لـ«الولايات المتحدة الأمريكية»، حيث تظهر بلاد «الحلم الأمريكي» وقد انكشف زيفها، ليس بواقع دور الهيمنة والتدخلات العسكرية وسواها في عالم اليوم، بل في الوضع الذي آل إليه أصحاب الأرض الأصليون في معازل أشبه ماتكون بالقبور.يتضمن الكتاب ستة فصول مع مقدمة وملحق وصفحات عديدة تحتوي المراجع وفهرس الأعلام والأماكن.

أما اختيار الكاتب لـ “فاتحة هندية” كبداية لرحلة القراءة في صفحات الكتاب، فقد جاءت لتحدد الهدف من الدراسة البحثية والتاريخية التي صاغها بكل موضوعية وتفرد. فهذه البداية اللافتة، كانت خطبة الزعيم الثائر، نبي المقاومة للشعوب والأمم الهندية «تِكومْسِه» في أيلول / سبتمبرعام 1811  التي شكلت «مانيفستو…البيان الشامل» خطة العمل للتصدي للغزاة، بكل ماتتطلبه من وحدة الصف ووحدة الهدف. يقول الزعيم« ليس أمامنا سوى أن نقاوم أو ننتظر الإبادة… إذا اتحدنا جميعاً فإننا سنصبح أقوى من (الغزاة) البيض، أما إذا تفرقنا فإننا لن نستطيع مقاومتهم بل إنهم سيهزموننا ويسرقون أوطاننا ونتناثر كأوراق الخريف في الريح العاتية». كانت نبؤة، لكنها تحققت على ارض الواقع بفعل عوامل عديدة، في مقدمتها العامل الذاتي: طبيعة الروح السلمية في معتقدات ومكونات تلك الشعوب التي بنت حضارة، فاجأت غزاتها المتوحشين.

رجال الكهنوت والفلاسفة في تسويغ الإبادة

في عملية تزاوج تكررت عبر التاريخ الاستعماري في العالم، تتوضح في الغزوة الأوربية للقارة الأمريكية، العلاقة العضوية المباشرة مابين التمهيد الفكري الذي يرتدي لبوساً «دينياً» على يد المبشرين ورجال الكهنوت وحملة الأفكار العنصرية ممن يوظفون العلوم النظرية لتأكيد التفوق العرقي «المزيف» وخاصة أولئك الفلاسفة، الذين نتعرف على أحد عنصرييهم الفاجرين «توماس هوبس» الذي مارس عملية تزوير فاضحة للواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي من خلال تأكيده على أن طبيعة كل الشعوب والأمم الهندية لاتسمح لهم بإنشاء دولة أو بحكم أنفسهم، فهم حُكماً مجرد «وجود للموت».هكذا استحق «هوبس» تسمية «فيلسوف التوحش»، وبالوقت ذاته، أحد الأعمدة التي قامت عليها «شركة فرجينيا» في تأكيد جديد على قدرة رأس المال المتوحش، فكراً وممارسة، على تجنيد الميكيافيللية الدينية على يد المبشرين، والفلسفة من خلال اكتشاف «هوبس» للقانون الطبيعي للاستيطان ونهب أراضي الغير. أما فيلسوف «التسامح البريطاني» جون لوك الذي ساهم بنشاط الشركات الاستعمارية وفلسف «أخلاق النخاسة»، فقد برر في رسالته عن التسامح ،بأن إبادة الشعوب الهندية تهدف لتخليص «مملكة الله» أرض الميعاد من وجود الوثنيين المتوحشين فيها، لأن أي تقصير في تطهير تلك الأرض هو «خيانة عظمى» .

إذا كان الآباء المؤسسون للمستعمرات/المستوطنات الأولى على أرض أميركا الشمالية قد مارسوا عمليات الطرد للسكان الأصليين، فإن الرؤساء الأميركيين المتعاقبين استكملوا مراحل الإبادة الجماعية بمذابح وحشية قل نظيرها بالتاريخ الإنساني. ويبرز دور «جورج واشنطن» المؤسس الفعلي للولايات المتحدة، أو «موسى الأميركي» تماهياً مع موسى بني اسرائيل في فتح بلاد كنعان الهندية وإبادة أهلها وتدمير أي أمل لهم في الدولة التي تكررت وعوده لهم بإقامتها، بالاطلاع على أقواله «ليس هناك من يطرب للحرب على الهنود مثلي أنا… أزيلوا كلاب جهنم هؤلاء من على وجه الأرض» أو على رسائله لقادته العسكريين التي نجد في ماكتبه للجنرال «سَليفن» أصدق تعبير عنها «عندما نسحقهم سحقاً كاملاً علينا أن ننادي بالسلام مستغلين خوفهم لتحقيق المزيد من المكاسب». كما أن سجلات الوثائق تكشف لنا كيفية سلخ فروات رؤوس شعوب تلك الأمم الجنرال «جورج كلارك» المقرب من واشنطن سلخ وحده أكثر من سبعين فروة رأس في حملته على شعب «الشاوني» كما تكشف سجلات المكتبة التاريخية لولاية إلينوي _ وتقطيع جثثهم وتحويل جلودهم لصناعة أحذية «جزم» للضباط، وإطعام عجائزهم للكلاب المسعورة في حفلة رقص وفرح مجنونة تزيدها دموية نشوة زجاجات الكحول.بل إن التسلية الرياضية المفضلة لأبناء شعب الله هي تجرع الكحول والسُكر، ثم الذهاب لقتل الهنود وإحراق بيوتهم ومزارعهم. «فصيد الهندي لايختلف عن صيد الدب أو الجاموس البري» كما يقول جون هكويلدر. لقد تحول الرئيس «واشنطن» في الدين المدني الجديد «إلهاً» كما كتب عنه أحد المستوطنين «كدنا ننسى أنه إنسان وصرنا نراه كائناً إلهياً أرسل إلينا من عالم غير هذا العالم».وتشهد احتفالات يوم مولده «اليوم المقدس» كل سنة أكثر مما يشهده ميلاد السيد المسيح: ملايين البرامج الاحتفالية التي ترهق الميزانية، وملايين المقالات التي تمجد هذا «الكائن» غير العادي. وتبرز لوحة «تأليه واشنطن» التي تزين قبة مبنى الكونغرس «الكابيتول» كتعبير عن حالة التقديس التي يشعر بها المستوطنون نحوه. هذا الكائن غير العادي الذي هجر الدراسة وهو في الرابعة عشرة من عمره، وقال عنه الرئيس «جون أدامس»: «إن رئيسنا أمي جداً…لم يقرأ شيئاً، ولم يتعلم شيئا» .

الفلسطينيون والهنود …هل من مقاربة؟

    بداية، لابد من تفكيك الالتباس الذي أحدثه الكتاب لدى الكثيرين ممن قرأوا العنوان فقط. إذ ليس هناك أي صلة أو مقارنة مابين شعوب الأمم الهندية والشعب الفلسطيني وبالتالي “الدولة الفلسطينية”. في لقاء للكاتب مع صحيفة عربية تصدر في لندن (آب/أغسطس 2015) يعيد التأكيد على “المعنى الإسرائيلي لأميركا، وهو فكرة مركزية في كل دراساتي الأميركية، ليس فيه ما يدل، لا من قريب ولا من بعيد على مقاربة بين الشعب الفلسطيني والهنود الحمر. والقول إن فكرة أميركا مستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية، أو أن كل تفصيل من تفاصيل الغزو البريطاني لشمال أميركا، حاول أن يجد جذوراً له في تلك الإسرائيل الأسطورية، أو أن الموجات الاستيطانية الأولى استنسخت أحداثها وتقمصت أبطالها وعاملت الهنود على أنهم كنعانيون، لا يعني أبداً أن الفلسطينيين صاروا هنوداً حمرًا ونبت في رؤوسهم الريش. هذه المقاربة لا تتم إلا بمنطق الكيمياء السحرية. نعم، هناك كثير من التشابه، بل كثير من التطابق بين الجلادَيْن: جلاد الهنود وجلاد الفلسطينيين، أمّا الضحيتان فمختلفتان تماماً؛ مختلفتان في الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا، كما في التفكير والثقافة ونمط الحياة. وأهم من ذلك كله اختلافهما في مقاومتهما للغزو وفي حظهما من الانتصار. فسواء طال الزمن أو قصر، ليس من مستقبل لكيان صهيوني في فلسطين”. لهذا، جاءت محاولة تأسيس كيان “هندي كنعاني” كما نادى به المبشر “اسحاق مكوي” أحد أهم منظري ومنفذي سياسية تهجير الهنود وحصرهم في بدائل أطلقوا عليها “دولة هندية،وطن هندي، يعيشون فيه للأبد!” ككذبة كبرى يجترها المفاوضون الغزاة في كل جلسات التفاوض مع زعماء الهنود التي تنتهي بتوقيع معاهدة كما حصل مع هنود الدولاوير، لإقامة ولاية (دولة) هندية، تفضي لترحيل شعوبهم وحصرها في مناطق محددة “معازل/سجون” تمهيدا لإبادتها، كما ظهر بعد اسبوعين من توقيع المعاهدة،عندما تم تسميم “وايت آيز” الزعيم الهندي_الذي أدار المفاوضات ووقع المعاهدة وعمل على تقديم خدماته من خلال شق الصف الهندي ووضع أتباعه في خدمة الغزاة ضد شعبهم_ بجراثيم الجدري على يد أحد جنود الجنرال “مكنتوش” الذي كان يدير المفاوضات عن الجانب الأمريكي.

    في سبيل تنفيذ سياسة قضم وابتلاع أراضي الشعوب الأصلية، انطلقت موجات من الإبادة نفذها “شعب الله المختار”الإنكليزي أولاً، ثم لحقت به شعوب أوروبية أخرى.وإذا كانت المذابح الوحشية التي مورست على البشر، وحرق المزروعات والأشجار المثمرة التي أبهرت بأنواعها وطرق زراعتها وووفرتها، الغزاة البيض ممن نفذوا أوامر قادتهم كجورج واشنطن وسواه، هي فصل الختام في إبادة مايقارب من عشرين مليوناً من أصحاب الأرض الأصليين، فإن أساليب المراوغة والتضليل التي مارسها قادة المستعمرين/المستوطنين، قد عرفت نصب فخ “تبادل الأراضي” للهنود على يد الرئيس الثالث “جفرسون” وماتبعه من رؤوساء، هذا الفخ الذي أعاد نصبه بعد قرنين من الزمن المستعمر الصهيوني الفاشي “إفيغدور ليبرمان” وتلقفه وسوقه بعض المسؤولين العرب…والفلسطينيين.

  الرقيق الأسود في خدمة الغزاة

   ساهمت سفن شحن الرقيق الأسود في ظهورالعبودية في تجمعات المستعمرين البيض، من أجل تأمين الأيدي العاملة للقيام بالخدمات، سواء في الأرض أو المنزل. فالعبودية “بمعناها العرقي والطبقي” كانت _ومازالت بأشكال متعددة_ جزء من “الحلم الأمريكي” لأن” العيش من دون رقيق في هذه المستعمرات، مستحيل أخلاقياً” كما اعترف قديس الاستيطان “وليم بيرد”.لهذا انتعشت تجارة الرقيق وراجت سوق النخاسة، ليصبح “اقتصاد الرقيق” مرتبطاً بانتشار وتوسع المستعمرات البيضاء وأحد الأدلة الملموسة على نجاح الديمقراطية الأمريكية.وهذا ماظهر في دراسة حالة العبودية عند عائلة ” واشنطن” فوالد جورج واشنطن”أغسطين” وَرِثَ خمسة أرقّاء من أبيه في عام 1715،لكنه وَرَّثَ أولاده أربعين رقيقاً أسود عندما مات في 1743.أما جورج فقد كانت حصته من تركة أبيه عشرة فقط، لكنه عندما مات كان يملك 123 رقيقاً أسود.

  من المُتَوحش؟

    لم يتوقف سيل عبارات الكذب والتضليل عن وحشية أصحاب الأرض الأصليين، التي ساقها المبشرون والفلاسفة وجنرالات الحرب لتبرير جريمة إبادة عشرات الملايين من الشعوب والألم التي أقامت عليها منذ آلاف السنين. أبهرت الثروات الزراعية على سطح الأرض أو المعدنية في باطنها، عيون وعقول الغزاة، فاستثارت غرائزهم لاغتصاب كل شيء تصل لهم أيديهم. تعرف المستعمرون لأول مرة على :البطاطا والتبغ والذرة والأفوكادو والفستق السوداني وحقول الشوكولا…ولم يدركوا أهميتها وظنوا أنها من مأكولات “المتوحشين”.وبالإضافة لهذا التنوع، فإن الأساليب والطرق المستخدمة في الزراعة والري، أذهلت أولئك الغزاة. وفي هذا الجانب، تأتي شهادة عالم الإنسانيات الأمريكي “جاك وذرفورد” لتوضيح ماحاول المستعمرون،إنكاره “الهنود أكثر شعوب الأرض التي أجرت اختبارات زراعية وتفننت في إنتاج المحاصيل التي لم يعرفها العالم وليس لها من أسماء إلا في لغاتهم”. وكما برعت تلك الشعوب في الزراعة، فقد تفوقت في الصناعة أيضاً. فمن صناعة القطنيات إلى صناعة الكاوتشوك إلى صناعة الأصباغ والأواني النحاسية والفضية والذهبية، وغيرها.

  على صعيد المجتمع والعلاقات الاجتماعية، كانت ثقافات الأمم الهندية تؤمن بقانون البراءة السائد بينهم منذ قرون طويلة. ويقض هذا القانون باحترام حياة الإنسان غير المحارب وحريته ومُلكه.كذلك كان الاغتصاب محرما،ً وهو تحريم طبيعي في ثقافة تعلو فيها منزلة المرأة على منزلة أختها في معظم ثقافات أوروبا.ولهذا كان قرار الحرب لايتخذه الرجال الهنود، بل تتفرد به نساء حكيمات يطلق عليهن اسم “أمهات العشيرة”.

 لنقرأ مايقوله الزعيم “لام دير” من هنود لاكوتا ” قبل أن يأتي إخواننا البيض ليمدنوننا ماكان عندنا سجون، لأنه لم يكن عندنا مجرمون.لم يكن لبيواتنا أقفال لأنه لم يكن عندنا لصوص.وعندما يكون بيننا فقير دون حصان او مسكن أو غطاء نتسارع لنهديه كل مايحتاج. نعم كنا( غير متمدنين)”.

   طين الأرض هو الأبقى

  يختتم الكاتب فصول كتابة بشهادةٍ يمكن لها أن تكون “خاتمة هندية” : حين أخفق المفاوضون البيض في معاهدة فورت كروسينغ” أيلول/سبتمبر1879″ في إقناع الزعيم الهندي “كروفوت” ببيع بلاده،تقدم منه أحد المفاوضين ونثر أمامه كومة من الدولارات لإغرائه وإغوائه. فأدرك الزعيم أن مفاوضه المتعجرف بطيء الفهم فانحنى إلى الأرض والتقط بكثير من الاحترام حفنة من الطين، كوّرها ثم وضعها في النار، وقعد صامتاً إلى أن تحولت إلى قرميدة صلبة.عندها أخرجها وقال لمفاوضِه:”تفضل الآن، وضع أوراق دولاراتك في النار لنرى ما إذا كانت ستصمد كما صمد طين هذه الأرض”. قال المفاوض الأبيض:”لكنها ستحترق، إنها مصنوعة من الورق”. وهنا قال الزعيم: “هه،إذن فإن دولاراتك أوهى وأبخس من هذه الحفنة من طين الأرض.مانفع دولاراتك إذا كانت النار تحرقها، والريح تسفعها والماء يعطبها”.

 هل يمكن لهذه الشهادة أن تكون درساً في فهم قدسية تراب الوطن ؟.

_________________________________

المؤلف في سطور:

– يعرف ذاته : سوري بالمولد وفلسطيني بالاختيار .

– قبل تقاعده عام 2013، عمل استاذاً للإنسانيات واللغات الحديثة ومديرا للبرنامج العربي في جامعة “سفك” ببوسطن، وقبلها في جامعة بوسطن، وجامعة ولاية كونتكت في ستورز.

  زود المكتبة العربية ب 22 كتاباً ، تأليفاً أو تحريراً أو ترجمةً.

– يعمل على تأليف كتاب جديد عن “الدين في أميركا”.

 

قد يعجبك ايضا