السياسة والكتابة والبحر والوقت / محمد شريف الجيوسي

 

 

محمد شريف الجيوسي ( الأردن ) الثلاثاء 20/1/2015 م …

 

هل السياسة وهموم الحياة هي كل ما ينبغي ان تتجه اليه اهتمامات السياسيين والعسكريين والنشطاء والمحللين ورجال الفكر والاقتصاد والمال والعمل العام .. أم أن هناك محطات  تأملٍ واستراحات محاربين ووقفات وإبداع وترجل.

لقد كان ذلك أمل طالما رنوت إليه وتأملت ان يتحقق منذ عقود ، لا بد ان العمل اليومي ولقمة العيش تطحن الطموحات وتقنن الإبداع حتى تكاد تشطب كل شيء ، اليوم ؛ غداً ؛ الأسبوع المقبل ، حتى ينتهي العمر أو يكاد .

أعرف رجالات طواهم الموت قبل ان يسجّلوا حتى ذكرياتهم وانطباعاتهم وتجاربهم في الحياة التي هي مع التقدم في العمر ، لا تصبح فحسب ملك أصحابها وإنما ملك أجيال سابقة ولاحقة، سابقة بما تنطوي عليه من وضع الأمور في نصابها على الأقل قبل أن يطويها النسيان ، ويظلم فيها البعض أو يقيّم بما لا يستحق ، وملك أجيال لاحقة بما تمتلك من حق الاطلاع واستثمار معارف وقضايا ما كان لها أن تُعرف دون تدوين ذلك ، وفي الحد الأدنى الاستمتاع بما سبق .

هانذا أبدأ في كتابة ما عزمت عليه مراراً ولم اتابعه، كسلا أو انشغالا أو لا ادري بالضبط ، وآمل أن أكون جاداً هذه المرة وصادقاً مع نفسي، وتفاديا للملل فقد أبدأ في غير اتجاه من الكتابة ، وسأقتطع ساعات خمس يومياً لإنجاز أعمال يمكن نشرها بين دفات كتب .

لن أكون تقليديا في كتابة عمل أدبي ما ، ربما كان ذلك نوعاً من القصة القصيرة أو العمل الروائي أو قصص الأطفال أو الذكريات ، ليس مهما نوع ما سأكتب أو تصنيفه ، فذلك ربما هو من اختصاص النقاد ، وعلى اي حال سأكتب في غير مجال في آن ، فالكتابة في السياسة حرفة ومهنة ومصدر رزق وهواية وموقف وسُوسَة من الصعب جداً علي النكوص عنها .

كان أقصى ما اذكره للون البحر سنة 1948 أو 1947، وكان لي من العمر وقتها 4 سنوات أو دونها ، عندما كان والدي الشيخ عبد الرازق يعود بي من مدينة حيفا الى قلقيلية ، ويبدو أنني صحوت من تعسيلة جميلة على لون البحر الأبيض المتوسط بلونه الأزرق الصافي ، ما جعلني لا أنسى تلك اللحظات أبداً كانها الأن، وكانت المرة الثانية التي اشاهد فيها لون بحرٍ سنة 1963 عندما كنت عائدا وزملاء في مركز الشباب الاجتماعي بالزرقاء ، من دورة  شاركنا بها في بيت ساحور ، حيث جلسنا في استراحة باريحا على مشارف البحر الميت ، كانت الزرقة هي الشيء المشترك الذي يكاد يكون وحيداً بين المشهدين ، ما رسخ في ذاكرتي المشهد الأول ، وجعلني أحن اليه أكثر .

المرة الثالثة التي شاهدت فيها البحر كانت سنة 1970 ، عندما كنت طالبا في المعهد الإعلامي بدمشق ، حيث نظمت إدارة المعهد الذي كان يديره عبد الله حوراني ، رحلة الى تدمر وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس ، حيث شاهدت البحر الأبيض المتوسط للمرة الثانية ، وتكررت مشاهدتي له مرارا بعدها سواء في سورية أوتونس أو الجزائر .

أذكر أن زميلنا في المعهد أديب قوندراق أقنع أمين سر المعهد وقتها ؛ الطباع ، أن نزور بيتهم في الغاب ، وهناك وجدنا أسرته قد اعدت لنا طعام البط بالفريك ، كان طعاما لذيذا فوق ما يمكن ان يتخيل على الأقل بالنسبة لي ، ولم  يتيسر مثله بط بالفريك من بعد . 

حكايات البحر المتوسط تذكرني برجل من عرب 1948 من آل الزعبي تعرفت عليه ، حدثته عن ذكرى عشتها في مدينة حيفا قبل احتلالها مع شقيقتي الكبرى شريفة ، حيث هربت من الاستحمام صاعدا درج جيرانها الملاصق لبيت شقيقتي ، التي نادت على الجارة للإمساك بي ، وعندما خرجت الجارة ، هرولت الى الشارع العام ، لأجد نفسي بمواجهة حافلة ركاب لا أخال أنه كان بيني وبينها أكثر من متر أو مترين ، وإذا بيدين تمسكان بي من الخلف وتحملني الى بيت شقيقتي ، كان الرجل زوج شقيقتي ،

لا أذكر أن شقيقتي اعادتني الى الإستحمام ، لكن أذكر انني قذفت زوج شقيقتي بفرشاة أحذية ، وثم ذهبت معه الى سوق خضار وفواكه ، تذكرته تماما عندما جئنا الى الزرقاء مهاجرين سنة 1952 ، قادمين من طولكرم، فقد كان ثمة شبها بين السوقين .

سألني الصديق الزعبي الذي كان يخاطبني بحبور ( ابن العم ) إن كنت أذكر اسم الحي في حيفا مبدياً استعداده لأن يريني البيت الذي كنا به في مدينة حيفا وما حل به ، لو ذهبت الى هناك وتذكرت اسم الشارع ، متعهدا بإيصالي إلى جبل الكرمل ومشاهدة ميناء حيفا من علٍ.   

لقد عرفني الصديق الزعبي على قريب له ، قال أنه يحدث أن يسهر مع آخرين من غير أبناء جلدتنا، حتى وقت متأخر من الليل ،وفي اليوم التالي نتأخر عن الالتحاق بأعمالنا ، لكن الآخرين لا يتاخرون، وعندما نبرر تأخرنا ، يجيب شركاء السهر ( ما احنا كنا سهرانين معا ).

أعجبني النقد الذاتي وآلمني ، لم نحن كذلك .

بالأمس أبلغني متعهد عمل محدد ، أنه سيسلمني ما اتفقنا عليه في الساعة كذا من اليوم المحدد تجاوزت الموعد الساعة بل الساعات والأيام دون أن يتصل أو يعتذر أو يسلم العمل المتفق عليه، والمشكلة أن هذا وغيره كثر لا يخجلون من تحوير الاتفاق عليه وتقديم المبررات الكاذبة المتتالية ، بل ومحاولة القاء اللوم عليك . 

هل يمكن للأمم التي لا تحترم الوقت ، والتي لا يتمتع أفرادها باالصدقية أن تنتصر ؟!

[email protected]

قد يعجبك ايضا