( الكورونا ) ، و تعميم النموذج الإمبريالي على العالم، أو تقهقر الإمبريالية العالميّة إلى “الإمبرياليّات القوميّة و الوطنية” ( 1 من 2 ) / د. بهجت سليمان

لِنَسْتَعِدّ لمواجهةِ تَحَدِّيَاتِ العَشْرِيَّة الجديدة / د . بهجت ...




 د . بهجت سليمان ( سورية ) – السبت 11/4/2020 م …

1▪ يربط البعض مظاهر مختلفة للتاريخيّة الإمبريالية ، الحديثة و المعاصرة ، بعضَها بالبعض الآخر ، و منها الاتّساع و الانتشار و التّحكّم و الإخضاع التّدريجيّ للعالم في مناطق النّفوذ متوالية الاتّساع و التّوسّع ، و القوة المباشرة و السيطرة ، و المال المعمّم بالشّركات العالميّة عابرة القوميات و الحدود ، و كذلك نشر الأمراض و الأوبئة و الإتجار بالأدوية ، و كلّه في سياق ” الظّاهرة ” الإمبرياليّة التي لم تعد مقصورة على قوة دون أخرى من قوى العالم المهيمنة ، المرتبطة ، حصراً ، بقومية أو أمة أو دولة ، بحيث أنّ النّموذج الإمبريالي التّقليديّ ، نفسه ، الغربيّ و الأميركيّ ، يدخل اليوم في شكل آخر من نشره تداعياته الكوكبية ، إذ تتعدد جغرافيا مراكز الثّقل و تُبدي الهويّات القوميّة الإمبريالية العالمية ، استقلاليّات و انفصالات موضوعيّة ، أسبابها كثيرة ، و ذلك بمفهومها الأساسيّ الذي يتأسس على أنّ الطبيعة البشرية التي تميل بجوهرها إلى التّوسّع و الاحتكار و الهيمنة و استثمار الآخرين ، إنّما تُبدي في مواعيد ليست محدّدة ، ميلاً إلى استعادة “الهويّات” المحلّيّة الوطنيّة و القوميّة ، بصيغة العالميّة ، مع ملاحظة ما قدّمته الإمبرياليّة الغربيّة – الأميركيّة من خبرات و تجارب لتعميم نموذجها السّياسيّ و الاقتصاديّ و الأيديولوجيّ على العالم ، سواء منه ما دخل طور التّنافس الإمبرياليّ مع الإمبرياليّات الغربية التّقليدية ، أو ما احتلّ منه أو عزّز دوره التاريخيّ المهمّش و الضّعيف في صورة الذّلّ و التّراجع المستمرّ ، ذاتيّاً و موضوعيّاً ، و الخضوع و الاستكانة و انتظار المصير.

 

2▪ و يأخذ الشّكل المعاصر لتعميم الإمبرياليّة الغربيّة و الأميركيّة لنموذجها ، شكلاً عولميّاً مزدوجاً ، أصبح واضحاً و مألوفاً. الأوّل منه ما قلناه بالنّسبة إلى تعميم النموذج الإمبرياليّ في السّوق التّنافسيّة العالميّة على “القوة” و “العنف” ؛ و الثاني منه ، و هو الظّاهرة العالميّة اللافتة الجديدة ، و المتمثّلة في انتقال الإمبرياليّة إلى مستوى الإطار “الوطنيّ” الدّاخليّ في غالبيّة دول العالم التي كانت طرفاً للممارسات الإمبرياليّة غير القوميّة ، فيما كانت هذه تحتل قوى المركز العالميّ ، في عودة ارتكاسيّة هي من طبيعة مبدأ التّزاحم و المنافسة ، و على أكثر من شكل جديد “وطنيّ” ، و بصورة خاصّة في شكلين رئيسيين جزئيين و انتشاريين في عودة الإمبرياليّة إلى عصرها ” القوميّ ” ، أو في تحوّل الدّول الهامشيّة إلى قوى سياسيّة منعزلة عن مجتمعاتها و شعوبها ، و تلزيم أعمالها الاستثماريّة لقوى داخليّة تمارس خنقها لشعوبها و مجتمعاتها و الأفراد ، و على حسابها الخاصّ ؛ و ” الشّخصيّ ” ، في ارتباطها الكولونياليّ بالمركز الإمبرياليّ العالميّ الأميركيّ ، أو بالمراكز العالميّة الإمبرياليّة ” القوميّة ” الجديدة ، و قد تعدّدت هذه ” المراكز ” في إطار المنافسة و توازع العالم.

3▪ في إطار ذلك من صور التّنافس الجديدة و غير المعروفة حتّى الآن ، و بمختلف متغيّراته ، يأخذ الاستثمار في ” البشر ” أبعاداً معاصرة بعيدة عن التّصوّرات المعروفة و المحددة في الاستثمار ، متجاوزاً حقوله التّقليديّة في الاقتصاد و المال و السّلاح و الإعلام، نحو حقول جديدة تُبدي المعطيات أنّها مواضيع مُربحة تلبّي شهوة الاندفاعة في السيطرة و الرّبح و التّموّل، في إطار الاستثمار في “الأمراض” الشّاملة و الكوارث البيئيّة و الأوبئة، بحيث صار هذا الاتّجاه مبدأً فعليّاً لنشر الوسائل الإمبرياليّة الأكثر حداثة و معاصرة في الإحاطة الأوسع للاستغلال.

4▪ هنا ، لا يهمّ الإطار الدّوليّ و الاجتماعيّ العالميّ في أن يكون أيّ جزء منه أو أيّ جغرافيا و أوطان ، كوسط لانتشار الأفكار الجديدة ، على اعتبار أنّ الأهمّ هو أن توفّر الدّول و الأمم و المجتمعات و الشّعوب و الأفراد السّاحة المثلى بنظر التّحدّي أو “الاستثمار” الجديد ، و هو ما يحصل اليوم ، كمثال – فقط – على ما نقوله ، من عموميّة هذه الجائحة الفايروسيّة التي تتحوّل بالتّدريج إلى كارثة عالميّة مباشرة.

 

5▪ و لأنّ ” النّظام العالميّ ” الجديد متعدّد المنافع المتبادلة و الأهداف ، لا يهتمّ بالمنظومة الحاكمة عالميّاً على المستوى الشّخصيّ أو مستوى الأفراد المنفّذين لصيغة ” النّظام ” و المستثمرين مباشرة فيه ، و إنّما يكفيه أن تستمرّ ” المنظومات ” ، فإنّ الأخلاق الإمبرياليّة تتمتّع بأفق زمنيّ و تاريخيّ يجعل التّضحية ممكنة بأيّ من “الأشخاص” المنفّذين لأهدافهم ، الّلهم في سبيل تحقيق الأهداف البعيدة لنظام الإحكام و التّحكّم العالميّ ؛ و لا يهمّ بعدها الحصيلة الفقديّة للأرواح و البشر ، طالما أنهم يرون أن ” الأرض ” ستتوازن بعد حين و لو بتضحيات كارثيّة في إطار ما يُروّج له ، في هذه الجائحة المستجِدّة ( كورونا ) ، ممّا بدأ الاستعمال الأخلاقويّ يتدرّب عليه و يحوّله إلى إمكانيّة نظريّة يليها تطبيق عمليّ ، في ما يُسمّونه ” مناعة القطيع ” ، و هي الاعتماد على نهايات ” الانتقاء الطّبيعيّ ” بوضعه حدّاً لهذه الكارثة ، عن طريق حذف الضّعفاء الذين لا يصمدون بمناعاتهم المحدودة ، في ما سيبقى من البشر من هم قادرون على التّجاوز الذّاتيّ و المناعيّ الطبيعيّ ، للعدوى التي ستتكفّل هي بالانتقاء للمرشحين للموت ، تاركة المتبقين للأقدار و الطبيعة و المناعات الفرديّة في المآل الأخير.

6▪ تبدو هذه الصورة قاتمة في المستوى الأوّل ، وقد تبدو مبشّرة في المستوى الثّانويّ ، حتّى هذه اللحظة المبهمة ، و كذلك منفتحة خارج إطارها على احتمالات غير محصورة من المستقبل الوشيك الذي تدخل فيه الأرض اليوم ، و مهما كانت النّتائج سوداوية بالنّسبة للجنس البشري ، كمرحلة أولى ، في إطار الاختيارات المحضّرة لها ، سلفاً ، في مشاريع الأفكار الجهنّمية التي تنتظرنا ، و نحو مستقبل يُملى علينا ، يبدو فيه المقرّرون متعدّدون ، هنا و هناك و هنالك ، و في كلّ مكان من محميّة الإمبراطوريّة الإمبرياليّة المعاصرة و التي ينتمي إليها البعض المعروف ، بينما ينتمي أيضاً إليها قوى و أشخاص في أدوار مشتركة ، و غير معروفين.

7▪ إنّ سير البشريّة في هذا الطّريق هو ” القدر ” الوحيد الذي أفضى إليه اختيار ” الأقوياء ” لممارسته على ” الضّعفاء ” ، و هو ، و لأنه اختطّ له طريقاً مُكلفة ، على جشعها و توحّشها و ردعها المتبادل ، غير قادر بعد الآن على تغيير وجهة سيره ، و سوف يكون أمامه طريق وحيد للاستمرار ، و هو طريق المزيد من التّشبّث بالمواقع و الأفكار الجانحة و المصالح ، و اضطهاد البشريّة المرحليّ ، و ربّما اختصارها أو اختزالها الكمّيّ ، و هو أحد أفكار و أهداف الإمبرياليّات المعاصرة ، على تعددها في المنظومات العالميّة ، و على مستوى الدول و الأوطان ، و هذا أمر مستجدّ أيضاً في سياسات الدول العالميّة الممارسة مع شعوبها بسريّة و جشع ماليّ و إتقان.

8▪ ويمكن أن نتثبّت تاريخيّاً من حقيقة فكرة هذا ” النّظام ” ، على المستوى الوبائيّ الموظّف لأغراض ” أبعدَ ” ، منذ العام 1342 م عندما أبحر ” تُجّارٌ ” من ميناء ( كريميا ) على ” البحر الأسود ” ، الذي كان موبوءاً بالطاعون إلى أحد الموانئ الإيطاليّة ، لينتقل الطاعون إلى ( إيطاليا ) و منها إلى ( إنجلترا ) ، حيث تكرّر ظهور الطاعون في صورة أوبئة استمرت لمدة ( 400 ) سنة ، و منها انتقل الطاعون مجدّداً إلى جنوب البحر المتوسط ليهاجم ( مصر ) عدة مرات منذ ذلك التاريخ حتى القرن التاسع عشر ، ما أدّى إلى تناقص كبير في عدد السّكان ، الأمر الذي يلقي الضوء مبكّراً على ظاهرة الاستعمار و الإمبريالية و أدواتها الاقتصادية و القمعية بالعنف المُبتَكر و انتشار الأوبئة ، في إطار ما حققته الإمبريالية في صراعها الدولي للسيطرة على ثروات إفريقيا و آسيا و الأميركيّتين بنقل أمراض جديدة ، منظّمة ، انتشرت بصورة أوبئة إلى شعوب القارات عن طريق التّجارة الملغومة أو الغزو العسكري المباشر أو تجارة العبيد ، أو عن طريق غير مباشر في ما كان يُدعى ” التّنمية ” ، و هذا خليط من تسويغ تفكيك تركيب نظم الأسرة التقليديّة و أنماط العادات و التّقاليد التي أسهمت طويلاً في الحمائّية الطبيعيّة للبشر.

9▪ في إطار تأسيس و نشاط ” شركة الهند الشّرقيّة ” في الهند ، كذراع أخطبوطيّ استعماري شامل و متعدّد الأهداف للإمبراطوريّة البريطانيّة الاستعماريّة في طورها الإمبرياليّ المبكّر ، فقد ظهر وباء الكوليرا في الهند عام 1817م ما أدّى إلى وفاة ( 25 ) مليون إنسان آنذاك ، لتصل الجائحة إلى ( انجلترا ) في ما بعد بحلول عام 1831م ، ما أدّى فيها إلى وفاة 130 ألف إنسان ، لتتعرّض بعدها إنجلترا إلى خمسة أوبئة كوليرا في القرن التاسع عشر نقلها إليها موظّفو إدارة الاحتلال البريطانيّ و القوّات العسكريّة البريطانية.

10▪ الأمر نفسه صنعه الغزو الإمبريالي بالشعوب الأصليّة للأميركيّتين ، ما أدّى إلى انقراض 90% من المواطنين الأصليين ، حيث انقرض عدد سكان الأميركيّتين في عام 1630م إلى 7% فقط من السّكان الأصليين الذين كانوا موجودين قبل عام 1524م.

11▪ في ما بعد ، لم يرعوِ النّظام الإمبرياليّ العالميّ عن نهمه للسّيطرة و الاستغلال ، و لو كان ذلك في أكثر من شكلٍ بائس و قذر ، ليسَ على الحصر بنشر الحروب العالمية و الأوبئة و الجائحات الكارثيّة التي تتّصف بالشّمول . و هو ما يزال إلى اليوم قائماً على هذه الأدوات الوسخة و لو أنّه طوّر و يطوّر باستمرار أساليب تنفيذ المخططات نفسها الهادفة إلى استعباد العالم و مقدّرات هذا العالم.

غير أنّ فارقاً نوعيّاً و كمّيّاً قد دخل في هذه ” المظاهرة ” الكونيّة ، و هو اتّساع رقعة الجشع و ولادة قوى و دول عالميّة عظمى جديدة ، دخلت ” النّظام العالميّ ” المتوحّش ، و ربّما في إطار مواجهة الخصوم بأدوات هؤلاء الخصوم ، نفسها ، و بالتالي دخول ” اللعبة ” العبثيّة العالميّة من بابها المعروف و التّقليديّ و بأقدام مدجّجة بالاستهتار بمصير عالمنا ، اليومَ ، الذي سينسحق في أضعف حلقاته الدّوليّة ، في الدّول الضّعيفة و الفقيرة ، بعد أن انضمّ إليه – بوصفه نظاماً عالميّاً شاملاً – “حكام” الدّول الهامشيّة و الكليلة ، فصار “الهدف” العالميّ موجّهاً بالعنف و الوحشيّة و البدائيّة المعاصرة ، ضدّ الشّعوب و المجتمعات في كلّ مكان في الأرض ، و لن يسلم من ذلك فئة أو شعب أو جماعة أيّاً كانت هويّتهم الوطنيّة و القوميّة ، في تعميم إمبرياليّ جديد للممارسات الشّيطانيّة و تحقيق الأفكار و الأهداف الموضوعة بـ”تأنٍّ”.. للقضاء على “الفائض” العالميّ من البشريّة البريئة ، لتحقيق المزيد من ” الرّخاء ” الإمبرياليّ لأصحابه الحصريين ، و أذيالهم من ” الحكّام الوطنيين ” و ” أمراء الظّلام” (!) ، بأفكارهم السّوداء.

12▪ في إطار هذه ” الّلوثة ” الماليّة الأسطوريّة العالميّة المعاصرة ، فإنّ من المشكوك فيه أن تتغلّب أيّة فكرة للتّعاون ، في المدى المُقَدَّر و المنظور ، ما بين القوى الإمبرياليّة التي أججتْ سُعارَها وقائع هذه “اللعبة ” في إطار المواجهة التي لا بدّ منها.. بالنّسبة إليهم ، و هم ماضون في منافستهم ” التّيسيّة ” الحمقاء ، إلى مستقبل يكاد يكون مجهولاً ، مع أنّ أسياد هذه ” اللعبة” يعتبرونه ” مضموناً ” ، و على أيّ وجه من محصّلاته الأخيرة.. على نحو ما قدّمناه من تصوّراتهم و دوافعهم و أهدافهم في الاستيلاء على أنفاس ساكني العالم ، بالضّرورة الأدائيّة السّلوكيّة ، أو بلا رحمة و لا حياء.

قد يعجبك ايضا