أدب المقاومة في الثقافة السياسية / د. فايز رشيد

 

د. فايز رشيد ( الأردن ) الثلاثاء 11/8/2015 م …

السياسة تفرض ذاتها على مناحي الحياة المختلفة، وبالتالي وفي الموضوع المحدد لا يمكن للأديب أو المثقف أن يبتعد عن السياسة، حتى لو أراد ذلك؛ فالخلاص من الإشكاليات الكبيرة، والصراعات المذهبية والطائفية والإثنية التي تنخر جسد أكثر من بلد عربي، إضافة إلى أشكال أخرى من الصراعات تصل إلى حدود التناقض التناحري في الكثير من الأحيان، وصراعات مختلفة تتخذ أشكالاً متعددة، مرهون بإطلاق المشروع النهضوي العربي.

إن هذا المشروع يعتمد في تحقيقه واقعاً ليس على السياسيين العرب فقط، وإنما على كل المثقفين والأدباء، بوصفهم الأداة المهيّأة لحمله على كواهلهم، والانطلاق لتنفيذه؛ولذلك، ولكي تؤتي الثمار أكلها، لا بدّ من استعراض واقع المثقف العربي في ملامحه السياسية الرئيسة، ذلك أن المثقف النهضوي العربي الأصيل، ومن خلال قراءة الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبنيوية، يصاب بحالة من الانفصام بين الحقيقة والشكل المُتصوّر أو المُتخيّل في الذهن، لما يترتب أن يكون عليه هذا الواقع، هذا في الوقت الذي تقتضي فيه عملية التغيير المأمولة، دقة استعراضه أساساً راهناً ومستقبلياً لا بدّ من الاستناد إلى كل عناصره الإيجابية الكامنة في الذهنية الجماهيرية، التي يمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها. وذلك من أجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي عاملاً أساسياً وشرطاً رئيساً لإنجاح المشروع.

حتى اللحظة، فإن تعريفاً محدداً للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقاً من الزوايا العديدة التي يتمّ النظر من خلالها إليه، وانطلاقاً من رؤية دوره، سواء بالمشاركة في عملية التغيير السياسي، أو في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون الذي أطنب في استخدام مفاهيم، مثل «أصحاب القلمط و»الفقهاء«و»العلماء” وقد أفرد فصلاً كاملاً من مقدمته، أكد فيه أن العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها.

ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع، ما ذكره غرامشي في تعريفه لمعنى المثقف، منطلقاً مما هو خاص بنمط الإنتاج، إذ إنه يراه، من خلال وجوده الاجتماعي. وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص، إلى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند المفكر الإيطالي.

غرامشي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير، وهكذا دواليك. ووفقاً لجمال الدين الأفغاني، فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الإنساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته، على قاعدة التمتع بالروح النقدية، واستخدامها في مراجعة الماضي. والمثقفون مرتبطون في نتاجاتهم أيضاً، بمدى معايشتهم للواقع، من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه. واجب المثقف في متغيرات ما بعد العولمة، التصدي للعولمة الثقافية، التي لا تستهدف الحوار بين الثقافات، بل تسييد الثقافة الغربية، لأن منظومة علاقاتها هي التي أثبتت كفاءتها، وفقاً لفوكوياما، ووفقاً لصراع حضارات هنتنغتون، بالطبع دون التمترس وراء شعارات مثل: دعوى المحافظة على الأصالة التراثية، وإغلاق العيون عن كل جديد، بل يمكن المواءمة ما بين الأصيل القديم والبعض من العناصر الإيجابية الجديدة.

كذلك فإن العلاقة بين الأدب، بمختلف فروعه، والسياسة، هي علاقة عضوية حميمة، إذ لا يمكن فهم الأدب وفق الفهم الأفلاطوني له «الفن للفن»!الأدب ومنذ بلزاك وفلوبير وكل المدارس النقدية، مروراً بديستويفسكي وليف تولستوي وغيرهما، وصولاً إلى الواقعية الاشتراكية، أرسى دعائمه ورسالته الاجتماعية في الحياة، بمدى معايشته للواقع. وهنا نتساءل: أيمكن للأدب أن يكون حيادياً؟ إذا كان المطلوب أن يكون كذلك، فما رسالته الإنسانية؟ هل يمكنك أديباً أن تتحلى بالحيادية تجاه ما يمسّ قضيتك الوطنية سلباً؟ كل هذه الأسئلة وغيرها قضية في غاية الأهمية.

من أجمل من كتب الأدب السياسي: لويس أراغون، بابلو نيرودا، مكسيم غوركي، ناظم حكمت، لوركا، نيكوس كازانتزاكي، غسان كنفاني (الذي كانت في 8 يوليو/تموز الماضي، ذكرى اغتياله، عن طريق تفجير سيارته)، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد.

ظلّ كل هؤلاء خالدين، أكثر من أي سياسيين، سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم، وذهب الذين أعدموا البعض منهم وأسيادهم، إلى مزابل التاريخ. لوركا كان يلقي شعره في لحظة إعدامه. بابلو نيرودا وعندما جاء قطعان بينوشيه (بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي)، ليفتشوا بيته، بحثاً عن السلاح، طردهم وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. كازانتزاكي يقول عن المقاومة، وعلى لسان الراهب ياناروس، في رائعته «الإخوة الأعداء»: بعد أن ذهبت كل دعواته إلى الإخاء والمحبة والسلام، من قضية إخراج المحتلين من اليونان، وصل إلى نتيجة مفادها: «أيتها الفضيلة تسلّحي، أيها المسيح تسلّح، إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان إنجيل السلاح». يقول محمود درويش «هزمتك يا موتُ الفنونُ جميعها، هزمتك يا موتُ الأغاني». وهكذا يكون الارتباط بين الأدب والسياسة.

 

قد يعجبك ايضا