الاغتراب ( دراسة مقتضبة ) / د. عدنان عويّد

Image result for ‫عدنان عويد‬‎

د. عدنان عويّد ( سورية ) الثلاثاء 2/10/2018 م …




     للاغتراب دلالاته الجغرافية والاجتماعية والروحية والأخلاقية والفلسفية, فإذا كان الاغتراب في دلالاته الجغرافية هو هجرة الإنسان عن وطنه تحت قهر أية ظروف سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية. فإن الاغتراب أو الغربة الاجتماعية تقع تحت مظلة ظروف علاقات اجتماعية يفتقد فيها التوازن الاجتماعي, إن كان من الناحية الطبقية أو العرقية أو الطائفية. أما الغربة الأخلاقية فنجدها تتجلى في اتجاهين: إما أن يأتي الاغتراب سلباً حيث يعيش الفرد حالة من الاغتراب الأخلاقي عندما يمارس من الناحية العملية والفكريةً قيماً لا تنسجم وقيم المجتمع الايجابية السائدة, وهو ما يسمى بـ (الانحراف) الأخلاقي, حيث يؤدي هذه الانحراف إلى رفض المنحرف من قبل المجتمع, وبالتالي تحقيق غربته. أو يأتي الاغتراب ايجابياً من الناحية الأخلاقية بكل تجلياتها, حيث يقوم الفرد هنا بتبني قيماً ايجابية في فكره وممارسته, لم يزل المجتمع بعيداً عنها أو لم يصل في علاقاته الاجتماعية إلى مرحلة تتقبل هذه القيم الجديدة, والمغترب في هذا الاتجاه ينطبق عليه صفة (المتمرد), والمتمردون هم الأكثر قدرة على الابداع والتجديد وتقبل الحداثة. أما الاغتراب الفكري والروحي, وهو الاغتراب الذي يشعر فيه الإنسان بداخله, بأنه لا ينتمي للعالم أو الواقع الذي يعيش فيه لأسباب كثيرة, قد تكون جملة حالات الاغتراب التي جئنا عليها من جهة, ولكن يظل للعامل الأيديولوجي / الفكري الذي يمارس من قبل قوى سياسية او دينية على مسح عقول الأفراد من خلال زرع قيم ومفاهيم على درجة عالية من التجريد الفكري يشعر المرء بعد ذلك, أن الواقع الذي ينتمي إليه بعيداً عنها, وخير من يمثل هذا الاتجاه على سبيل المثال لاالحصر, هم المتصوفة الذين يجاهون أجسادهم وأرواحهم ويقمعونها كثيراً في واقعهم المعيوش, الذي يرون فيه عالم الفساد والرذيلة ولا بد من تنقية هذه الأجساد والأرواح من أدرانها الحياتية, وتصفيتها من الشوائب التي علقت فيها من هذا الواقع بغية الوصول إلى الجوهر الإنساني الذي يعتقدون, وهو التحامهم بالمطلق (الله). أما الاغتراب الاقتصادي, فهو التنازل عن الملكية الشخصية أو العامة لصالح أفراد أو قوى اجتماعية بالقوة, وهذا الاغتراب ناتج عن حالات التناقض الصراع الطبقي في المجتمعات والأنظمة الاستغلالية. أما الاغتراب الفلسفي فيشير إلى غربة الإنسان عن جوهره بشكل عام وتنزله عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه.

     إن الاغتراب في سياقه العام إذاً, هو نقص وتشويه وانزياح عن الوضع الصحيح الذي يمثل الحالة الإنسانية في إيجابياتها.

     وقد بدأت تظهر مقولة الاغتراب مع ازدياد حدة التفاوتات الطبقية مع بداية النصف الثاني للقرن التسع عشر, عند كل من هيجل وماركس, ووجدت بعض سماتها في فلسفة هوبز وروسو ” ويبدو أن الاغتراب بوجوهه المتعددة يجد له مكانا في كتاب “ماركوز” (الإنسان ذو البعد الواحد) حيث يأتي الاغتراب السياسي عنده على درجة عالية من الأهمية  لما يمثله مفهوم الانغلاق أو الاغتراب السياسي من دغمائية وانسداد في الأفق أمام الإنسان من خلال منعه المشاركة في تقرير نمط حياته وصنع مستقبله.(1)

     إن للاغتراب السياسي انعكاساته الواضحة والقوية على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي, وخاصة عندما يصبح “الاقتصاد وشيج الارتباط بنظام عالمي تقرره الحكومة المسؤولة عن إدارة أمور البلاد, ففي مثل هذا الارتباط مع النظام العالمي, تفقد الدولة برمتها قرارها الاقتصادي والاجتماعي, ويعيش المواطن حالات اغتراب يشعر من خلالها أن مصيره ومصير بلده ليس بيد بيد أحد من القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع, ولا حتى حكومته العتيدة التي عوّل عليها مصيره, فالاغتراب هنا يحقق حالتين مندمجتين من الاغتراب: الأولى اغتراب الفرد داخل مجتمعه, والثاني اغتراب الفرد والمجتمع والدولة تحت مظلة النظام الاقتصادي والسياسي العالمي, هذا النظام الذي ارتبطت به الدولة بجملة من التحالفات العسكرية والاتفاقات النقدية والمعونات التقنية وخطط التنمية وغيرها التي قد تصل إلى صندوق النقد الدولي وصندوق البنك الدولي, وما يفرضه هذان الصندوقان من نظام مالي تحت إسم (النوايا الحسنة), تحت مظلة شروط عمل اقتصادية مجحفة بحق المواطن, ويجب على الدولة تطبيقها في سياساتها المالية بشكل خاص. والثانية: الاغتراب السياسي على مستوى الدولة ذاتها حيث يتحقق الاغتراب هنا على الفرد والمجتمع معاً من خلال ما تقره سياسات الحكومات القائمة, والتي تأتي قراراتها محكومة دائماً بمصالح هذه القوة الحاكمة من جهة, وبمصالح النظام العالمي الذي دخلت فيه من جهة ثانية. فسياسة الانفتاح الاقتصادي على مستوى الداخل تساهم كثيراً في ضرب مقوما الاقتصاد الوطني والحوامل الاجتماعية الفاعلة فيه, إن كانت تابعة لاقتصاد الدولة أم للاقتصاد الخاص. فمع سياسة الانفتاح هذه وسياسة المصالح الأنانية الضيقة للطبقة الحاكمة وحاشيتها, يعم الفقر والبطالة وينتشر الفساد, وتغلب الانتماءات التقليدية من عشيرة وقبيلة وطائفة, على حساب الانتماء للوطن. وبالضرورة ستغيب في مثل سيدة هذه المرجعيات التقليدية فكرة المواطنة, ليتحول المجتمع وافراده إلى رعايا ليس لهم من أمرهم شيئا, فهناك من هو وصي عليهم يقرر ما يراه هو مناسباً في سياسات الدولة وليس هم. وحتى لو كان هذه النظام السياسي الشمولي يعمل من باب ذر الرماد في العيون على خلق معارضة سياسية له تحت مسميات كثيرة, إلا أننا نجد حالات التواطؤ بين المعارضة والقوى الحاكمة التي توجد على هرم السلطة, حيث يتجلى هذا التواطؤ واضحا سواء في مجالات النقابات أو السياسات الداخلية للدولة, بحيث يصعب التمييز بين برامج المعارضة وأهدافها وبرامج وأهداف القوى الحاكمة, نظرا للتماثل والتجانس. وهذا الاغتراب نجده بالتالي  على مستوى “الثقافة الرفيعة ” التي من المفروض أنها تخلق أفقا من الحلم والتحرر, لم يعد بإمكانها أن تقدم مثل هذا الحلم, لأنها انغمست بدورها في فضاء من السلم والاستكانة المعرفية واللامبالاة مع االنظام القائم فاتخذت شكل البضاعة, فالفن والأدب والكلمة تتحول إلى بضاعة وتجارة. (2)

    في سوق نخاسة السلطة الاستبدادية. يتحقق الاغتراب إذن على جميع الأصعدة, ويبلغ أشده بفقدان الأدب والفن والإعلام دورهم المتمثل في محاربة أو نقد الأنظمة الشمولية وفسادها, أو رسم حلول لمشكلات الواقع المعيوش وتجاوزه نحو مستقبل أفضل. فعلى هذا الأساس يصبح دور الفن والأدب دعم النظام القائم, وتبرير تناقضاته وفساده, وما يحققه للفرد والمجتمع من حالات اغتراب وتصحر وجودي وانسحاق وفقدان للأمل. وها هي “الدعاية في إعلام الكلمة أو الصورة أو الصوت, تصبح مهمتها الترويج للماضي وإعادة انتاجه فنياً عبر الدراما السينمائية والتلفزيونية, أو عبر الشعر والقصة والرواية والثقافة الدينية. وحتى اللغة أصبحت يدورها امتثالية” فلغة هذا العالم هي لغة توحد وتوحيد تعكس الرقابات, ولكنها تصبح بوجه خاص هي نفسها أداة رقابة. إن هذه اللغة ذات طابع استبدادي رقابي تمنع تطور المعنى والبحث في المستقبل عن ذاتها, أي ذات حواملها الاجتماعيين, نظرا لأنها تخلق صورا ثابتة ما ضويّة تفرض نفسها فيها. لتنتهي بالضرورة إلى حالة من الاغتراب الكلي يعيشها الإنسان في هذه الدولة الشمولية الاستبدادية .

  • كاتب وباحث من  ديرالزور سورية

[email protected]

1 –  للاستزادة في هذا الموضوع راجع دراسة : سلمى بالحاج مبروك الخويلدي – المواطن والإنسان ذو البعد الواحد – موقع حــركـــة التـجـــديـــد – تـونـس – الصفحة الاساسية – ثقافـة و فـنون – الاربعاء 9 نيسان (أبريل) 2008 .

2- المرجع نفسه.

قد يعجبك ايضا