أم بكري أول امرأة توزع صحف الحزب الشيوعي في الشاغور ( فلسطين )

 

أحمد علي طه ( فلسطين ) الجمعة 23/9/2016 م …

 (1)

في الوقت الذي كانت المرأة تقضي يومها في المطبخ تهيئ الفطور لزوجها وابنائها وبناتها في الصباح الباكر، وتحضر الغداء والعشاء كما فعلت في الصباح، وتكنس وتنظف بيتها في الداخل والخارج، وفي الاسبوع تغسل جميع ملابس اهل البيت، مرة او مرتين في لجن الغسيل الحديدي، وترقع الملابس الممزقة، حيث في ذلك العهد ما كان يعيب الفلاحين لبس الملابس ذات الرقع على البنطلونات او القمصان او الجاكيتات، ذلك لان اكثرهم يعيشون في مواقع الفقر المتنوعة. وقد صدقت المقولة المعروفة : الوضع الاقتصادي يقرر الوضع الاجتماعي مع ان الفقر مع راحة البال من العوامل التي تمد النفس بالأمن والعمر الطويل.

في تلك الايام وما قبلها من العقود والسنوات الطوال كان احد الشعراء القدامى يوصي الأم الاهتمام بتعليم ابنتها : استعمال المكنسة والابرة وطبخ المجدرة. كان يخاطبها :

سلميها ابرتِكْ والمكنسة وعلميها طبخ صحن مجدرة.

(2)

وفي الوقت “المميز” بالظلم والقهر والسلبطة على شعبنا الفلسطيني في المثلث والنقب والجليل، سنوات الحكم العسكري الصعبة، في تلك الحقبة التي كان من الصعب على المرأة العربية العمل خارج بيتها، او الانتماء لأي حزب سياسي وخصوصا حزبنا الشيوعي، في هاتيك الايام، تفتحت عيون بعض الاهل في البعنة، بل امتدت اكثر ابصار الناس في هذه القرية، على المرحومة ام بكري وهي توزع صحف الحزب في قريتها، وكان اكثر اهتمامها صحيفة الاتحاد. والجدير ان قسمًا من اهل القرية اعتبر التوزيع عملًا جريئًا، والقسم الآخر اعتبره تعديًا على عاداتنا وتقاليدنا. بعض امن به وَمَجّده، وبعض كفر به.

وهي مع ذلك كله لم تعبأ بالغمز واللمز في بعض العيون، انما تابعت مسيرتها بعزم اقوى، توزع جريدة الاتحاد، وتزيد من المنتسبين لها اسبوعًا بعد اسبوع، غير عابئة بما قيل وما يمكن ان يقال.

وفي تلك الفترة التي كان عدد سكان البعنة لا يزيد عن الالف نسمة الا قليلا، والمتعلمون فيها اقلية ضئيلة محصورة في بيوت اخواننا المسيحيين، والبعض القليل من البيوت المستورة، كانت المرحومة توزع اكثر من ستين عددًا في كل يوم تصدر فيه الجريدة.

بينما في وقتنا الحاضر، رغم تزايد سكان البعنة اضعافًا…كمًّا وكيفًا…حضارة وثقافة، لكن قراء الاتحاد سابقًا “فيهم البركة” اكثر من القراء اليوم. رغم الطقس الدافئ حاضرًا، والعواصف والبرد سابقًا، أي رغم حرية التعبير في حاضرنا والعكس فيما مضى من ايام زمان.

(3)

أذكر في اواخر الستينات من القرن الماضي كنت ضيفًا معززًا في رحاب استاذي مدير مدرسة البعنة، المرحوم نعيم خوري.اثناء تواجدي عنده دخلت ام بكري، وناولته الجريدة وقالت له : يا استاذ انتهت مدة اشتراكك بالجريدة بدنا تدفع الاشتراك عن السنة القادمة.

لم يجبها الاستاذ : “بعدين” انما ناولها الاشتراك الجديد، وقال لها : المرة الجاي حضري لي الوصل.

كل الرحمات تتنزل عليك يا استاذنا. وطيب الله ثرى ام بكري.

فهي من حيث الكد والجد والجرأة والاسلوب الجذاب ” لم يُخلق مثلها في البلاد ” ولست ادري هل المرحومة كانت على يقين ان البيت الذي تدخله جريدة الاتحاد، بشكل متواصل وصباحًا تتوثق العلاقات المميزة والايجابية بين اهل البيت وارباب الجريدة ثم تصبح الجريدة فيما بعد حاجة ضرورية وحيوية لا غنى عنها في جميع البيوت العربية داخل الوطن الذي خُلقنا فيه وتربينا، ولا زلنا ندافع عنه حتى اللحظات الاخيرة من حياتنا ؟؟

وهل كانت تحس وتشعر ان الاتحاد مؤسسة تربوية وسياسية، ومشروع بناء لا للدور ولا للقصور وليس لبناء الجدران او تعبيد الشوارع انما لبناء الانسان ثقافيًا واجتماعًا وكي تتوفر فيه كل اشكال الوعي والمنطق ؟؟

قد يكون الجواب : نعم…بل نعم ونعم.. لأنها عقيلة شيوعي يتناغم مع المبادئ الشيوعية، وقضى الوقت الطويل عضوًا بارزًا في فرع الحزب الشيوعي في البعنة. وهي شقيقة المرحوم حسن بكري رحمه الله القيادي الشيوعي البارز في البعنة ومنطقة الشاغور والجليل.

وكيف ننسى ما قيل في الامثال : العرق دساس، ابحث عن الجذور وفرخ البط عوام. وهل يغيب عن البال ان والد المرحومة الشهيد محمد حسن بكري استشهد في عكا وقبره على بعد امتار من قبور الشهداء” محمد شمشوم وعطا الزير وفؤاد حجازي”.

(4)

على كل حال، ومع ان كل ما بذلته المرحومة من جهد تطوعًا وعن قناعة تامة في توزيع جريدة الاتحاد في قريتها البعنة، ولأنها لم تكن انسانة منعزلة عن قضايا وحقوق شعبها فقد كانت الرائدة والنشيطة في لملمة البعض من النساء لحضور بعض الاجتماعات الشعبية والخاصة التي تتعلق بأمور ونشاطات الحزب ومع هذا كله لم تيأس، ولم يعرف الملل جانبًا من نفسها يتوطن فيه. بل يومًا بعد يوم وشهرًا تلو شهر وسنة تنطح سنة، ألِف الناس طيبة قلبها وعذوبة لسانها فتضاعفت محبتها بين جماهير البعنة ونمت شعبيتها نموًا كبيرًا في حارات هذه القرية الجليلية المعروفة، وتحولت اللملمة الى جيش من النساء، غب الطلب لقائده العريق.

وليس من المبالغة في شيء، فقد اصبح حضورهن في هذه المناسبات من الواجبات واصبح للبعنة صيت وأي صيت، وخصوصًا في الدول الاشتراكية، تلك التي احتضنت العشرات من شباب القريتين البعنة ودير الاسد وسائر قرى الشاغور للتعلم في جامعاتها مختلف المواضيع مجانًا وتحولت هذه القرية من البعنة “وبس” الى البعنة الحمراء نسبة الى العلم الشيوعي الاحمر. ولم تكن المفاجآت في حصول قائمة الحزب “عباءة الاتحاد” في انتخابات الكنيست على علامة الامتياز بين القوائم في مجتمعنا العربي. واما في انتخابات المجالس المحلية، العربية، فقد كان لها الحظ الاوفر. وما عودتي بعد غيابها البعيد الا لأني اخدت جزئًا قصيرًا من مشوارها الطويل لتتعرف عليه جماهيرنا الجديدة.

فقد كانت المرحومة حاضرة بمختلف المناسبات، كالدفاع عن آلاف الدونمات التي صودرت من قرى الشاغور : دير الاسد، البعنة، مجد الكروم، نحف والرامة. ثم بنيت عليها مدينة كرمئيل تلك المنطقة الغنية بأفضل حجر بناء ومطابخ في بلادنا من اقصى الشمال حتى الحدود مع غزة.

وكان يعتاش منها في ذلك الحين آلاف العائلات العربية وهي في نفس الوقت من اخصب ارض لزراعة الدخان والقمح والشعير والبصل والثوم والبطيخ والشمام وهكذا.

(5)

وما اهتمامي بهذه المواد التاريخية التي لا يستهان بها الا لان الاجيال الحاضرة والآتية لا تدرك ابعاد المصادرة التي تعودت عليها السلطات الحاكمة منذ قيام دولة اسرائيل سنة 1948 الى زمننا الحاضر، ونواجهها نحن يوميًا مع طلوع الشمس حتى الغروب.

وتعني المصادرة ايها القارئ اللبيب ومن الاشارة تفهمُ ان الذين في ايديهم الحل والربط كما يقال، اصحاب القرارات امثال رئيس الحكومة نتنياهو، والذين سبقوه في السلطة منذ عقود وعقود، كل اولئك وهؤلاء متفقون على نهب اراضي العرب وتشليح ثيابهم عن ابدانهم ان صح هذا التعبير ما وجدوا لذلك سبيلًا.

ومن الخليق بالذكر، ان كل القرى العربية الاسلامية وتشمل طوائفها الدرزية والسنية وغيرها وكل قرانا العربية المسيحية، جميعها دون استثناء صودرت مئات آلاف الدونمات من اراضيها ولا زالت المصادرة مستمرة، وعُمرت وسكنها ويسكنها الملايين من ابناء الشعب اليهودي.

لم تتخلَّ المرحومة عن الكفاح مطلقًا ولم تفتها، بالاشتراك مع جيشها في مناسبات اول أيار ويوم الارض الخالد ويوم الام ويوم المرأة العالمي سواء في الناصرة او سخنين او كفر ياسيف او في الشاغور الشمالي. بل بقيت على ما تعودت كالذبالة تحرق نفسها لتضيء على الآخرين.

 (6)

نعم. كانت كالذبالة حرقت نفسها واضاءت على الكثيرين من ابناء شعبها. ولكنها كغيرها من الناس بعد كل تضحياتها، لم تدم لها الحياة… حلوها ومرها. فلن يظل الضاحك ضاحكًا، ولا الباكي باكيًا.ودوام حالٍ من المحال : هبطت لا تتقدم خطوة ولا تتأخر. فتوقف القلب عن العمل… لا شهيق ولا زفير.

ماتت ام بكري لكن روحها ترفرف في سماء الشاغور الى أبد الآبدين. ومات زوجها ابو بكري ومات اخوها حسن بكري والد الدكتور محمد بكري ومات اخوتها ياسين وابراهيم وصالح وقاسم وصبحي وجميعهم ابناء الشهيد محمد حسن بكري رحمه الله وادخله جنات النعيم.

ترى وماذا بعد؟ هل من يسد الفراغ بعد رحيلها من الجنسين الذكور والاناث في البعنة التي كان يطلق عليها البعنة الحمراء ؟

ما اشد حاجة البعنة الى امرأةٍ نشيطة، قوية، مدبرة “وملسنة” كأم بكري الباقية في الذاكرة بقاء الوطن وما احوج البعنة الى امرأة عضو في المجلس او تتبوأ مركزًا مهمًا تتعامل مع الكل ويتعامل الكل معها بموجب المنطق السليم ” بلدنا انا وانتَ بلدنا مش يا انا يا انتَ “.

حضور المرأة في المجلس أي مجلس عربي، واجب قومي ووطني يمثل اكبر شريحة في المجتمع. حضورها هام في جميع مؤسسات المجالس المحلية والبلديات والكنيست ومحلات العمل على اختلاف أنواعها.

يرفع الشعب فريقان اناث وذكور …………. وهل الطائر الا بجناحيه يطير؟

قد يعجبك ايضا