الجراد ( قصة ) / أسعد العزوني

أسعد العزوني ( الأردن ) – الإثنين 12/4/2021 م …




كان فصل الربيع بالنسبة للفلاحين كالقمر الذي يشق الغيوم وينير السماء والأرض معاً، ويهل عليهم بالنسمات الحلوة والشمس الدافئة التـي تعطي للأرض دفعة قوية ،تنقلها للأشجار ولتبدأ عملية التوريق والتزهير إيذاناً بقطف الثمار وتسويقها وسداد الديون المتراكمة التي تنتظر هذا الموسم.

وما أن يقف الناظر على أحد أطراف القرية وينظر يمينه أو شماله إلا ويرى الخرائط النباتية التي خرجت من الأرض لتعانق الشمس كأشجار اللوز والتين والرمان.

كانت تلك الخارطة الربانية تمثل فناً لا يستطيع احد تقليده سوى من أبدعه وجعله على تلك الصورة حيث الزهور البيضاء المطعمـة

باللونين الأحمر والأبيض كزهرة اللوز.

وكل تلك الروائع الربانية مزدانة بملخوقات نشطة تنتقل من هذه الزهرة إلى تلك تطمئن عليها وتأخذ من رحيقها معبرة عن فرحها بأصوات موسيقية تطرب السامعين وتوحي غليهم أنهم ليسوا في حقول ترابية بل هم في كرنفال طبيعي يبهج الأنفس، إضافة إلى القرويات اللواتي كن ينتقلن بيـن الأشجار يجتثثن الغصون الشاذة ويقتلعن النباتات الأرضية الزائدة لتبدو الأرض مخططة بإحكام يضفنه إلى دندنات النحل بأصواتهن الحنونة، فهذه المرأة تنـاجي ابنها الغائب وتلك الصبية تناجي حبيبها التي لا تـراه إلا بالسر خشية أن يذبحـها أهلها ويضعوا جثتها في البئر محواً للعار.

انتهت عملية التقليم والتشذيب وبدأ العد العكسي لمرحلة التثمير والقطف وكل في نفسه امل وأي أمل حيث أن الرياح أحياناً تجري بما لا يشتهيه أصحاب السفن ولم يعلم القرويون ما خبأة الدهر لهم، ففي صباح ذات يوم ظهرت عدة جرادات في أحد الحقول التي تقع على طرف القرية ويملكه أبو سليم الذي كان طريح الفراش يعاني من مرض لم يستطع الشفاء منه حيث أوكل حقله لامرأته المسترجلة التي كانت في حقيقتها تقدر بعشرة رجال إن لم يكن أكثر.

اكتشفـت أم سليم تلك الجرادات وأخبرت أهل القرية وحثتهـم على مساعدتهـا للتخلص من ذلك الشـر الذي لم يكن في الحسبـان

 

وتفاءلت خيراً ولم تعلم أنها سوف تحرث في البحر وقد ذهبت إلى إمـام الجامع ومختار البلدة واستاذها الوحيد حيث كانوا مجتمعين في ديوانية البلدة يشربون القهوة المرة كعادتهم ولم تخجل كعادة النساء القرويات وفتحت الحديث معهم وقالت مخاطبة إمام القرية:

سيدنا الشيخ، لقد وجدت عدة جرادات في حقلنا اليوم وإنني خائفة على المحصول أن تأكله تلك الجرادات وأرجو أن تساعدوني في القضاء عليها فأنا وحيدة كما تعلمون.

تنحنح الشيخ وحرك مسبحته ومرر بيده على لحيته البيضاء ” من غير سوء” وقال بعد أن حوقل وبسلم.

لك الله يا أم سليم وعوضك الله خيراً، فهذا الجراد إنما هو غضب من الله سبحانه وتعالى، ولا أدرى فقد يكون أبو سليم سامحه الله قد ارتكب إثماً في صغره وجاء هذا الجراد لينفذ إرادة الله، وما لك إلا أن تذهبي إلى الحقل وتصلي فيه لله ركعتين وترجعي إلى البيت وتحضري غداء دسماً لنا وتحميله إلى هناك لنقرأ بعض آيات القرآن عل وعسى أن يخرج الجراد من الحقل ويرد الله قضاءه.. وحاول الاسترسال ولكن أم سليم لم تحتملن حيث قالت له بلهجة الواثق من زوجها والمتهكمة على ذلك الإمام المزيف:

يا سيدنا الشيخ، أنت تعرف أن أبو سليم رجل صالح ولم يفعل سوء في حياتـه وأن الله رحيم لا ينتقـم من أمثال أبو سليم طريـح

 

الفراش، ثم إن الصلاة وحدها لا تذهب الجراد وكذلك ما فائدة الدجـاج المحمر هل يستطيع طرد الجراد؟ لا أظن ذلك وعلى كل ربما أنني أحمد مخطئة في فتح الحديث معك، وحاولت الانصراف لكن مختار القرية استوقفه وقال لها:

يا أم سليم، إن سيدنا الشيخ لم يقصد ذلك وإنما حاول أن ينورنا جميعاً بأن أعمال الدنيا مرتبطة بأعمال الآخرة والصلاة إنما هي لله خالصة مخلصة ولا تقتل الجراد ولا يقتله إلا الله سبحانه وتعالى، ثم أن علينا التفكير وعلى الله التدبير، لا تقلقي يا أم سليم ربما يستطيعون عمل شيء والتفت إلى الأستاذ الذي أدلى بدلوه ولكن بطريقة مهذبة حيث قال:

يا أم سليم الجراد حشرات ضارة وتأكل الحقل جميعه وإذا لم تفعلي شيئاً مما قاله الشيخ والمختار، انتظري فنحن سنبحث الأمر وسنقرر وأرى أن تضعي له سماً في أوعية ماء لأنه عندما يأكل الحقل سيشعر بالعطش وسينزل على الماء المسموم وحالما يشرب منه فإنه سيموت حتماً ولا يستطيع الانتقـال إلى حقولنا، أظن ذلك أسلم طريقة للقضاء على الجراد يا أم سليم.

والتفت إلى الشيخ وقال:

أليس كذلك يا سيدنا الشيخ!

وانفجرت أم سليم بالصراخ والغضب وقالت:

 

يا ناس، ما فائدتي من موت الجراد بعد أن يأكل حقلي ويحرمنـي من الموسم هذه السنة، تحركوا افعلوا شيئاً، الله يجازيكم يوم القيامة.

انتفض إمام القرية وتحوقل وبسمل وقال:

يا امرأة اذهبي وافعلي ما قلته لك وسنفعل نحن ما بوسعنا “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها” تنحنح مختار القرية وقال:

يا أم سليم، الدجاج عندك كثير هذه السنة والخير والبركة من الله سنسبقك إلى الحقل وننتظرك هناك!

فكرت أم سليم ما العمل أنا امرأة، ليس لي أولاد وزوجي طريح الفراش… آه … الدجاج عندك كثير.. قالتها أم سليم، لا حول ولا قـوة إلا بالله … سأجرب.

وذهبت إلى البيت وأعدت وجبة غداء تضمنت الدجاج المحمـر والأرز وغير ذلك ما تنفتح له نفس المخاتير والشيوخ وتوجهت إلى الحقل ويدها على قلبها من تكاثر الزوار هناك.

استنشق الشيخ رائحة الدجاج المحمر وخطرت على باله الآية الكريمة “ورزقكم في السماء وما توعدون” وجلس تحت الشجرة الوارفة الظلال ولعابه يسيل على لحيته البيضاء، وجلس الجميع كذلك وعيونهـم مسمرة على الوجبة الدسمـة التي جاءت في غير موعدها

 

حيث لا طهور ولد أو زار لإمرأة معتوهة.

جلست أم سليم معهم تنتظر الفرج بعد أن يأتوا على الدجاج المحمر والجراد فوق رؤوسهم لا ينتبهون إليه.

وقال المختار :

سيدنا الشيخ .. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب لا إله إلا هو تجلت مقدرته..

وتنحنح الشيخ وكان لا يود الكلام أثناء طعامه احتراماً للدجاج المحمر ولكنه لم يستطع المثول لرغبته واضطر للكلام ولكن ليس عن الجراد وإنما بدا في سرد قصة سيدنا يوسف كيف أغوته امرأة العزيز ومريم العذراء وكيف أنجبت دون أن يمسسها ذكر.

وبدأت التسبيحات بعد أن استنفذت المائدة المحمرة وجاء دور الحديث حول الجراد.

يا مختارنا، الجراد موجود ولا نستطيع أن نغفله، إنه ذكي جداً وممثل لقدرة اله عز وجل حيث أنه يقبع في أعالي الشجر ونحن لا نستطيع أن نقاومه وهو في وضعه هذا وغنما سنعمل على إنزاله إلى الأرض ونقتله بأصابعنا.

لا يا سيدنا الشيخ… قالها الأستاذ… إن رأيي هو الصحيح، فالجراد كما ندرسه لأولادنا ضار جداً وسيأكل اليابس قبل الأخضر ولكن وبما أن قدرة الله قد حكمت أن يكون في حقل أم سليم فعلينا أن ننتظر حتى يأتي عليه ونقتله بالسم كما قلت لأم سليم.

ودار النقاش بينهم وسرد الشيخ عليهم آيات قرآنية وأحاديث نبوية والمختار يستحثهم على الصبر ليخبر القائم مقام في المدينة والأستاذ المتعلم يقول لهم انتظروا حتى يأتي الجراد على حقل أبو سليم وبعدها تقوم أم سليم وبوضع الماء المسموم له كي تقتله بعد أن يأكل حقلها وتمنعه من أن ينتقل إلى حقولهم.

لم ينتبه أحد إلى الأزعر الموجود وكأنه لا يفقه ما يقولون لأنهم كانوا قد حددوا من مهمة إحراج أم سليم إن هي تطاولت عليهم ولكن هيهات فاللص لا يسلم ابداً.

يا سيدنا الشيخ.. يا حضرة المختار.. يا أستاذنا الكبير .. الجـراد لا يحارب بالطائرات ولا بالدبابات ولا يأتي القائم مقام ليقتله وإن جاء فإنه سيكلف أم سليم الموسم بكامله طعاماً له ولجماعتـه وخيولهم فالشعير غال هذه الأيام والدجاج الذي تملكه أم سليم لا يكفي عشاء يوم لهم.. قالها الأزعر.

انتفض الجميع .. وحاولوا أن يسكتوه ولكنه أكمل:

ومن رأيي أن نشعل النار في الحقل هذه الليلة حيث تخرج أعمدة الدخان وتطرد الجراد .

 

أعوذ بالله … أعوذ بالله .. يا ولد استغفر الله العظيم… أنت كافر… “لكم دينكم ولي دين” الطف بنا يا رب.

اللهـم لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا إله إلا الله .. واسترسل الشيخ ويده تعبث في مسباحته ولحيته وظل يتمتم.. أما المختار فقد استفز حيث أنه سيشعل النار دون علم القائم مقام الذي سيغضب عليه ويسحب منه الختم الذي يدر عليه ذهباً من أهل القرية البسطاء.

لا يا ولد هذا عمل لا يرضى عنه القائم مقام وسيجعله يغضب منا.. لا .. لا .. قالها المختار .

بقي الأستاذ الذي كان مشغولاً بانتظار كلمات مقنعة.. صامتاً حتـى تكل المختار ثم قال:

يا زعيزي.. الدخان سيطرد الجراد من حقل أم سليم.. كلام سليـم وصحيح، ولكن قلي أين سيذهب؟ انه سيأتي إلى حقلنا أو حقـل المختار أو حقل الشيخ وسنكون قد منعنا الكارثة من حقل أم سليـم وجلبناها بأيدينا إلى حقولنا، وهـذا لا يرضى عنـه الله والرسول وغرق الثلاثة في الضحك… ولم تستطع أم سليم الكلام لأن الأزعر تولى عنها المهمة حيث قال رداً على قولهم:

يا ناس .. النار هي السبب الوحيد لطرد الجراد وسنشعلها في حقول القرية بأكملها وسوف لن يتمكن الجراد من الانتقال إلى حقولنـا.

 

لا يا ولد – رد الثلاثة بصوت واحد – سنتقل من الحقول إلى البيوت ويأكل ما يوجد فيه دعه في حقل أم سليم وسيموت من التخمـة إن لم يمت من السم.

وانفجرت أم سليم من الغيظ وأخذت تصرخ:

الله أكبر هيك رجـال ما بدنا اياهـم، بدنا نشوف مراجلكم بالنهار مثلما تظهرونها لنا بالليل.

وضحك الإمام لسماعه كلمة الرجولة الليلية، وقال بسره (آه يا معلونة.. أبو سليم طريح الفراش منذ سنوات ولا يستطيع أن يفعل شيئاً) وتمنى في سره أن يكون معها لوحده بدل تلك الشلة المتمثلة في المختار والمدرس والأزعر.

أخذ الجراد يزداد يوماً بعد يوم وتزداد الأشجار المأكولة يوماً بعد يوم كذلك، وأم سليم تصرخ وتصرخ وقد حاول الأزعر إشعال الحرائق في الحقول ولكن الشيخ والمختار حذراه بإبلاغ القائم مقام.

وانتظروا حتى يأتي الفرج من عند الله سبحانه وتعالى ولم يفعلوا شيئاً وإنما وضعوا هم بأنفسهم السم في الماء على حدود حقل ام سليم وهم يتخيلون أنه سيشرب منه بعد أن يأتي على الحقل، وباتوا ليلتهم فرحين لأنهم في الصباح سيجدون الجراد ميتاً على أطراف حقولهم.

وكـانت البهجة لأن قـدر الله سيرتـد عنهـم كونهم لم يفعلـوا

السيئـات مثل أبي سليم حيث كان الأستاذ يفكر بأن راتبه سيزيد بعد أن اقترح الحل المعقول والمختار سيزيد الرسوم على ختمه كونه أقر اقتراح الأستاذ وإمام البلدة تخيل نفسه في كل البيوت بين الموائد وحلقات الزار لأن الجراد لم يأت على حقولهم كونه أفتى في الحل وحلله وأما الأزعر فقد نام ليلته مهموماً مغموماً وكذلك أم سليم التي لم تخبر زوجها بما حدث خشية عليه من الانهيار.

واستيقظ الجميع ليجدوا حقولهم حطباً واقفاً وأرضهـم جرداء كحقل أم سليم

قد يعجبك ايضا