مهند النابلسي: 1917: تحفة حربية جديدة تتماهى مع تحفة “دونكيرك”: عبقرية التصوير السينمائي كلقطة واحدة طويلة

مهند النابلسي* ( الاردن ) – الأحد 3/1/2021 م …




شجاعة بطلين تنقذ مئات الجنود من موت عبثي: بعد حوالي قرن 2020/2021 يظهر رئيس مجنون نرجسي جديد لدولة عظمى ليثير الاستفزازات الدولية الخطيرة وينتهك المواثيق والحدود الدولية ليؤكد بصمته الاستعلائية اللامبالية وامراضه النفسية الجنونية ولا يجد احدا ينصحه ويردعه عن المغامرات الكارثية  كما لا يجد احدا يوقفه عند حده ويضع حدا لارهابه وجنونه فالعالم لا يعتبر وربما يفتقد للحكمة والقيادة العالمية الكاريزمية المؤثرة!،

حصد فيلم [1917] للمخرج “سام منديز” جائزتي أفضل خلط أصوات و أفضل تصوير سينمائي في حفل الأوسكار وامتاز بلقطاته الطويلة التي أذهلت الجميع، كما فاز بجائزة أفضل مؤثرات بصرية.

تكمن العبقرية في هذا الفيلم الحربي الشيق في النطاق الهائل لخدمات اللوجستيك التصويرية: حيث هناك تجوال للكاميرا المحمولة المواكبة للحركات بلا انقطاع، انتقالا للرافعة التصويرية وصولا لتصوير حالات الانقضاض الحربي، حيث يظهر الأمر برمته كحيوية المسرح الواقعية وكانك اصبحت كمشاهد داخل معترك الأحداث وساحة المعركة، كما يبدو الأمر كشخص مشدود متوازن على حافة جسر، فالمخرج البريطاني الفذ “سام مينديس” يريدنا ان نحمل هذا الاحساس الغريب، مستعينا بالمصور السينمائي الاسطوري “روجر ديكينز” (صاحب تحفة الخيال العلمي بليد رانر: 2049) مع السكور السينمائي المصاحب المعبر.

يتضمن هذا الشريط الاخاذ تصميما رائعا للتصوير والانتاج: خذ على سبيل المثال توفر المشاعل بواسطة رشقات ألمانية نارية متقطعة، فهناك ايضا حرب تدور في الظلام مع جنود يسعون للاختباء والحماية والبحث عن الضؤ وهروبا من مطاردات قاتلة، ربما ستشعر كمشاهد بالقليل من الملل في الدقائق العشر الاولى قبل أن  تنغمس بالأحداث ولا تشعر بمرور الوقت…فقد ادخلك الفريق السينمائي برمته (ولا أقول الممثلين فقط) الى “أرض اللارجل” المرعبة وأصبحت مرغما للمشي فيها بحذر وتقصي جغرافيتها والتمعن في الحياة اليومية للجنود وانتقالهم الحذر وامكانية تفجيرهم…  ثم نتابع طريقة تناولهم للطعام في ظل هذه الأجواء…مع جولات خطرة في الخطوط الأمامية وامكانية اقتراب الموت في أية لحظة ومواجهته عبر خطوط القتال الألمانية مع مراعاة أهمية تفادي أية اخطاء قاتلة، والسعي الدؤوب لمناورة ذكية حتى لا يصلوا قبل فوات الآوان لتفادي الكمين الكابوسي (الكامن بتفخيخ الخنادق) وايقاف الهجوم المتوقع في الوقت الملائم. لقد نجح المخرج البريطاني هنا كما فعل زميله البريطاني الاخر قبل سنتين (كريستوفر نولان في دونكرك) بالدخول فورا لأعمق عواطف المشاهدين العالميين، وحقق تشويقا فريدا عندما ادخل ثلاث مجموعات قتالية في سباق محموم حابس للأنفاس مع الزمن، كما اعطانا درسا بكيفية تفادي الجهل والعناد والغطرسة التي لا طائل من وراءها لحماية ارواح الجنود المقاتلين والوقوع  في براثن الموت العبثي (والبطولة الشعاراتية) حيث تفقد هنا الشجاعة معناها وتكاد تصبح انتحارا معلنا، وربما هذه هي الحكمة التاريخية الوحيدة التي يقدمها الفيلم بذكاء مشهدي تماما كما بفيلم دونكيرك الشهير.

قصة بسيطة وحبكة ذكية مفهومة وفريق تمثيل صغير واخراج واقعي مدهش ورسالة مجازية مؤثرة:

في ذروة الحرب العالمية الاولى وفي ابريل عام 1917 وفي شمال فرنسا، تم تكليف جنديين بريطانيين شابين: شوفيلد و بليك،  بتسليم رسالة عاجلة الى الكتيبة الثانية من فوج “ديفون شاير” طالبين فيها تأجيل الهجوم المخطط على القوات الألمانية، لأنه تبين سرا بأن تراجع الألمان عن خط “هندنبورغ” الدفاعي كان يهدف لايقاع كمين كبير قاتل بكتيبة بريطانية كاملة، تتكون من 1600 رجل، منهم شقيق الجندي بليك “جوزيف”.

حيث يعبر “شوفيلد و بليك” الأرض الحرام بنجاح، ويصلان الى الجبهة الألمانية الأصلية، ويجدان الخنادق مهجورة، فيتبين انها كانت مفخخة ومليئة بالجرذان الضخمة، حيث كاد احد الانفجارات ان يؤدي بحياة شوفيلد، الذي نجا بفضل بليك، الذي اخرجه بسرعة من تحت الأنقاض المنهارة وأسعفه…

ثم يصل الاثنان لمزرعة مهجورة، حيث يشهدان معركة عنيفة في مكان قريب…فتهاجم فجأة طائرة المانية المزرعة وتتحطم، فيحاولان انقاذ الطيار، الذي يطعن بليك غدرا غير مقدر لجميل انقاذهما له من موت محقق حرقا، فيصاب بجروح قاتلة نازفة في بطنه، لكن شوفيلد يضطر لقتل الطيار، ومواساة صديقه المحتضر بليك، قبل أن يبادر لاتمام المهمة الصعبة لوحده. فيتم التقاطه من قبل فصيل بريطاني وانزاله بالقرب من قرية فرنسية تدعى “ايكوست سانت مين”.

هناك في “ايكوست” يتعرض شوفيلد لهجوم من قبل قناص الماني، فيتعقب القناص ويقتله، لكنه يخرج من المواجهة بشظايا رصاصة متهورة، فيستعيد وعيه بالليل، ويتعثر في المكان الذي تختبىء فيه امرأة فرنسية شابة مع طفلة رضيعة ليست ابنتها، حيث يترك لهما بعض الحليب والمستلزمات الضرورية، مواصلا مهمته، فيقتل جنديا المانيا آخر ويهرب عبر النهر ناجيا بحياته!

يصل شوفيلد اخيرا لتخوم الكتيبة الثانية صباحا، ليجد أن الهجوم المتوقع قد بدأ، وأن شقيق بليك “جوزيف” هو من بين جنود الموجة الاولى التي وصلت للقمة، فيسرع جاهدا لملاقاة وابلاغ قائد الكتيبة الجنرال “ماكينزي”، فيصدر هذا امرا عاجلا بايقاف الهجوم، ويهرع شوفيلد لتحديد موقع جوزيف الذي لم يصب بأذى بعد، ويبلغه بوفاة شقيقه فيحزن جوزيف ويشكر شوفيلد على كل ما فعله، وأخيرا يذهب شوفيلد ليجلس بجوار شجرة، وقد انجز مهمته مستكينا للراحة والتقاط أنفاسه بعد انجاز هذه المهمة الصعبة، كاشفا بأن له ابنة صغيرة وزوجة شابة في انتظار وصوله على احر من الجمر.

مشاهد لافتة: مآسي الحرب الاولى كما لم تظهر من قبل مع تحيز سافر (وشيطنة واضحة) ضد الألمان…

مثل مشهد الجندي المصاب المذعور “شوفيلد” وهو يركض بين انقاض القرية الفرنسية مواجها رصاص الألمان المتقطع في الفجر مع تباشير ضؤ الشمس وخيالات الظلال لانقاض المباني التي بدت كأشباح تلاحقه، ويضطر لخنق جندي الماني آخر  لكي لا يكشف مكانه وقد فقد بندقيته، ثم يقفز هاربا من علي لنهر جار تمخره القوارب القتالية  الألمانية غاطسا احيانا لعمق المياه للنجاة، وفيما يصعد أخيرا للبر يسمع جند الفيلق البريطاني وهم يستمعون باصغاء وجلال لاغنية دينية ينشدها قس عسكري تتحدث عن أرض الأحلام الموعودة في “الاردن” التي سيصلوها أخيرا لينعموا بالطمانينة ومرأى المراعي المقدسة (وحقيقة لم أفهم مغزى الاغنية الطويلة)، ثم يستبسل للوصول للجنرال ماكينزي لايصال الرسالة، فيما يتم القتال الوشيك وينطلق الجنود باتجاه الجبهة الألمانية ويسقط بعظهم كضحايا ولكنه يستبسل بالوصول لخيمة الجنرال الذي لا يصدقه في البدء ثم يستسلم مرغما لقرار وقف الهجوم مشككا بسلامة القرار ومؤكدا بان النصر سيكون حليف الصمود النهائي ومتشائما من الأمل الوهمي…نلاحظ عموما ان هذا الفيلم  الشيق قد لخص مآسي الحرب العالمية الاولى (كما لم تظهر سابقا بهذا الشكل المريع المأساوي) حيث الكم الهائل من الجثث الملقاة في البرية والنهر وكذلك الأحصنة الميتة كغذاء للذباب والجرذان والغربان…كما نتأمل بحكمة نصيحة الضابط البريطاني الذي يطلب منه توصيل رسالته مع شهود عيان لأن هناك اناسا (حماسيين ومزاودين) يرغبون دائما باستمرار القتال…ولكن لابد من القول من رغبة الكاتب والمخرج لتقديس البريطانيين واظهار انسانيتهم وكالعادة شيطنة الألمان واجرامهم وخبثهم الشديد بالرغم من أن “هتلر” والنازيين كانوا بعيدين زمنيا عن مجرى هذه الأحداث بحوالي عقدين وأكثر تقريبا وبالرغم من ادعاء المخرج بمصداقية الأحداث التي رواها جده له قبل رحيله، فالجنود على ظهر الحاملة يسخرون من الألمان كبشر يكرهون عائلاتهم ويسعون لاطالة امد الحرب، كما أظهر شوفيلد ارادته الفولاذية لانجاز مهمته بطريقة مبادرته لتشجيع الجنود لدفع الحاملة التي انغرست عجلاتها بالوحل وتعطلت…وباعتقادي الخاص أن هذا التحيز السافر ضد الألمان ومحاولة “شيطنتهم” قد أضعف عموما صدقية السرد السينمائي بالنسبة للمشاهد المثقف الواعي تاريخيا على الأقل!

طاقم الفيلم المتناغم:

انه فيلم حربي ملحمي انتج بالعام 2019 من كتابة وانتاج واخراج سام مينديس، ومن تمثيل كل من جورج ماكاي ودين تشارلز شابمان في الدورين الرئيسيين، ثم كل من مارك سترونغ، أندرو سكوت، ريتشارد مادن، كلير دوبورك، كولين فيرث وبينديكيت كومبرباتش…ويسرد قصة جنديين بريطانيين في ربيع الحرب العالمية الاولى وقد تم تكليفهما بتسليم رسالة عاجلة لجبهة القتال البريطانية يحذر فيها من كمين قاتل خلال فترة المناوشات مع الألمان بعد تراجعهم التكتيكي  لخط هيندبورغ الدفاعي خلال العملية القتالية “ألبيريش”…تم التصوير بانحاء اسكتلندا وبريطانيا، باستخدام كاميرا المصور البارع “روجر ديكنز (صاحب فيلم عداء النصل 2049)، وقد استخدم فترات تصوير طويلة لجعل الفيلم يظهر وكأنه صور بلقطة واحدة مستمرة، وقد نجح تماما بهذا الايحاء، وحقق الشريط تسع جوائز للأكاديمية البريطانية في الحفل ال 37…ويتوقع ان يحصد جوائز كبرى بحفل الاوسكار القادم …وقد بدا اسلوب التصويرهذا كحيلة ذكية لشد المشاهد للشاشة خلال ساعتين بلا انقطاع، علما بأن هذه التقنية قد استخدمت من قبل في أفلام ليست حربية، مثل الأصدقاء الطيبون لسكورسيزي والحبل لهيتشكوك…

ملخص التقييم النقدي:

تجربة سينمائية جديدة وشجاعة اسطورية وتقدير لدور السينما كفن شامل:

يتيح هذا الفيلم للمشاهد التمعن بمشاهد حربية آخاذة وواقعية، ويحقق رهبة الجلوس لمشاهدة عرضا سينمائيا يحفل بالطموح الهائل والواقعية السحرية، فهناك خلف الأحداث رؤيا فنية عظيمة للمخرج “سام مينديس” صاحب تحفتي “سكاي فول والجمال الأمريكي” …فقط تتأمل اول عشرة دقائق بفضول وهدؤ وترقب ثم تدخل لكيان الأحداث المتلاحقة دون ان تشعر بمرور الوقت، وربما يكون واحدا من أفضل الأفلام الحربية على الاطلاق، ويعطي المشاهد الشغوف فرصة خوض تجربة سينمائية شيقة ومثيرة للاعصاب وملهمة وعميقة عاطفيا…وقد حصل على تقييم نقدي رفيع يستحقه بجدارة على موقع الطماطم الفاسدة بلغ ال89% ، ونجح بتقديم حرب الخنادق في الحرب الاولى بايقاع واقعي حابس للأنفاس، كما حظي اداء “جورج ماكاي” بثناء كبير، وقدم لنا تجربة تقربنا من شجاعة ومعاناة هؤلاء الأبطال محاولا تخليد ذكراهم، ونجح الممثلان بالاختفاء والانغماس بدوريهما وسحبونا كمشاهدين لأعماق القصة الشيقة وأصبحنا نشعر بانفاسنا ونقدر قيمة السينما كفن شامل، كما أبدت كافة الشخصيات الاخرى ادوارها الداعمة القصيرة ببراعة لافتة (مثل كابتن سميث والليوتنانت ليسلي والليويتنانت جوزيف بليك وجنرال ايرينمور وكولونيل ماكينزي والفرنسية كلير بدور لاوري وغيرهم).

*كاتب وباحث وناقد سينمائي

قد يعجبك ايضا