بحث هام … فرنسا والميراث الإستعماري مع العرب والمسلمين / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 27/10/2020 م …

مقدّمة:




قَطَعت الحكومة الفرنسية، بنهاية شهر تموز/يوليو 2020، خطوة أخرى في طريق تصعيد عنف الدولة، عبر اللجوء للجيش، باسم الحفاظ على النظام، والسّماح لعناصر الشرطة (مهد الأفكار والممارسات العنصرية، وأحد معاقل اليمين المتطرف) باستخدام أسلحة خطيرة، وتوسيع صلاحيات أجهزة المخابرات، وتعزيز التّرسانة القانونية، ضد من تعتبرهم الشرطة من “مُثِيري الشّغب”، خاصة خلال المظاهرات الإحتجاجية، وتهدف هذه الإجراءات ترويع من يعتزمون التظاهر والإحتجاج، وإرهابهم باسم محاربة الإرهاب و “التطرف”، وكانت كلمة “تطرّف” ملازمة لليسار، ثم أصبحت اليوم مُلازمة لمن يُفْتَرضُ أنهم مُسلمون، أي أبناء وأحفاد شُعوب المُسْتعمَرات، من قارة إفريقيا، بشكل أساسي، وأظْهرت التّجربة أن الحكومات الفرنسية (وغيرها أيضًا) تَسُنّ قانونًا أو تتّخذ إجراءً قمعيا أو استبداديًّا ضد فئة مُعَيّنة، ثم يقع توسيعه، ولو على مَهل، ليقع تطبيقه ضد بقية المواطنين.

إنها مُجرّد خطوة إضافية، في سلسلة طويلة من ممارسات قمعية، نفذتها الدّولة، داخل البلاد وخارجها، وتعتبر الخطوة الجديدة أي مُظاهرة ضد سياسات الحكومة “أعمال شغب”، تسمح باستخدام أسلحة حَرْبية، وتمنح غطاءً قانونيًّا لعمليات الإغتيال والإصابات الخطيرة، والإعتقال، ولاستخدام أسلحة فتّاكة جَرّبتها قوات الشّرطة منذ سنة 2017، ثم ضد حركة “السّترات الصّفراء”، وكذلك لحَظْر التّظاهر، بذريعة الحفاظ على النّظام العام، واعتبر نواب البرلمان الأوروبي (لا سُلْطَة ولا نُفُوذ له ) وبعض المؤسسات الأوروبية المعنية بحقوق الإنسان، عمليات القمع “استخدامًا مُفرطًا للقوة”، وتتذرع الحكومة الفرنسية بوجود قوانين تمْنع التّظاهر، وعدد من الفُصُول الزّجْرِية، صُمِّمَتْ أساسًا “لمكافحة الإرهاب”، منذ 2001 (وهي عملية استغلال للتفجيرات في الولايات المتحدة) ثم استخدمتها الشرطة وجهاز القضاء، لترويع المُضْرِبين وضد المتظاهرين سِلْمِيًّا، وضد أي احتجاج مَدَني ومَطْلَبي ونقابي وسياسي، ضد السياسات النيوليبرالية وتزايد حجم ونسبة البطالة والفَقْر وعدم المُساواة، وجابهت أجهزة الدّولة القمعية هذه الحركات بالقمع الوحشي وبالإعتقال والسّجن، ويُضْفِي الإعلام السائد طابع الشرعية على القمع،  من خلال تهْويل “عُنف” المحتجّين المُتَخَيّل.

استغلال سياسي:

تُحاول جميع حكومات العالم تغطية الفشل أو تحويل الانظار عن المشاكل الإجتماعية (البطالة والفقر واتِّساع الفجوة الطبقية…) عبر خلق فُقّاعات تشغل القوم أيامًا أو أسابيع، أو التّركيز على حدث دون آخر، ويتكفل الإعلام المملوك للمجموعات الرأسمالية، كما وسائل إعلام القطاع العام، بتَجْهيل المواطنين عبر دعوة “خُبَراء” و “باحثين” (هم عادة موظفون في أجهزة المُخابرات أو مُتعاونون معها) لتبرير الإجراءات الحكومية، وتغليف تأييدهم لسلب حريات المواطنين، باستخدام مُصطلحات العلوم الإجتماعية، وعلم النّفس، والكذب على التّاريخ أحيانًا، مثل الإدّعاء بأن كلمة ( Assassin ) الفرنسية تَوَلّدت من “الحشّاشين”، أي أن الفرنسيين والأوروبيين لم يعرفوا الإجرام والإغتيال والقتل، بدليل عدم وجود هذه الكلمة، قبل أن يصل إلى علمهم خبر “الحشاشين” (القرن الحادي عشر)، في ذروة حُرُوب الفَرَنْجَة، المُسمّاة زُورًا “الحروب الصّليبية”…

تلاقت وتناغمت هذه الوسائل، أو الأَدَوات – الشرطة والقضاء والإعلام- لتبرير السياسة الطّبَقِيّة للحكومة، التي تُمَيّز بين الكادحين الفقراء، بهدف تقسيمهم إلى أجناس وديانات وأعْراق وألْوان، ونجحت في ذلك، لحد الآن، لأن صف الأثرياء (الحاكم) مُنظّم ومُوَحّد (أمام العدو الطبقي )، فيما بقي صف الكادحين والفُقراء مُشتّت، وتكرّر الأمر خلال كل عُدْوان تشنّه الإمبريالية الفرنسية في مكان ما من العالم ( منفردة أو وراء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي)، وخلال أزمات النّظام الرأسمالي، لتوجيه السّهام نحو “عدو داخلي” وهمي، أو “عدوّ خارجي” لم يلحق أي ضَرر بسكّان فرنسا ( أنظمة العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان…)، لكن ربما أضر (بالفعل أو بالقُوة) بعض هؤلاء “الأعداء” بمصالح بعض الشركات العابرة للقارات، فيقع إرسال الجيش للعدوان على العراق (1991) والتّنكيل بالعرب (مواطنين أو مهاجرين) في داخل فرنسا، واعتبارهم “طابورًا خامسًا”…

شكّلت جريمة اغتيال مُدَرِّس (يوم الجمعة 16 تشرين الأول/اكتوبر 2020)، من قِبَل شخص قدّمته أجهزة الدّولة ووسائل الإعلام ك”جهادي إسلامي”، ذريعة للإسراع بتنفيذ عملية شحن وتسميم للوعي، دشّنها إعلان حل جمعية (ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا ) ومجمعيات حقوقية وإنسانية، لم يَصْدُر عنها خطاب متطرف أو ممارسات مُخلّة بالقانون، لكن بعضها يُوثّق عمليات الإعتداء على المُسلمين وعلى دور العبادة، ولا يمكن اعتبار مثل التوثيق والإحصاء والمطالبة بتتبّع المجرمين، “عملاً إرهابيا”، كما وصفه وزير الدّاخلية.

لا شيء يمكن أن يبرر مثل هذا الاغتيال، وتُذَكّرنا هذه الجريمة الفظيعة بأن العالم الذي نعيش فيه عنيف بشكل متزايد، وتُشكّل الحروب والقمع وعدم المساواة والبؤس، أرضًا خصبة للأفكار الأكثر رجعية وفتكًا، ومنها عقيدة الجهاد، كما قَدّمتها مجموعات الدّين السياسي (الإسلامي) المُتطرفة والإرهابية، وتكمن رجعيتها في مشروعها وبرنامجها الإجتماعي، المَبْنِي على الإقصاء (إقصاء المرأة، ومن يعتبرونه مارِقًا أو كافرًا)، وعلى الإضطهاد والإستغلال وممارسة العُنف ضد المُضْطَهَدين الفقراء، وهو لا يختلف في عقيدته وممارساته عن اليمين المتطرف “الغربي”، أو في أي بُقْعَةٍ من العالم.

اختلاق “عَدُوّ داخلي”:

استغلّت الحكومة، كما اليمين المتطرف، هذه الجريمة، كما حَدَثَ إثر كل اعتداء يُنْسَبُ إلى المُسلمين (أي العرب والإفريقيين، وأبنائهم وأحفادهم)، وخاصة اعتداء سنة 2015، لتصعيد الحملة المُعادية ل”المُسلمين”، ونشر خطاب الكراهية وتقسيم المواطنين والفُقَراء، على أُسُسٍ واهية، واختلق رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية “رابطًا” (وَهْمِيًّا) بين مأساة اغتيال المُدَرِّس، و”نزعة الإنفصال”، التي ادّعى رئيس الجمهورية مُحاربتها، عبر مشروع قانونه بشأن “الانفصالية”، بهدف تدعيم الخَلْط المَقْصُود بين المسلمين والأصوليين والإرهابيين، وفَوّضت الحكومة وزير القمع (وزير الدّاخلية) لإعلان “حالة الحرب على العَدُو الدّاخلي”، في وسائل الإعلام، وتمثلت في شن حملة مداهمات وتفتيش المنازل وأماكن العبادة، ومَقَرّات الجمعيات، واعتقالات، وحَلّ جمعيات قانونية، لم تُرَوّج للعُنف ولا للكراهية، وإنما عارضت المناخ “المُعادي للإسلام” (نعتقد أنه مناخ مُعادي لمن يُعْتَبَرُون “مُسْلِمين”، وليس للإسلام في حد ذاته)، وأصبخ خطاب الحكومة نُسخة طبق الأصل من خطاب أحزاب ومجموعات اليمين المتطرف، ويعترف وزير داخلية فرنسا أن المُعتقَلِين أو الجمعيات التي وقع حَظْرُ نشاطها، لا علاقة لها بجريمة قتْل المُدَرِّس، وإنما هي “رسالة” إلى من اعتَبَرَهُم “أعداء الجمهورية”، وبذلك نجحت الحكومة (التي تُمثل رأس المال المالي، والمصارف والتّأمينات والشركات العابرة للقارات…) في تأجيل النقاش (على أمل إلغائه، بذريعة وباء كوفيد 19 ) بشأن ارتفاع حدة البطالة والفَقْر وعجز عشرات الآلاف من المواطنين عن تسديد مبلغ إيجار المَسْكن، وعجز الحكومة عن احتواء وباء “كوفيد 19″، وتمهيد الطريق لهجوم عنيف ضد كل الذين يرفضون انعطاف اليمن “المعتدل” نحو اليمين المتطرف، باسم “القيم الجمهورية”، التي يبدو أنها أصبحت تَضُمُّ ضمن مبادئها: “الكراهية والعداء للعرب والمسلمين”، وَوَصْم سُكّان الأحياء الشعبية الفقيرة، وسُكّان الضّواحي بالتّطَرُّ ف والتّعصُّب و”نزعة الإنفصال”، وهي تُهَمٌ قد تُوجّهُ لأي مناضل، نقابي أو سياسي، مُعارض للإضطهاد ، وللإستغلال…

قدمت حكومة الحزب “الإشتراكي” (وهو في الواقع في حالة عِداء شديد للإشتراكية)، خلال الفترة 2012 – 2017، تسعة قوانين، مُعادية للمهاجرين وأبنائهم وأحفادهم، بذريعة “مكافحة الإرهاب”، لتعزيز الترسانة الجنائية والإدارية، وأعلنت الحكومة الحالية (اليمين المُمثل لرأس المال المالي) أنه تم إغلاق ما لا يقل عن 210 محل تقديم مأكولات ومشروبات، و 15 دار عبادة، و 12 مؤسسة ثقافية وجمعيات ، وأربع مدارس، ويُديرها أو يمتلكها أو يُشرف على جميعها مهاجرون أو أبناء مهاجرين، صنفتهم وزارة الدّاخلية “مسلمين”، وأغلقت هذه المحلات بقرار إداري، وليس قضائي، خلال سَنَتَيْ 2018 و 2019، بحسب نائبة وزير الدّاخلية، ومنذ اعتداءات سنة 2015، عززت الحكومة (حكومة الحزب “الإشتراكي” آنذاك) حالة الطوارئ، ليصبح مشهد عناصر الجيش بسلاحهم، في الشوارع والساحات ومحطات النقل، أمرًا “مألُوفًا”، وتم تعزيز قانون الطوارئ سنة 2017، وتم التحقيق مع آلاف المواطنين (يُفترض أنهم “مُسلمون”) وإيداع العشرات منهم السّجن، وأخضعت بعضهم للإقامة الجبرية، بتهم واهية، واستهداف آلاف المحلات والمباني، بذرائع مختلفة، وبشأن الإجراءات الزّجْرِية، بشكل عام، قَدَّرَ مجلس الدولة، سنة 2017، أن نحو 40% من الإجراءات القسرية المتخذة في سياق حالة الطوارئ، تعتبر غير قانونية، لكن الدّولة تعرف ذلك، وتستهدف العديد من المواطنين، بهدف تشويه سمعتهم، أو سمعة محلاتهم، وتهميشهم، ودَفْع المحلات التجارية التي يمتلكها أو يُؤَجِّرُها المهاجرون وأبناؤهم، إلى حالة الإفلاس…

تَمّت هذه الإجراءات الإدارية والقضائية على أساس الاشتباه البسيط، أو شُكُوك وَرَدَتْ ضمن مُذَكّرات (بدون تاريخ أو توقيع، في معظم الأحيان) صادرة عن أجهزة المخابرات، التي تعزّز دَوْرُها لتقْيِيد الحُرّيات، بحسب اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان، ما أدّى إلى زيادة حالات الوِشاية ضد السكان الذين يُشتَبَهُ بإسلامهم (بسبب اللحية أو اللباس أو الإحتفال بالمناسبات الدّينية…)، من قِبَل الجيران أو زُملاء العمل، أو من أصحاب المحلات المُنافسة (تجارة، مطاعم ومقاهي…) وتُوجّه الوشاية إلى الشرطة أو إلى مكتب الضّرائب، ويمكن أن تتحطم حياة العديد من المواطنين، قبل إثبات “براءتهم” من “التّطرّف”، وقد يستغرق الأمر عدّة سنوات، إذ لا يزال مفهوم “التطرف” غامضًا، ولم يتم تعريفه، وأشار تقرير لمجلس الشيوخ الفرنسي، سنة 2017، إلى ضبابية مفهوم “التّطرّف”، بحسب ما ورد في مُذكّرة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان – 2017″، وكانت بعض منظمات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدّولية، قد أعربت عن قلقها، منذ سنة 2015، من استخدام أجهزة الشرطة والقضاء الفرنسية قوانين مكافحة الإرهاب لاعتقال وسجن مُراهقين، بتهَمٍ غامضة، تنتهك حق التّعبير السّلْمي عن الرأي، وأعلن مُحامو أحد المصارف (بي إن بي)، سنة 2019، أن أجهزة المُخابرات تدخّلت لإغلاق حساب جمعية حقوقية فرنسية يُشرف عليها مُسْلِم…

بعد تجربة هذه القوانين والمراسيم والإجراءات، لعدة سنوات، وتطبيقها ضد المهاجرين، جاء دور تعميمها وتطبيقها ضد بقية المواطنين، للتضييق على حرية التعبير، وتقْييد الحُريات النقابية والسياسية، وتزايد قمع الحركات الإجتماعية (المَطْلَبِيّة والإحتجاجية)، واعترف وزير داخلية فرنسا في شهر آب/أغسطس 2020، أن مشروع قانون “مكافحة الإنفصال”، قد لا يستهدف المُسلمين وحدهم، بل قد يستهدف “اليسار المتطرف”، أو “المُتطرّفين من دُعاة حماية البيئة”… 

استغلال سياسي للمَآسِي:

استغل الرئيس “إيمانويل ماكرون”، في أوج العطلة الصيفية (آب/أغسطس 2020) انتشار الأفكار الإستعمارية العنصرية والتمييزية ضد المسلمين في فرنسا، ليهاجم “الطائفية” ثم استبدلها لاحقًا، بنهاية أيلول/سبتمبر 2020 ب”الانفصالية”، مُعلنًا تقديم قانون لمحاربتها، لتصبح العدو الجديد، لكن مصطلح “الإنفصالية” غامض، وقد يؤدي إلى أحكام تضر بالحريات العامة وتعزز عدم المساواة، لأن عبارات الرئيس الفرنسي مثلت إعادة تدوير الأفكار المعادية للإسلام التي نشرها اليمين المتطرف والتيارات السياسية الأخرى. 

لم يكَدْ يمُرُّ أُسْبُوعان على خطاب “إيمانويل ماكرون” بشأن “الانفصالية الإسلامية”، حتى جاءت جريمة قطع رأس مدرّس فرنسي لتُسعّر الحملة على المسلمين عموماً، كالعادة، مع توسيع دائرة الإستهداف، هذه المرة، لتشمل المُدافعين عن حقوق الإنسان، ومناهضي العنصرية والإسلاموفوبيا، واتهامهم بتشجيع “الإرهاب الإسلامي”، كما أظهرت الحملة الإعلامية الفرنسية، على هامش جريمة اغتيال المُدَرِّس الفرنسي في “كونفلانت سانت هونورين”، الخَلْفيات الاستعمارية والعنصرية لغالبية المتحدثين، الذين لم يتساءل سوى القليل منهم عن ما يُخْفِيه قَتل الشرطة لمعظم المُتَّهَمين بارتكاب مثل هذه الجرائم، بدل اعتقالهم، واستنطاقهم ومحاكمتهم، ويُؤَثِّرُ الإعلام، حتمًا، في تشكيل رأي عام داعم للفكر اليميني الإستعماري العُنصُري الحاكم، الذي استغل الفُرصة لاتخاذ المزيد من القرارات المُقَلِّصَة لهامش حرية التعبير والتظاهر، وتحجيم الحريات النقابية والسياسية، وبلغت الوقاحة بوزير الدّاخلية الفرنسي أن ادّعى استحالة التوافق بين الديمقراطية وأحد الأديان، فهل يعني ذلك أن الأديان الأخرى ديمقراطية تمامًا (مثل وزير الدّاخلية؟).

صَبّت تصريحات رئيس الجمهورية ووزرائه والمُقرّبين منه، الزّيت على النّار، مُستغلّين الجريمة لتشجيع حملة إعلامية تحريضية شرسة ضدّ المسلمين، وتوظيف هذه الجريمة، لإطلاق حملة كراهية وعداء لمن اعتُبِرُوا “مُسلمين” عمومًا، بالتّزامن مع بدء جلسات المحكمة الخاصة بالهجوم ضدّ مجلة “شارلي إيبدو” (2015)، وبالتزامن (صُدْفَةً؟) مع إعلان إيمانويل ماكرون الحرب ضدّ “الانفصالية الإسلامية”، وتحميل مسؤولية “انتشار التطرف” (ولا يُقصد بذلك اليمين العنصري المتطرف) للتيارات السياسية المناهضة للعنصرية، واغتنم الرئيس “ماكرون” فرصة زيارة المدرسة التي كان المُدَرِّس القتيل يعمل بها، ليُدين “عملية إرهابية إسلامية موصوفة… تستهدف المدرسة، رمز الجمهورية وقيمها…”، ودَعا إلى “الوحدة القومية” في مواجهة “التّوحّش والظّلامية”، وردّدت المجموعات السياسية المُمثَّلَة في البرلمان (من اليسار المائع إلى اليمين المتطرف) هذه الدعوة، للمزايدة على حكومة اليمين (ممثلة مصالح رأس المال المالي) وللمطالبة “بإجراءات أكثر حزماً ضدّ الإرهاب الإسلامي”، واستهداف الجمعيات المُستقلة، المناهضة للعنصرية، وسبق أن تعرضت مَقرات بعضها للمداهمة والتفتيش والحَل، بقرار من وزير الدّاخلية الذي ادّعى أن هذه الجمعيات الحقوقية والخَيْرِية (إسلامية التوجه) “تروّج للانفصالية، وللقطيعة مع قيم الجمهورية”، في عملية إيحاء خبيثة تربط بين المناضل المناهض للعنصرية والإرهابي الإسلامي (أو باسم الإسلام)، وانبرى المتعاونون مع المخابرات، مثل “جيل كيبل”، يدّعون أن “العديد من المنظّمات المعادية للعنصرية مجرّد واجهات للجهاديين، لأنها تُعزّزُ قناعات هؤلاء الشُّبَّان بكونهم ضحايا”، ما يعني أن مُعاداة العرب والمُسْلِمين المُفْتَرَضِين “مُجَرّد وَهْم”، وأن لا وُجُود لظروف موضوعية ملائمة لتغلغل المنظمات الإرهابية في المجتمع الفرنسي، وفي أوساط الشّبّان الفُقراء، والمُهَمَّشِين.

بدأ التحريض الرسمي ضدّ الجمعيات المناهضة للعنصرية ضمن التقرير الذي أعدّه أحد مُستشاري “إيمانويل ماكرون” سنة 2018، بعنوان “صناعة الإسلاموية”، ويدعو التقرير إلى تعزيز الترسانة القانونية للتصدّي بفعّالية لكافة التيارات التي يعتبرها كتلة واحدة لا فَوارقَ بينها، ويُشرف نفس هذا المستشار على صياغة قانون “الانفصالية الإسلامية”.

وصف بعض الصحافيين الحملة المسعورة التي انطلقت منذ 16 تشرين الأول/اكتوبر 2020، ضد من وُضِعُوا في خانة المُسلمين، ب”المكارثية”، لأنها طالت أناسًا لا علاقة لهم بالإسلام السياسي ولا بالتّطرف، بل هم مدافعون عن حقوق الإنسان وعن قيم العدالة والمُساواة، في محاولة لإسكات أي صَوْت يُعارض سياسة الحكومة اليمينية، والمعادية لمصالح العُمّال والأُجراء والفُقراء، وشاركت قوى وشخصيات محسوبة على “اليسار” في حملة الكراهية والتشويه، وهو دَعْمٌ ثمين، بشكل مباشر أو غير مباشر للحكومة اليمينية جدًّا ورئيس الجمهورية، قبل حوالي سنة ونصف من موعد الإنتخابات العامة، أي أن هذا اليسار البرلماني المائع بصدد حفر قَبْرِهِ بنفسه… 

خلفيات استعمارية:

اشتهر “ألكسي دو توكفيل” ( 1802 – 1885) بكتابه “في الديمقراطية الأمريكية”، وبالبراغماتية السياسية، بمعنى “الغاية تُبَرِّرُ الوسيلة”، وكان من أشهر الأدباء الدّاعمين للإستعمار في الجزائر، وغير الجزائر، وبالنسبة لنا كعرب وكأبناء شعوب مُسْتَعْمَرَة، فهو مُفكّر سياسي عنصري واستعماري، وصاغ وثائق عديدة، بين سنَتَيْ 1837 و 1847، تدعو “فَرْض السّيْطرة التّامة (على الجزائر) بأقل التكاليف” وإنجاح عملية الإستعمار الإستيطاني، والإستحواذ على ممتلكات شعب البلاد الواقع تحت الإحتلال، ولو أدّى ذلك إلى استخدام “الأساليب القاسية والعنيفة”، ولكن لم يكن الوحيد بين الكُتّاب “الديمقراطيين اللائكيين المُحترمين”، فقد كتب “فيكتور هوغو” (1802 – 1885)، سنة 1841، وهو المُلقّب ب”شاعر الحُرِّيّة”:  “إن الغزو الجديد الذي قُمنا به في الجزائر، هام، جدّا، بل عظيم ومُفرح، فقد جعلنا الحضارة، حضارة شعبنا المُسْتَنِير، تنتصر على بَرْبَرِيّة ذلك الشعب الغارق في الظّلام… إننا الإغريقيون الجُدُد الذين سوف يُضيئون العالم…”، كما شَرّع العديد من مشاهير الأدب والفن، منذ القرن التاسع عشر، وإلى الآن، السيطرة على أراضي الشعوب، وسَلْبِ حُرِّيّتهم، ولو أدّى ذلك إلى تكثيف عمليات النّهب (المحاصيل والممتلكات) وارتكاب المجازر، والإعتقالات الجماعية والتّعذيب (حدّ القتل)، واستخدام النساء والأطفال رهينة، من أجل استسلام قادة المُقاومة، لأن حُدُود الدّيمقراطية واللائيكية وحقوق الإنسان، تتوقف في أوروبا وتقتصر على الأوروبيين، أي سكان أوروبا وأمريكا الشمالية ومستوطنات مثل أستراليا.

تُشكل الكراهيةُ تجاه المسلمين (باسم العلمانية) جزءًا من الخطاب اليومي للحكومة الفرنسية ومثقفيها ووسائل إعلامها ضد المسلمين، ويُحرّضُ هذا الخطاب على العنف ضد المسلمين داخل فرنسا وخارجها، وتبرير عدد من حوادث إطلاق النار والقتل خارج فرنسا، مثل: مذبحة في مسجدي مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا سنة 2019 (51 قتيل و 49 جريح)، ويدعو هذا الخطاب إلى التمييز المؤسسي والعنف، ولفرنسا تاريخ عريق (مثل بريطانيا) في العداء ل”شعوب الشرق”، وخاصة العرب، ولشعوب إفريقيا، ومنطقة بحر الكاريبي، وخاصة، بعد الثورة الفرنسية وانتكاساتها، ويُؤَرّخ العديد من العرب هذا العداء بحملة الفَرَنْجة (المُسمّاة زورًا “الحروب الصّليبية”)، ثم بالحملات الفاشلة لنابليون بونابرت، بنهاية القرن الثامن عشر، ومثّلَ احتلال واستيطان الجزائر صورة واقعية للإستعمار الفرنسي، الذي لا يكتفي باحتلال الأرض ونهب الثروات، وإنما يحارب اللغة والثقافة والحضارة والتاريخ…

اعتبر العديد من ديمقراطيِّي فرنسا، منذ القرن التاسع عشر “إن الإستعمارَ ضروريٌّ لضمان الهيمنة والتّوسّع، ويجب استخدام المَيْز الصّريح، والعقوبات الجماعية على سُكّان الجزائر (وغيرها من المُستَعْمَرات)، والحصار العسكري، ومنع التّجوال، وحَظْر ممارسة بعض المِهَن كالتجارة، بهدف إظْهار الحزم… ولا يمكن لفرنسا تحمّل مسؤولياتها التاريخية، بغير استخدام القُوّة، لإقامة مُستعمرات لها في كل مكان، والإستيلاء على أراضي السّكّان المحلِّيِّين وتهجيرهم، والسّماح للمواطنين الفرنسيين بالإستيلاء على ما يروق لهم من ثروات المُستَعْمَرات، بالقوة المُسلّحة، التي وجب رَفْدُها بقوانين خاصّة، تدعم استخدام القُوّة… ووجب على فرنسا تطبيق سياستَيْن مختلفتَيْن، لمُجتمَعَيْن مُختلفَيْن، سياسة تسمح للمُسْتوطنين الفرنسيين بالإستيلاء على أراضي وممتلكات السّكّان المَحَلِّيِّين، وتمنحهم حُرّيّة التّنقّل والحَركة، وممارسة أي مهنة، إلى جانب سياسة أخرى خاصة بالسّكّان المَحَلِّيِّين، تحرمهم من كافة أشكال الحُرِّيّة، لكي تَظَلَّ فرنسا (بجيشها) سيدة الموقف… “.

لا تزال الدولة الفرنسية تتدخل مُباشرة في عدد من البلدان الإفريقية والعربية، فتعزل أي رئيس يُعارض بعض مظاهر الهيمنة، وتفرض اللغة (واللغة ليست وسيلة تخاطب فحسب، بل وعاء حضري وثقافي وتاريخي) الفرنسية التي لا تزال سائدةً في المغرب العربي وفي معظم الدول الإفريقية المُحيطة بالصّحراء الكبرى، بينما يضطر الباحثون الفرنسيون لنَشْرِ بُحوثهم باللغة الإنغليزية، لغة الإمبريالية المُهَيْمِنَة، وتَستخدم الشركات الكُبرى ذات المَنْشأ الفرنسي (توتال أو رينو…) اللغة الإنغليزية خلال اجتماعات مجلس الإدارة، وفي بياناتها، ولا يزال التُّراث الإستعماري والشُّوفيني سائدًا في فرنسا، على كافة المُسْتَويات، سواء في قمة هرم الدّولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما في الإعلام السائد، وعزّز قانون شباط/فبراير 2005 النّظرة الإستعمارية، عبر إقرار مناهج دراسية تُبْرِزُ “محاسن الإستعمار”، كما لا تزال جيوش فرنسا مُوَرّطَة في كل الحُروب العدوانية التي تُقررها وتشنها الولايات المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي، وتدّعي أجهزة الدّولة الفرنسية (بقطع النّظر عن اللون السياسي للحكومة ولأغلبية نواب البرلمان) محاربة التطرف والإرهاب، وخاصة المنظمات “الإرهابية الإسلامية”، لكن المخابرات العسكرية، والفِرق الخاصة الفرنسية (كما الألمانية والبريطانية والأمريكية وغيرها) موّلت وسلّحت ودَرّبت عناصر الإرهاب في أفغانستان، ثم في سوريا وفي ليبيا وغيرها، ودعمت المجموعات الإرهابية في الجزائر، بهدف إضعاف الدولة والجيش، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ودعمت فرنسا الإرهاب الذي يختبئ وراء الإسلام، كما دعمت الحركات الإنفصالية الرّجعية، كما في شمال العراق وفي السودان أو في سوريا.

خلقت الحكومة الفرنسية “إسلامًا” على قياسها، يُمثّله مجلس إدارة مسجد باريس، كما دعمت سابقًا جمعيات مهاجرين دون أخرى، ودعمت خلال العقد الأخير من القرن العشرين جمعيات أسّسها الإخوان المسلمون في ضواحي المدن الكبرى الفرنسية، لمكافحة حركة الشباب من أبناء المهاجرين، للمطالبة بالمُساواة التّامة بين المواطنين، كما بالغت وسائل الإعلام في الحَفاوة بالأئمة الذين يتنصّلون من عُرُوبتهم، أو من صفتهم كأبناء مُستعمرات، وخاصة أولئك الذين مَدَحُوا الصهاينة، وشتموا الشعب الفلسطيني، بدعم أو بِصَمْتٍ من سلطات بلد المَنْشَأ (المغرب العربي أو تركيا)، ويؤيّد هؤلاء العُملاء إجراءات وممارسات أجهزة القمع الفرنسية، خلال تطبيق نظام “حالة الطوارئ”، وهو نظام قانوني يسمح باتخاذ تدابير مُقيّدة للحريات، وبنقل البلاد من حكم القانون إلى حالة إلغاء القانون، وإطلاق يد فيالق الأمن، ومَنْح صلاحيات استثنائية للسلطات الإدارية (أي لوزارة الدّاخلية وممثليها في المحافظات، بدل السلطات التشريعية والقضائية) وهو ما أدّى إلى اعتداء شنيع على حريات الآلاف من المواطنين، بعد العمل الإرهابي ليوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وإقرار قانون الطوارئ الذي تضمّن حظر التجول، وإغلاق بعض الأماكن، وحظر المظاهرات، والتفتيش الإداري والمُداهمات في أي وقت، دون قُيُود، وفرض الإقامة الجبرية على بعض المُشتبه بهم…

يُمكن تعريف إعلان “حالة الطّوارئ” بأنه وضع استثنائي يتمثل في الرّد الأمني والعسكري، على وضع أو على تساؤلات ذات صبغة سياسية، وأُعلِنت حالة الطّوارئ في فرنسا في سياق الحرب الإستعمارية الفرنسية بالجزائر، يوم الثالث من نيسان/ابريل 1955، بعد خمسة أشهر من إطلاق حرب التحرير، عبر الكفاح المُسَلَّح ( ثورة الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954)، ويسمح إعلان حالة الطوارئ، للحكومة، بزيادة التّضْيِيق عند تطبيق النصوص الأمنية، والحد من (أو إلغاء) الحقوق السياسية والحريات العامة للمواطنين، مع إشراف السلطة التنفيذية (وزارة الدّاخلية ووزارة الحرب) على سير الحياة اليومية، خاصة بالمناطق المأهولة بالسّكّان، ومناطق النشاط الإقتصادي، ما يَنْسِفُ مبدأ سيادة القانون، وكل الحواجز التي تحول دون التحول إلى دولة دكتاتورية، وما يُقَوّضُ مَدَنِية الدّولة، وما يسمى “المجتمع المدني”، وذلك باسم مكافحة الإرهاب، وكانت الدولة قد أقَرّت حالة الطّوارئ، سنة 2005، خلال انتفاضة شباب الضواحي والأحياء الشعبية (مناطق سكن الفُقراء) ضد البطالة وبَطْش جهاز الشرطة وإهمال أجهزة الدولة (عدا جهاز الشرطة وجهاز القضاء) لسُكّان هذه الأحياء، وكان رد الدولة أمْنِيًّا، بدعم من فِرَق القمع الصهيونية، لِيُعيد تَذْكير سكان هذه المناطق بأن الإدارة الإستعمارية لا تقتصر على إدارة شؤون المُسْتَعْمَرِين من الشعوب الأخرى، وإنما تمتد إلى داخل فرنسا، لإدارة شؤون أبناء وأحفاد من قاوموا الإستعمار الفرنسي، خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين…

لم يقع رَفْعُ حالة الطوارئ رسميا، منذ 2005، ولم يقع إلغاء قرارات أخرى للتضييق على الحُرّيات الفردية والجماعية، منذ 1995، بل وقع التذكير بإعادة إعلان حالة الطّوارئ، وتطبيقها مباشرة بعد اغتيال المُدَرِّس بضاحية “سنت هونورين”، ما أظْهر عجز الحكومة عن الرد على الأسئلة التي طرحتها الهجمات الإرهابية، ومكنتها، عبر إعلان حالة الطوارئ، من تجنّب النقاش في مسائل أساسية تتعلق بالسيات الدّاخلية وبالحُرُوب العدوانية العديدة التي يخوضها الجيش الفرنسي إلى جانب الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتمكنت الحكومة، من خلال تجنّب النقاش السياسي، من استهداف الفقراء، ممّن يُفترض أنهم مسلمون، اعتمادًا على مفهوم أو تعريف غامض ل”الإرهاب” الذي وقعت “أسْلَمَتُهُ”، لتصبح عبارة الإرهاب مُرادفًا للإسلام، أو بالأحرى للمسلمين، لتبرير معاملة من يُفْتَرَضُ إسلامُهم (أي العرب والإفريقيين وأبنائهم) من المواطنين الفرنسيين ك “أعداء داخليين”، كما كان الأمر في الجزائر زمن الإستعمار.  

نموذج الإعلام الرجعي، بغلاف “تقدّمي” و “لائيكي”:

تُعتبَر أسبوعية “شارلي هبدو” وريثة لصحيفة “هاراكيري”، وكانت صحيفة ساخرة، تعتمد الرسوم والمقالات القصيرة للتهكم من الرأسمالية ومن التيارات الإستعمارية الفرنسية ومن التيارات الرّجعية والكنيسة، ثم تغيرت وجهتها ببطء، إلى أن تسارع التّغيير نحو اليمين مع بداية القرن الحادي والعشرين، وتسارع وتيرة العدوان الأمريكي ضدّ الشعوب، بذريعة “محاربة الإرهاب”، خاصة منذ أصبحت المجلة تحت إشراف فريق انتهازي مُتَصَهْين، يتزعمه “فليب فال”، الذي لا يكتفي بإظْهار العداء للحركات الإسلامية، فكل حركة سياسية مُعَرّضَة للنقد، ولكن “شارلي هبدو” تنقدها من منطلق يميني استعماري، وتنقد الإسلام كعقيدة (وهذا مشروع) ولكنها تعتبر المسلمين خطرًا يهدد “العلمانية والحداثة واللائيكية” على الطريقة الفرنسية، ومناهضين لثقافة الأنوار، ومُعادين لقيم الجمهورية الفرنسية، وفي هذا الإطار أعادت تدوير رسوم نشرتها صحيفة دنماركية يمينية متطرفة سنة 2005، وجمعت المجلة، من خلال حملة تضامن معها ضد التّهديدات التي صدرت عن مجموعات يمينية إسلامية متطرفة، نحو 37,5 مليون يورو، بحسب البيانات المنشورة، واختصم طاقم المجلة بشأن استخدام هذا المبلغ، وانقسم الفريق إلى فريقين، مع استقالة بعض المُحَرِّرين والرسامين، ودأبت المجلة على إعادة نشر نفس الرسوم، كلما انخفضت المبيعات، وعادت الضائقة المالية، وهي رُسُوم رديئة من الناحية الفَنِّيّة، وبذيئة المحتوى وإباحية مُسيئة لنبي المسلمين وتخدش مشاعر المسلم وغير المسلم، وتعرضت المجلة للشتائم وللهجوم كلما أعادت نشر الرسوم البذيئة، ليقترب طاقم الصحيفة أكثر فأكثر من أطروحات اليمين المتطرف، واختلاق عدو داخلي (من الفُقراء و”المنبوذين”)، يستدعي “إجماعًا قَوْمِيًّا” ضد “المسلمين” (المُفْتَرَضِين) الهمج الذين “يتربّصُون بقيم الجمهورية”، ولم تعد الصحيفة ترى الممارسات العُنصرية لأفراد الشرطة ولأفراد أو مجموعات من اليمين المتطرف ضد الرجال والنساء من ذوي البشرة السمراء أو السوداء، وضد دور عبادة المسلمين، وشكل خطاب الرئيس الفرنسي (خطاب برائحة الحملة الإنتخابية المبكرة) عن “الإنفصاليين المسلمين” دعمًا لليمين المتطرف، والتفافًا عن المشاغل الحقيقية للمواطنين، كالبطالة والفقر وتعميق الفجوة الطبقية، واستهدافًا لمجموعة من السّكّان يَسْهل الهجوم عليها لأنها في أسفل السُّلَّم الإجتماعي، وبذلك اندمج اليمين الذين كان البعض يعتبره “مُعتدلاً”، مع اليمين المتطرف، ومع مجموعة من الإعلاميين والباحثين والمستشارين المتصهينين الذي مكّنَهم الإعلام الحكومي من كيل المديح للصهيونية، ومن بث سموم العنصرية وتقسيم الكادحين والفُقراء وتحْقِيرِهم، بذريعة مكافحة خطر الإرهاب الإسلامي، لتعود بذلك الأطروحات والأفكار الإستعمارية التي سادت في القرن التاسع عشر، إلى الواجهة، مع اختلاف بسيط في الشكل، بحكم التطور الزمني… 

خلفيات عقائدية:

خسرت فرنسا وبريطانيا دَوْرَهُما الإستعماري الرّيادِين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهُزِمت الإمبريالية الفرنسية في فيتنام، سنة 1954، ثم في الجزائر (1962)، لتصبح الولايات المتحدة، قاطرة الإمبريالية، خصوصًا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، حيث توسّع دَوْر حلف شمال الأطلسي، في العدوان على العديد من البلدان، من يوغسلافيا إلى ليبيا، مرورًا بأفغانستان، كما استغلت الولايات المتحدة تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، لسن قوانين سالبة للحريات، على الصّعيد الدّاخلي، وشن سلسلة من الحُروب العدوانية على بلدان “الجنوب”، وأصبحت تِعِلّة “مكافحة الإرهاب” ذريعة لتشديد القمع في الدّاخل وللعدوان على الشعوب ونهب ثرواتها، في الخارج، وشاركت الجيوش الفرنسية (بدعم من معظم الأحزاب البرلمانية) في كافة الحُروب العدوانية، باستثناء احتلال العراق (سنة 2003، قبل أن تشارك القوات الفرنسية الخاصة في العدوان، بعد بضعة أشهر)، وأصبحت هذه “الحرب على الإرهاب”، بمفهومها الغامض، مُبَرِّرًا لجميع الأزمات، الدّاخلية منها (في كل البلدان الرأسمالية “الغربية”) والخارجية، وتحولت “الحرب على الإرهاب” إلى حرب شاملة “عادلة”، تقودها القوة الإمبريالية الأضخم، وجعلتها الولايات المتحدة (ودول حلف شمال الأطلسي) أداة لتحليل الوضع الدّاخلي، والخارجي، ولا تشُذُّ فرنسا عن هذه “القاعدة” الجديدة، بل كان الجيش الإستعماري الفرنسي سَبَّاقًا في وَضْع أُسُس مكافحة “العدو الدّاخلي”، وصَدّرت الإمبريالية الفرنسية خبراتها في قمع الجزائريين (في الجزائر كما في فرنسا) إلى أمريكا الجنوبية وإلى فلسطين المحتلة، لإفادة الكيان الصهيوني في مجال قَمْع وتهجير وإبادة الشعب الفلسطيني، ورَدَّ الكيان الصّهيوني الجَمِيل بإرسال خُبراء في قمع “العرب”، لمساعدة المخابرات وقوات القمع الفرنسية، أثناء انتفاضة شباب الضواحي الفرنسية، في تشرين الأول/اكتوبر 2005…

تسْمَحُ “الحرب على الإرهاب” باستغلال ردود الفعل العاطفية للمواطنين، وهي مَشْرُوعة، وإقرار قوانين زَجْرِيّة جديدة، تُعفي المؤسسات الحاكمة، والإعلام، من مناقشة الأُطروحات السياسية للمُعارضين، وبالتّالي عدم الرّد عليها، كما ينتفي طرح سؤال “لماذا” تنتشر الجيوش الفرنسية (وغيرها) في بلدان لم تُهاجم أحدًا؟ أو حتى “ما هي دوافع وجود الإرهاب” في فرنسا أو في غيرها من البلدان؟ ويتمثل “الرّد” الحُكومي الوحيد في تكثيف العمل العسكري والإجراءات القمعية، الإستباقية، ما ينفي عنها صفد “الرّد”، فهي تدخل نَظَرِيًّا، في باب “الوقاية” من عَدُوٍّ غير مُحَدّد المعالم، ومن عمليات “إرهابية” لا يدري أحد كيف تم اكتشاف “نِيّة” القيام بها، وتُصبح هذه النّوايا (نوايا الإرهابيين) مُبَرِّرًا لإقرار حالة الطوارئ، ولشن “الحرب على الإرهاب، بشكل مُستمر، وأصبح “الإرهاب” و”مكافحة الإرهاب”، مُبرّرًا لهيمنة تيار “المحافظين الجدد” (أو النيوليبرالية) على أجهزة الحُكم في الدّول الرأسمالية المتطورة…

تراكمت، في القانون الفرنسي (وغيره) ترسانة من العقوبات بدعْوى “مكافحة الإرهاب”، ومع مرور الزمن، تبَيَّن للمُغَفَّلِين والواهمين إن حالة الطوارئ ليست مجرد نظام قانوني يستجيب لحالة الإرهاب، بلهي استراتيجية للسيطرة التّامة على المجتمع، زلرَدْع أي مُعارضة للسّلطة، وأدى العمل بقوانين الطّوارئ وإقرارها في القانون المدني العام، إلى تطورات مقلقة قَضَمت حُرّيّة التعبير، والحُرّيات الفردية، وكذلك النقابية والسياسية، وإلغاء بعض المبادئ القانونية الأساسية، مثل افتراض البراءة، وعبء الإثبات على المُدّعِي، والإثبات المادّي للجرائم، وغيرها وتحولت طبيعة الدّولة “الدّيمقراطية” من مبدأ سيادة الحُرّيات إلى سيادة قوى الأمن، باستغلال أي حدث صادم…

إن العديد من المقترحات الواردة في مشروع القانون ضد الانفصالية الإسلامية تهدف تقسيم المُضْطَهَدِين والمُسْتَغَلِّين والفُقراء، وتعزيز صلاحيات أجهزة المخابرات وتوسيع منطق الشك في جزء من المواطنين، من أبناء المُستعمَرات، وما هذا المشروع الجديد سوى مُواصلة لما تراكم من قوانين سالبة للحُرّيات، منذ سنين عديدة، ومنها اعتراض المخابرات على توظيف مجموعة من الأشخاص في وظائف معينة، ومن بينها شركات النقل والعناية بالطفولة والعمل الإجتماعي والتّعليم وغيرها، قبل خضوع المُتَرَشّح (دُون عِلْمِهِ) لتحقيق إداري تجريه وزارة الداخلية التي توسّعت صلاحياتها، لتمنح شهادات تُصَنِّفُ المُسلمين إلى “عادِيِّين”، وهم قِلّة، وإلى مُتطرفين، وإرهابيين، وأعداء داخليين، وهم الأكثرية، وكل ذلك باسم “القيم الجمهورية” و “محاربة الانفصالية”…

أما التّطَرُّف والعقوبات الجماعية والإغتيال وقطع الرّؤُوس، فلم تبدأ مع مجموعات الإرهابيين “الإسلاميين” (الذين يَدّعون تطبيق الشريعة الإسلامية)، بل هي ممارسات استعمارية، عانى منها الشعب الجزائري، على سبيل المثال، حيث استولى الجيش الفرنسي المُحتل (بداية من سنة 1830) على المساجد وحولها إلى كنائس وكاتدرائيات، ومنها جامع “كتشاوة” (سنة 1832) بالعاصمة والذي بُنِيَ سنة 1612، ثم ارتكب الجيش الفرنسي المُحتل عمليات إبادة، منها إبادة كافة أفراد قبيلة “العُوفِيّة”، مع الإستيلاء على جميع ممتلكاتها، وقام الجيش الفرنسي باغتيال الأئمة والمثقفين ومن سُمُّوا “العلماء”، المناهضين لاحتلال بلادهم، كما قتل جيش الإحتلال الآلاف من ممن ثاروا، وقاوموا الإحتلال، منذ 1830، بقيادة الأمير عبد القادر ( 1808 – 1883)، طيلة خمسة عشر سنة، أو بقيادة الشيخ “أحمد بوزيان” خلال معركة واحة “الزعاطشة”، في الجنوب الشرقي (قُرب بسكرة، على الحدود التونسية)، مباشرة بعد القضاء على المقاومة المسلحة التي قادها الأمير عبد القادر، ودامت معركة “الزعاطشة” أربعة أشهر، من منتصف تموز/يوليو إلى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1849، وخسر الجيش الفرنسي العديد من الضباط والجنود، في مواجهة مُقاومين لا يمتلكون سوى أسلحة بدائية، ولكنهم يدافعون عن وطنهم، وواحتهم، مصدر رزقهم، وارتكبت قواة الجيش الفرنسي مجازر ضد سكان الواحة، وقطع ضباط جيش الإحتلال رُؤوس “أحمد بوزيان” وابنه (16 سنة) والعديد من المقاومين، يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1849، وعلّقوا رؤوسهم المقطوعة في مدينة “بسكرة”، قبل نقلها إلى متحف “اللوفر” في باريس، حيث تحتفظ فرنسا إلى غاية سنة 2020 بعشرات الرؤوس المقطوعة للمقاومين، ك”غنيمة حرب”، وهي ممارسة لا يرتكبها سوى الهمج، فيما تدّعي دولة فرنسا أن العرب والأفارقة “هَمَج”، وبعد مفاوضات دامت عقودًا، استعادت الحكومة الجزائرية، يوم الثالث من تموز/يوليو 2020، رؤوسًا مقطوعة لأربعة وعشرين مُقاوم، كما أبعدت سلطات الإحتلال من تبقّى حيًّا من أنصار الشيخ “محمد المقراني” (1810 – 1871) إلى جزيرة “كاليدونيا الجديدة”، وتقع بين إفريقيا وأستراليا (ولا تزال مُستعمَرة فرنسية لحد الآن)، ونهبت سلطات الإحتلال الحبوب والمحاصيل الزراعية الجزائرية، وأرسلتها إلى فرنسا، ليعيش الشعب الجزائري، الواقع تحت الإحتلال، مجاعات متتالية، قتلت الآلاف كل سنة، وحاول جيش الإحتلال الفرنسي كَسْر إرداة الشعب الجزائري، عبر هدم عشرات البلدات والقرى. 

يوجد ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي فرنسي في بوركينا فاسو وساحل العاج وجيبوتي والغابون والنيجر ومالي وموريتانيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد والسنغال، لكن برنامج “أفريكوم” عَزّز الوجود العسكري الأمريكي في نحو 33 دولة، خلال عقد واحد…

تُهيمن فرنسا على دُول غرب إفريقيا (ويعيش حوالي مليوني مواطن منها في فرنسا)، اقتصاديا وثقافيا، من خلال العُملة المُوحّدة التي يُشرف عليها المصرف المركزي الفرنسي، مقابل إيداع نصف الإحتياطات المالية لثمانية بلدان بخزينة المصرف المركزي الفرنسي، وسبق أن خلقت حكومة فرنسا، سنة 1994، أزمة حادة في إفريقيا، لما قرّرت خَفْضَ قيمة الفرنك الإفريقي بنسبة 50%، ولا تزال فرنسا تُهيمن على اقتصاد غرب إفريقيا، ولكن المنافسة الإقتصادية احتدّت مع الصين، بينما أصبحت المنافسة العسكرية الأمريكية تُهَدّدُ السيطرة الإقتصادية والعسكرية الفرنسية، لكن بقيت الهيمنة الثقافية الفرنسية طاغية من خلال استخدام اللغة الفرنسية كلغة رسمية في العديد من المُستعمَرات السابقة، بما فيها المستعمَرات العربية، في المغرب العربي ولبنان، بينما لا تُنْشَر باللغة الفرنسية سوى نسبة 4% من البُحوث العلمية والدّراسات، في العالم، كل عام.

تُهيمن الشركات متعددة الجنسية (فرنسية المَنْشَأ) على قطاعات الموانئ والطاقة والنفط وعلى قطاع الفلاحة وعلى المواد الخام (الماس واليورانيوم)، وللشركات الفرنسية الأوْلَوِيّة المُطْلَقَة في العقود الحكومية، واستغلال الموارد وتنفيذ الأشغال وتتحكم الشركات الفرنسية في معظم المرافق (الماء والكهرباء والإتصالات والنقل والمرافئ الجوية والمائية والمصارف…) في ساحل العاج والسنغال والغابون وتوغو وغيرها، حيث تعمل نحو 1500 شركة فرنسية ويعمل بهذه الدول حوالي مليون فرنسي في كافة الميادين، برواتب مرتفعة، ويُسيطرون على شبكة التجارة وعلى قطاعات أساسية، في المُستعمرات الفرنسية السابقة، وعمومًا، تمكنت فرنسا، عبر الفرنكفونية والفرنك الإفريقي من المُحافظة على هيمنتها واستنزافها الموارد الطبيعية لإفريقيا، واحتكار شبكات التجارة والإقتصاد والمال، وغير ذلك، ونظّمت فرنسا انقلابات في عدد من الدول التي حاول قادَتها الخروج من عباءة فرنسا، وعلى سبيل المثال، أعلن مُدبِّرُو الإنقلاب في جمهورية “مالي”، سنة 2012، اعتزامهم التخلي عن استخدام الفرنك الإفريقي (وهو في الواقع فرنسي)، تدخّلت فرنسا عسكريًّا ووجد الإنقلابيون الجيش الفرنسي (وليست قوة محلية من مالي) في مواجهتهم، ولا يزال الجيش الفرنسي يحتل البلاد، بعد ثماني سنوات.

تُعرقل الهيمنة الفرنسية (وغير الفرنسية) عملية التنمية، وتخلق الظّروف الموضوعية للإستعمار الجديد (أو الهيمنة الإمبريالية)، الذي يُديم وضْع التخلف والتبعية، ولا تزال 13 دولة إفريقية تُسَدّدُ أقساطًا مالية بقيمة حوالي خمسمائة مليار دولارا، سنويا، لفرنسا، منذ 1960، بعنوان “دُيُون ثمن إنجاز البنية التحتية” خلال فترة الإستعمار المباشر، كما لا أحد يعرف حجم احتياطي النقد الأجنبي لدول مجموعة “سي إف إيه” (مجموعة إيكو حاليا) بغرب إفريقيا، لأن المصرف المركزي الفرنسي يستخدمها، كما يستخدم 500 مليار دولارا أخرى (أقساط الديون)، لإنعاش الإقتصاد الفرنسي، وللمضاربة بها في أسواق المال…

من هذه المُستعمرات جاء مُعظم المهاجرين إلى فرنسا، واقتيد مئات الآلاف منهم من القرى النائية إلى المصانع والورشات الفرنسية لإعادة إعمار ما خربته الحُروب العالمية الأولى والثانية، وأصبح هؤلاء المهاجرون وأبناؤهم مُقيمين في فرنسا بشكل دائم، أو مواطنين فرنسيين، ولم تُشكل الهجرة “غَزْوًا” أو “احتلالاً”، كما يدّعي اليمين المتطرف، وإن حصل ذلك بالفعل فقد حصل من جانب الجيش الفرنسي في الجزائر وفي مستعمرات بحر الكاريبي وفي كاليدونيا الجديدة، و”لارينيون” (قرب مدغشقر)، أو كما حصل في نيوزيلندا وأستراليا وأمريكا الجنوبية والشمالية، حيث أباد الغُزاة الأوروبيون الشعوب الأصلية، أو في فلسطين، حيث وقع تهجير وطَرد حوالي 85%  من سُكّان الأراضي التي وقع احتلالها سنة 1948، بدعم من القوى الإمبريالية وفي مقدمتها الإمبريالية الفرنسية، منذ 1916 ( اتفاق الإمبرياليتَيْن البريطانية والفرنسية، فيما اشتهر باسم اتفاق “سايكس” و “بيكو” ) إلى الآن…

هذه خلفيات الإيديولوجيا الإستعمارية السائدة في فرنسا، وجُذُور الحملات المُستمرة ضد المواطنين الذي جاء أباؤهم من المُستعْمَرات العربية والإفريقية، وأصبحوا يُدْرَجُون ضمن “المُسلمين”، وأصبحت عبارة “مُسلم” ترمز إلى الإرهاب والتّطرّف، ما يُشرّع الدعوة إلى وحدة “غير المسلمين” في إطار “وحدة وطنية”، تقودها القِيم الإستعمارية العنصرية، وبذلك تنجح الرأسمالية الفرنسية الحاكمة في تقسيم ضحاياها من العاملين والفُقراء، وإلغاء قضايا الإستغلال والإضطهاد من قاموس النضالات والإحتجاجات والمطالب الشعبية…

إن القتل عمل شنيع، لكن رُدُود الفعل التي تُشرف عليها وتُديرها الحكومة ومُؤيّدُوها تحولت إلى طوفان من الكراهية المعادية للإسلام وللمسلمين في البرلمان وفي وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها، ما يمكن اعتباره “إرهاب دولة”، طال اللغة العربية (منذ حُكم الحزب “الإشتراكي” سنة 1981) التي أصبحت شبه ممنوعة في المدارس والمحلات.

جندت فرنسا الإستعمارية نحو 250 ألف شاب من المغرب العربي، للقتال (باسم فرنسا) خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918)، وحوالي 250 ألف آخرين لإعادة بناء ما هدّمته الحرب، بعد سنة 1918، وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، جند الإستعمار الفرنسي أجداد شبابا الضواحي الفرنسية، للقتال “دفاعا عن فرنسا”، فقُتل من قُتل ووقع الآلاف في الأسْر، ومن نجا منهم،  ساهم في إعادة بناء ما دَمّرَتْهُ الحرب، أما جيل الآباء فقد وقع جَلْبُهم من مناطقهم الأصلية في إفريقيا (ومنها المغرب العربي)، لبناء المنازل التي لم يتمكنوا من العيش فيها، ولتصنيع السيارات التي لا تُمكنهم مرتباتهم الهزيلة من امتلاكها وقيادتها، فهم يذهبون للعمل، كل صباح، في الحافلات أو في مترو الأنفاق المكتظ أو على الدراجات البخارية القديمة، خلال عقد الستينات والسبعينات من القرن العشرين، لجمع نفايات وقمامة السكان، ولكنس وتنظيف الشوارع من بقايا السجائر وفضلات الطعام، وغير ذلك… يُطالَبُ أبناء وأحفاد هؤلاء الكادحين بإثبات ولائهم “للجمهورية” (وكأن لا جمهورية غيرها في العالم)، و”اندماجهم” في النسيج الإجتماعي والحضاري والثقافي الفرنسي، لكن حُرّاسَ هذه “الجمهورية” لا يطلبون من أبناء وأحفاد المهاجرين الأوروبيين إثبات ولائهم واندماجهم… يُخَلّف هذا المَيْز العنصري جروحًا لن تندَمِلَ بسهولة، ويشمل هذا الميز السكن والعمل والدّراسة، بالإضافة إلى الإستفزازات اليومية من قِبَل جهاز الشرطة، واعتماد جهاز القضاء لتقارير الشرطة، دون التمحيص وإعادة التحقيق، بحسب تقرير “المدافع عن حقوق الإنسان” لسنة 2014 (وهو وزير سابق في حكومة يمينية)، الذي أكّد تقريره أن الشرطة تراقب ما لا يقل عن 80% من “الشباب السود والعرب من أصل مغاربي” مقابل أقل من 16% ممن تبدو ملامحهم “أوروبية”، واستنتج التقرير “إن كثرة عمليات التفتيش على فئة من السكان تغذي الشعور بالتمييز وعدم الثقة في الشرطة والمؤسسات القضائية لدى من يتعرضون لها  [14] . ، وذكر التقرير حالات تعرض الشبان السود والعرب للمراقبة من ثلاثة إلى عشر مرات، خلال يوم واحد، في ضواحي باريس، وترفض الدّولة الاعتراف بوجود أي تمييز ضد الأقليات الاجتماعية، بينما تُظْهر الإحصائيات الجُزْئية بشأن استفحال العداوة ضد المهاجرين، أو حتى المواطنين الفرنسيين، من أبناء شعوب المُستعمَرات الفرنسية السابقة، العربية والإفريقية، ففي سنة 2019، أحصت إحدى المنظمات الفرنسية 1043 حالة عداء وعنصرية ضد المسلمين في فرنسا، وهي الحالات التي وقع تبليغها لهذه الجمعية، (ويُقدّر أنها تُمثّل أقل من 10% من العدد الحقيقي ناهيك عن حالات التمييز التي تمارسها الشرطة والقضاء ومؤسسات التعليم)، بزيادة 77% عن سنة 2018، و 68 اعتداء جسدي و618 حالة تمييز واضح و 210 حادثة تحريض علني على الكراهية والعنصرية ضد أناس يُفترض أنهم مسلمون، و93 حادثة تشهير و 22 حادثة تخريب لأماكن عبادة أو مَدافن إسلامية، و32 حالة تمييز (غير مُبَرّرة) بذريعة “مكافحة الإرهاب” الذي ساهمت المخابرات العسكرية الفرنسية في خَلْق تنظيماته في أفغانستان، ثم في سوريا وفي ليبيا وغيرها، وفي دعم المجموعات الإرهابية في الجزائر، بهدف إضعاف الدولة والجيش، ودعمت فرنسا الإرهاب الذي يختبئ وراء الإسلام أو الإنفصال، كما في شمال العراق وفي السودان أو في سوريا.تكمن جُذور الهجمات المتكررة ضد “المُسلمين” في فرنسا في الطبيعة الإستعمارية لأجهزة الدولة والإعلام وبرامج التّعليم، وما يمكن التعبير عنه بالإيديولوجيا السائدة، كما تكمن في التقسيم الطّبَقِي للمجتمع، فالمسلمون (المُفْتَرَضُون) هم من المهاجرين وأبنائهم، ومعظَمهم من المُستعمرات الفرنسية، وهاجروا من أرياف وضواحي مدن المغرب العربي وإفريقيا الغربية والوسطى، وهم كعاملين، في أسفل درجات السّلّم الإجتماعي، ومعظمهم من ذوي المؤهلات الدّراسية والمهنية المُتدنّية، وبحكم وضعهم الطّبقي، وقع حَشْرُهُم، مع بقية الفُقراء، في الضّواحي الفقيرة للمدن الفرنسية، وليس لهم تنظيمات سياسية أو نقابية أو مَدَنية أهْلِيّة تدافع عن مصالحهم، لذلك تَيَسَّرَتْ مُهاجمتهم من قِبل الشرطة والقضاء والأحزاب السياسية اليمينية، والمجموعات المتطرفة، فيما استغلّت منظمات “الدّين السّياسي” المتطرفة الفراغ السياسي، وكذلك إحْباطَهُم وخيبَةَ أملهم، ومشاغلهم، لتوجّهها نحو الحُلول الوَهْمِيّة “الرّبّانية”، بدل البحث عن حُلُول “دُنْيَوِيّة”، من خلال تجميع الفُقراء والكادحين، مهما كانت ألوانهم ودياناتهم وجنسهم… 

الفرنكفونية، إعلان حرب على اللغة والثقافة والحضارة العربية:

كانت جامعة “السّربون” الفرنسية من أكبر مراكز تخريج دكاترة اللغة والآداب العربية (تخرّج منها طه حسين)، خلال فترة الإستعمار المُباشر، وأصبحت اللغة العربية اليوم مُطارَدَة وشبه محظورة في فرنسا، لأنه غالبًا ما يُنظر إليها على أنها لغة القرآن، وهي فعلا كذلك، لكن اللغة العربية موجودة نُطْقًا وكتابة، قبل القرآن بقُرُون، ومعظم المسلمين لا يتحدثون العربية، وقسم هام من العرب غير مسلمين، واتفقت أحزاب اليمين واليسار البرلماني على مُطاردة اللغة العربية، في إطار اضطهاد أبناء وأحفاد المهاجرين من المُستعمرات العربية والإفريقية، الذين يقدّر عدد الناطقين منهم بالعربية بنحو ثلاثة ملايين شخص، واعتبر رُموز اليمين أن تعليم اللغة العربية في المدارس الرسمية (حتى لا تستحوذ تيارات الدين السياسي على تعليم العربية) “مُحاولة لتعريب فرنسا”، واعتبرت نائبة برلمانية من حزب الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي “إن تدريس اللغة العربية يمكن أن يقوض اللحمة والتماسك الوطنيّيْن”، وأدى هذا العداء للغة العربية إلى إلغائها من معظم مؤسسات التعليم في فرنسا، ما أدى إلى انخفاض عدد مُتعلميها إلى أقل من 15 ألف في المرحلة الإعدادية والثانوية، في بداية العام الدراسي 2019، وفقًا لوزارة التربية الفرنسية، من إجمالي أكثر من 5,6 ملايين طالب، بينما يبلغ عدد مُتعلمي اللغة الصينية، خلال نفس السنة، حوالي 15,5 ألف مُتعلّم، بحسب بيانات نفس الوزارة، ويضطر حوالي خمسين ألف تلميذ (تعليم ابتدائي) لدراسة اللغة والحضارة العربية، خارج أوقات الدّراسة، بالشراكة مع حكومات الجزائر والمغرب وتونس، التي ترسل مُدرّسين (يقع اختيار معظمهم بالوساطة والرّشوة) وتُسدّد هذه الدّول رواتبهم، ويلجأ أولياء التلاميذ لهذا الشكل، بسبب رفض وزارة التعليم الفرنسية فتح فصول اللغة العربية، وبسبب الهجوم المنهجي والحط من قيمة تدريس اللغة العربية، من قبل الدولة الفرنسية وإعلامها، وكذلك من قِبَل بعض العُملاء أصيلي المُستعمَرات (منهم البربر المُرتبطون بتيارات اليمين المتطرف، كما بتيار الحزب “الإشتراكي” الفرنسي، وهو حزب استعماري).

اختصّت فرنسا بهذا العداء للغة العربية، دون بقية الدّول الأوروبية الأخرى، حيث لا يولّد تعليم اللغة أو الموسيقى العربية التوتر الحاصل في فرنسا، حيث امتزج الماضي الإستعماري بحاضر الهيمنة الإمبريالية، الإقتصادية والثقافية، بواسطة “الفرنكفونية”، إذ تعمل فرنسا على فَرْض اللغة الفرنسية في المغرب العربي وفي إفريقيا، ولكن أطلق الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” دعوة (ضمن حديثه عن “مكافحة الإنفصالية” ) لمراقبة تعليم العربية، لكي لا تسيطر عليها الجمعيات الإسلامية وأئمة المساجد، وقدّرت مصادر حكومية أن هذه الجمعيات الدينية تستقبل نحو ستين ألف من الأطفال الذين يتعلمون اللغة العربية، بواسطة تعليم القرآن، بسبب اعتراض الدّولة على تعليمها في المدارس الرسمية…

في مقابل العداء للغة والحضارة العربية، تعمل الدّولة الفرنسية على نشْرِ (بل فَرْض) “الفرنكفونية”، وهي مسألة تتجاوز اللغة الفرنسية، لتشمل الإستعمار الثقافي أو الهيمنة الثقافية، والقُرُوض المَشْرُوطة بدعم تعليم اللغة الفرنسية في مختلف مراحل التعليم، لأن اللغة جزء من الهوية ومن تكوين شخصية المُتَعَلِّم، ومَحْو اللغة والثقافة والحضارة العربية، في المغرب العربي ولبنان وبلدان أخرى، لم تستعمرها فرنسا مباشرةً، مثل مصر…

الفرنكفونية هي منظومة ثقافية، بدأت بالتزامن مع انسحاب فرنسا الشكلي من معظم البلدان الإفريقية، سنة 1960 (أول مؤتمر للفرنكفونية)، بهدف ترسيخ استعمار بديل (اقتصادي وثقافي ناعم؟) وصيانة الأهداف الإستراتيجية الفرنسية، التي يُدافع عنها حُكّام يمثّلون الإمبريالية الفرنسية في تونس (الحبيب بورقيبة ومجموعته) وفي السنغال (ليوبولد سيدار سنغور)، والخلط بين اللغة والثقافة الفرنسية، وقيم “التّنوير” و”الحَداثة”، وهي مُغالَطَة، لأن القِيَم لا ترتبط بلغة ولا بمكان، بل يُدافع هؤلاء الحُكّام و”النُّخَب” عن هيمنة الإمبريالية الفرنسية التي أصبحت تعتمد الإقتصاد واللغة والثقافة كأداة للسيطرة الإستعمارية، بدل القُوّة المُسَلَّحَة، واختراق المجتمع عبر مؤسسات وبرامج التعليم، لتدريب وتأهيل برجوازية وحُكّام المُستقبل، المُتَشَبِّعِين بلغة وثقافة وفِكْر المُسْتَعْمِر الفرنسي، فيستهلكون السلع الفرنسية، ويشترون السيارات والآلات الفرنسية، التي تتطلب بدورها صيانة وقطع غيار مستوردة من فرنسا، ويرسلون أبناءهم للدراسة في فرنسا، ولئن كانت العربية هي اللغة الرسمية في بلدان المغرب العربي، فإن الفرنسية لغة التعليم والبحث والمصارف، وهي اللغة الرسمية في كافة المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، حيث تم القضاء على اللغات المحلية، ومن بينها العربية في شمال “مالي” و “تشاد”، أو لم يقع تطويرها، لكي تذوب مع الزّمن، ويَقَع طَمْسُ هوية وثقافة الشُّعُوب الأصلية، لِتُصْبح الفرنكفونية لُغة وثقافة وشبكة مفاهيم وإيديولوجيا، وأداةً لهيمنة المشاريع الإمبريالية الفرنسية، بأشكال جديدة، والإبقاء على مصالحها الإستراتيجية، بعد الإنسحاب العسكري (الجُزْئي أحيانًا)، على المستوى السياسي (لارتباط “النُخَب” بفرنسا) والإقتصادي والثقافي، في البلدان التي استعمَرَتْها مُباشرة، أي المغرب العربي ولبنان وسوريا (بالنسبة للوطن العربي)، حيث أفْشَل اللوبي الفرنكفوني المحلي مشاريع تعريب التعليم…

خلقت الفرنكفونية صحافة ووسائل إعلام وثقافة فرنكفونية، في البلدان العربية، تدعمها ماليًّا وتقنيا، الوكالة الفرنسية للتنمية والوكالة الدّولية الفرنكفونية، وفَرضت فرنسا تقديم أشرطة سينمائية في مهرجانات بفلسطين المحتلّة، لمخرجين كانوا محسوبين على التيارات التقدّمية، لأن فرنسا شاركت بنسبة 20% أو 25% في تمويلها، باسم الفرنكفونية، فيما مولت الجزائر أو المغرب أو تونس نسبة 75% أو 80% من تكاليف الأشرطة، بالإضافة إلى ترويج النّظرة الإستشراقية بخصوص تاريخ وحضارة وثقافة مُجتمعاتنا العربية، وادّعى الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في تونس (شباط/فبراير 2018): ” إن الفرنكوفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة”، والواقع أن الفرنكفونية، التي تدّعي الحداثة والتّنوير، هي أداة تغريب لُغَوِي وفكري وثقافي، ومشروع مُضاد للغة والهوية العربية وللعروبة، واحتقار لها، ويظهر ذلك بجلاء في الأشرطة السينمائية التي مَوّلتها (أو ساهمت في تمويلها) الوكالة الفرنكفونية أو مؤسسات فرنسية…

“قِيم الجُمهورية” المَطّاطة:

أقرّت مراسيم الجمهورية الأولى التي نتجت عن الثورة الفرنسية، سياسات تقدّمية، ومنها مرسوم 1790 بحق الأجانب في العيش وحق المُواطَنَة والحصول على الجنسية الفرنسية، بطريقة أبسط بكثير من اليوم، واعتبرت كل من يعيش في فرنسا، مواطنًا، بغض النظر عن الأصل أو الدين. أما الجمهورية الفرنسية الحالية (الخامسة) فهي وريثة الجمهورية الاستعمارية الثالثة التي تطالب “بحق الأمم المتحضرة في غزو أراضي الشعوب البربرية”، ليصبح مفهوم الجمهورية أداة لتبرير سيطرة القوى المُهَيْمِنَة، ولتتحول القيم الجمهورية (الحرية والمساواة والأُخُوّة) وكذلك العِلْمانية، إلى أداة للتلاعب، ووسيلة لبناء هوية قومية متخيلة واستغلال ميراث الثورة الفرنسية، لتعيين خصم أو عدو وَهْمِي، وهذا العدو ليس الرأسمالي المستغِل ولا مضطِهد النساء والفقراء والشعوب ، بل هو العربي، أو المسلم المفترض (أو الوهمي) الذي “يهدد بتدمير هذه الجنة التي تسمى فرنسا”.

لقد نجحت الطبقة الحاكمة (البرجوازية، الرأسمالية) في تقسيم الطبقة العاملة، أي العمال والفقراء والمظلومين ، باسم “القيم الجمهورية” التي أصبحت أدوات للدفاع عن الاعتداءات العسكرية على الشعوب (من أفغانستان إلى مالِي)، وأداة لتبرير الاضطهاد والتّمْيِيز، بين سُكّان البلاد، على أساس اللون والجنس والأصل والدّين المُفْتَرَض، ووسيلة لمُطارَدَة المُهاجرين، كما لتبرير خصخصة المرافق والخدمات العامة، إلخ.

استمدّت الدّولة الرأسمالية في فرنسا وغيرها، قُوّتها من ضخامة أجهزة القمع، وكذلك من قُدْرتها على تقسيم صُفُوف ضحاياها، ولذلك يجب على التّقدُّمِيِّين الدفاع عن حرية التعبير، ومحاربة العنصرية معًا، ولا يمكن تَرْك المَجال للأصوليين القوميين المُتطرفين (اليمين المتطرف)،لادّعاء معارضة الأصوليين الدينيين المُسلمين، دون غيرهم، وتدعي السلطة السياسية أنها تحارب الأصولية الدينية (للمسلمين فقط) ولكنها وفّرت كافّة الشّرُوط لتَيْسير ارتفاع أَسْهُم اليمين المتطرف، الذي يُجَنِّدُ بين الأصوليين المسيحيين وغيرهم.

إن المسلمين هم أول ضحايا الهجمات الإرهابية (الإسلامية) في جميع أنحاء العالم، وفي فرنسا، ومع ذلك، يُشار إلى المُسْلمين بالأمس كما اليوم كإرهابيين أو كداعمين للإرهاب، ليُصبحوا شَمّاعة، وكبش فداء، ولذلك وجب على التّقَدُّمِيِّين في فرنسا والعالم، دعمهم باعتبارهم في صَفّ المُضْطَهَدِين والمُستضْعَفِين… في الوقت الحاضر، عندما يسخر أحد من الديانة اليهودية أو من معتنقيها، يُنعت بالعداء للسّامية، وعندما ينادي البعض باضطهاد النّساء، يصَنّفُ ذلك (على حق) في خانة “التمييز بسبب الجنس” (وذلك صحيح)، أما من يستهزئ باللإسلام أو بالمسلمين، كما فعلت مجلة “شارلي هبدو” عن تعمد وإضمار، عدّة مرات، فيُعتبر الإستهزاء جزءًا من “حرية التعبير التي يكفلها القانون”، وبذلك تُخْتَزَل حرية التعبير في بضعة رسوم سَمِجَة وفَجّة، بذيئة ومُبتذَلَة وإباحِيّة، من حيث الشّكل والمُحتوى، فهي رُسوم رديئة واستفزازية عنصرية، ويُقصد من ورائها إذْلال المسلمين والإستهزاء من رُموزهم، صادمة ومُهينة للعديد من المواطنين والقُرّاء، مهما كان جنسهم ولونهم ودينهم المُفْترَض، أما الدولة والحُكومة “اللائيكية جدا” فتواصل العبث بصحة المواطنين، عبر خصخصة قطاع الرعاية الصحية، وتوزيع المال العام، من ضرائب الأُجراء والفُقراء، على الأثرياء والشركات الكُبرى، فيما ترتفع نسب البطالة والفَقْر وعدم الإستقرار…

لا تزال الدولة الفرنسية تتدخل مُباشرة في عدد من البلدان الإفريقية والعربية، ورغم الإستعمار ورغم الهيمنة الحالية على مقدرات بلداننا، تجد الإمبريالية الفرنسية (أو حتى الأمريكية) مُدافعين عن سُلوكياتها العدوانية في أوطاننا، ولا يزال البعض يُرَوِّج مزاعم مزايا أو محاسن “الديمقراطية” و “اللائكية” الفرنسية…

تكمن جُذور الهجمات المتكررة ضد “المُسلمين” في فرنسا في الطبيعة الإستعمارية لأجهزة الدولة والإعلام وبرامج التّعليم، وما يمكن التعبير عنه بالإيديولوجيا السائدة، كما تكمن في التقسيم الطّبَقِي للمجتمع، فالمسلمون (المُفْتَرَضُون) هم من المهاجرين وأبنائهم، ومعظَمهم من المُستعمرات الفرنسية، وهاجروا من أرياف وضواحي مدن المغرب العربي وإفريقيا الغربية والوسطى، وهم كعاملين، في أسفل درجات السّلّم الإجتماعي، ومعظمهم من ذوي المؤهلات الدّراسية والمهنية المُتدنّية، وبحكم وضعهم الطّبقي، وقع حَشْرُهُم، مع بقية الفُقراء، في الضّواحي الفقيرة للمدن الفرنسية، وليس لهم تنظيمات سياسية أو نقابية أو مَدَنية أهْلِيّة تدافع عن مصالحهم، لذلك تَيَسَّرَتْ مُهاجمتهم من قِبل الشرطة والقضاء والأحزاب السياسية اليمينية، والمجموعات المتطرفة، فيما استغلّت منظمات “الدّين السّياسي” المتطرفة الفراغ السياسي، وكذلك إحْباطَهُم وخيبَةَ أملهم، ومشاغلهم، لتوجّهها نحو الحُلول الوَهْمِيّة “الرّبّانية”، بدل البحث عن حُلُول “دُنْيَوِيّة”، من خلال تجميع الفُقراء والكادحين، مهما كانت ألوانهم ودياناتهم وجنسهم…  

خاتمة:

يتلخص الوضع في فرنسا حاليا، وقبل قرابة سنة ونصف من الإنتخابات الرئاسية، بالعنف الإيديولوجي ضد مبادئ الديمقراطية البرلمانية، وضد جزء من السكان المدافعين عن حقوق الإنسان،  بتواطؤ بين التيارات اليمينية ومجمل وسائل الإعلام، بينما يُعاني (بيانات سنة 2019) أكثر من ستة ملايين مواطن من البطالة، ولا يزيد الراتب الشهري لأكثر من ثلاثة ملايين عامل عن ألف يورو، أي أقل من الحد الأدنى للرواتب، فيما يعيش نحو تسعة ملايين مواطن تحت خط الفقر ( 1015 يورو شهريا للفرد الواحد ) منهم نحو 2,7 مليون قاصر، ويعاني نحو أربعة ملايين شخص من ظروف السكن السيئة، ومن ضيق المساحة، وقلّة النّور والهواء، ويعيش حوالي 150 ألف شخص في الشوارع (مشردين)، يموت منهم حوالي خمسمائة سنويا في الشارع، بسبب ظروف الحياة، ويضطر نحو مليوني شخص لطلب المساعدات الغذائية، وتؤدّي هذه الظروف المعيشية السيئة إلى وفاة أكثر من عشرة ىلاف شخص سنويا، بحسب المعهد القومي للصحة والبحوث الطبية ( INSERM ) ، ولئن ارتفع متوسط العمر فإن عدم المساواة يبقى ساريا، حيث يبلغ متوسط عمر مدير تنفيذي لشركة كبرى 84 عامًا، ليموت بصحة جيدة نسبيا، فيما لا يتجاوز الأمل في الحياة (متوسط العُمر) 71 عاما، للعامل، مع معاناته من أمراض متعلقة بالتغذية،  أو متعلقة بظروف العمل السيئة، حيث توفي نحو 35 ألف عامل، بسبب استنشاق الإسبستوس، بين سنتي 1965 و 1995، ولا يزال حوالي 1700 عامل يموتون كل سنة لنفس السبب (حتى نهاية 2019)،  من جهة أخرى، قدرت مؤسسات خيرية وجود ثلاثة ملايين مسكن مُغلق، بهدف المُضاربة ورفع الإيجارات وثمن بيع المساكن، وأقرت الحكومات المتعاقبة  قوانين ضريبية تتضمن ثغرات يستغلها الأثرياء لتهريب حوالي ثمانين مليار يورو سنويا، أو ما يُعادل ميزانية الصحة أو التعليم…

يَطّلعُ البرلمانيون (من اليمين واليسار المائع) ورئيس الجمهورية ووزراؤه ومستشاروه على هذه الإحصاءات التي تُشير إلى عدم المساواة وإلى المشاكل الحقيقية التي يتوجب البحث بسرعة عن حلول لها، ولكنهم لا يهتمون بمشاغل العاملين والكادحين والفُقراء، وهو موقف طبقي، لأن الرئيس وحكومته ومعظم البرلمانيين جزء من البرجوازية الحاكمة، أو هم متواطئون معها، كما تتواطأ معها وسائل الإعلام.

في الصّف المُقابل للدّولة وأجهزتها وللإعلام السّائد، توجد قُوى ضعيفة، وهَشّة سياسيًّا، ومتأثِّرة بالثقافة الإستعمارية، فعندما انتفاض شباب ضواحي المدن الفرنسية، لفترة ثلاثة أسابيع، في تشرين الأول/اكتوبر 2005، لم يدعمهم أي تنظيم سياسي، ولا أي تنظيم نقابي، لأن معظم سُكّان الضواحي من الفُقراء، وخاصة من المُهاجرين وأبنائهم، وهي فئات اجتماعية تعتبرها منظمات “الديمقراطيين اللائكيين” مجهولة الهوية والمَشاغل (العمل والسكن والتأهيل…) والمطالب، وهو ما أدّى إلى تغلغل المنظمات الدّينية الظلامية، وحَرْف هؤلاء الكادحين والفُقراء عن النّضال من أجل المُساواة، ومن أجل مجتمع يُلَبِّي ويُوفِّرُ الحاجيات الأساسية والضّرورية للمواطنين، وتمكنت الحُكومات الفرنسية المتتالية من الإلتفاف على مطالب المُحتجّين المتظاهرين، طيلة سنة 2019، وبداية 2020، وتجميع جزء هام من الفئات الكادحة والفقيرة حول شعارات لا تُوفّر العمل والسّكن والصحة، بل تُقسّم الطّبقة العاملة والفقراء، وتجعلهم يَصْطَفُّون وراء مُسْتَغِلِّيهم ومُضطَهِدِيهم، ضد عاملين وفُقراء مثلهم…

قد يعجبك ايضا