أبي يتبرأ مني … “خلّة السنام” ( قصة قصيرة ) / أسعد العزوني

 أسعد العزوني ( الأردن ) – الأحد 25/10/2020 م …

الكاتب العزوني




دخل والدي الحاج علي على الحاكم العسكري الإسرائيلي للمنطقة “دوف”في مخفر قلقيلية ،بعد تلقيه بلاغا بواسطة المختار بضرورة حضوره إل مكتب الحاكم العسكري بدون ذكر الأسباب بطبيعة الحال ،وكان والدي قد حصن نفسه بالمعوذات وآية الكرسي قبل أن يتوجه إلى قلقيلية للقاء الحاكم العسكري الإسرائيلي.

خلال إنتظاره خارج المكتب لزوم الترهيب والتخويف ،عادت الذاكرة بوالدي إلى ما بعد نكسة حزيران 1967،وكانت المرة الأولى التي يضطر والدي للذهاب إلى مكتب الحاكم العسكري بناء على طلب مسبق بطبيعة الحال.

شعر الوالد بالضيق وكأن “جبل القرنين” شرق عزون قد جثم فوق صدره ،دون أن يتمكن من زحزحته،وبدأت الذكريات المؤلمة تنهمر عليه دون إستئذان،وتفجر بداخله براكين الغضب ،لأن تانك المناسبة لم تكن سعيدة أبدا بل كانت شديدة القهر على النفس الحرة ،لأنها صادرت بندقيته الجديدة ،وتملّكها الحاكم العسكري آنذاك ،وأصبح يقوم بالصيد فيها في المنطقة ،وما أن كان الوالد يسمع  صوت إطلاق الرصاص حتى يتذكر بندقيته ،ويقول إن الحاكم العسكري المحتل يقوم بالصيد بينما انا إبن هذه الأرض بات عليّ  الصيد محرما .

كان الوالد قد إشترى بندقية جديدة وفق مواصفات خاصة من ألمانيا وكلفته  آنذاك 40 دينارا،بعد أن تعطلت بندقيته القديمة ،وعندما جاء الإحتلال البغيض أبلغوا العامة أن على كل من يمتلك قطعة سلاح أن يقوم بتسليمها للمخفر،وبطبيعة الحال إستجاب الوالد لذلك وقام بتسليمهم البندقية القديمة ،بعد أن قام بلف البندقية الجديدة ودفنها في مكان آمن ومعروف.

لم تمر سوى أيام معدودات حتى إتصل مكتب الحاكم العسكري بوالدي يطلب منه تسليم بندقيته ،فأكد لهم أنه قام بتسليمها ولديه من الأوراق ما يثبت ذلك ،لكن مكتب الحاكم العسكري طلب منه تسليم البندقية الجديدة .

نفى الوالد بداية وجود بندقية جديدة لديه وأنه سلّم البندقية وإنتهى الأمر ،لكن مكتب الحاكم العسكري قطع عليه اللعبة ،وقال له أنهم يريدون البندقية التي إشتراها من ألمانيا وأعطاه كافة بياناتها ، وحذروه انه في حال لم يقم بإحضارها بنفسه فإنهم سيقومون بإرسال قوة عسكرية تعتقله وتجبره  على تسليم البندقية.

عند ذلك أسقط في يد الوالد وحوقل كثيرا ،إذ كيف وصل الإحتلال  إلى بيانات البندقية الرسمية ،وتمتم بكلمات غير مسموعة ….كانت  العملية تسليما وإستلاما ،وقال للمتحدث أنه سيحضرها غدا صباحا إلى مكتب الحاكم العسكري.

بعد أيام تناهى إلى مسامع الوالد ان الحاكم العسكري أعجب بالبندقية لأنها كانت مصنّعة بمواصفات خاصة ،وجديدة لانج ،فقرر إمتلاكها لممارسة الصيد بواسطتها في المنطقة التي باتت تعج بالغزلان والشنانير والحمام،وما كان يؤذي الوالد أكثر انه حفظ صوت بندقيته ،ولذلك كان عندما يسمع  صوت إطلاقها يقول لنا إن الحاكم العسكري يقوم بالصيد في المنطقة ،وبسبب ذلك غزت الأمراض الوالد بسبب القهر والكبت وأكثرها وهم ووسوسة،لأنه لم يتحمل رؤية الشنانير والغزلان حرة طليقة دون ان يتمكن منها ،وقاده تفكيره إلى إستخدام المخدر وهو حبات القمح المنقوعة بمادة مخدرة.

أبلغه الحاجب أن موعد لقائه بالحاكم العسكري”دوف”قد حان ،ونهض من على مقعده بعد قراءة المعوذتين وآية الكرسي ، وحوقل كثيرا ومن ثم نفخ في يديه ومسح بهما على وجهه ودخل مكتب الحاكم العسكري.

نهض الحاكم العسكري من على مكتبه وإقترب من والدي وصافحة مصافحة أكثر من ودية ،ومن لا يعرف الطرفين يقول أنهما صديقان أو أخوان مضى دهر على فراقهما ،ولم يمر ذلك الإستقبال الحافل بالنفاق على والدي المجرب الفهمان في نفسيات البشر ،وقال في نفسه أن هذا الإستقبال يخفي وراءه مصيبة أو أكثر.

قضى الحاكم العسكري وقتا ليس بالقصير وهو يرحب بالوالد ويشيد بمسموعاته بين الناس وبأخلاقه الحميدة ،بينما والدي يلتزم الصمت ويلوذ به، لأنه لا يعرف النفاق ولم يكن يقبله أصلا من أي كان ،وكان الموقف أشبه بترحيب من جانب واحد .

لاحظ الحاكم العسكري صدود الوالد بعدم إستجابته له ،وهو يعلم انه منافق ولا يحب الفلسطينيين أصلا،وقد أجبر على قبول وظيفة الحاكم العسكري في قلقيلية خوفا من تعرضه للقتل على يد الفدائيين أو حتى المواطنين ،ولذلك كان شديد القسوة عليهم لردعهم،ويروى عنه أنه عندما كان يدعو نفسه إلى وليمة غداء مسخّن في بيت المختار .

كان يأكل بنهم شديد ويظهر نفسه مفجوعا ،وبعد ذلك يغادر صالة الطعام ويجلس القرفصاء وسط ساحة البيت ويبدأ بإخراج ما جوفه من طعام ،بعد أن يدخل أصابع يده في جوفه ،وما أن يفرغ معدته حتى يعود لملئها من جديد ،ثم يخرج إلى الساحة لتفريغها،دون إحترام صاحب البيت أو أهل البيت او حتى من يتناولون الطعام معه في بيت المختار.

قرر الحاكم العسكري مواصلة الترحيب بالوالد ليس حبا فيه بطبيعة الحال،بل علّ وعسى أن يلين ويستجيب لطلبه الذي إستدعاه من أجله ،وطلب له الشاي والقهوة  والعصير ،لكن الوالد أخبره أنه صائم في ذلك اليوم.

بلع الحاكم العسكري الطعم ،وأدرك ان هذا الرفض ليس فأل خير ،فما دام الوالد يمتنع عن تناول الشاي والقهوة والعصير ،بحجة الصيام ،فإنه حتما سيرفض عرضه الأكثر حرجا وحساسية وهو إحضار فتاة يهودية له للترفيه عنه ،كما يفعلون مع الشباب على وجه الخصوص.

حاول الحكم العسكري إيجاد طريقة أخرى لكسب ود الوالد ،وطلب منه السماح، لأنه سينشغل عنه لدقائق بحثا عن ورقة في ما في أحد الملفات ، ولم يعارض الوالد ،وبالفعل بدأ الحاكم العسكري بتقليب أوراق العديد من الملفات بحثا عن لا شيء طبعا ،ولكنه كان يفكر بمخرج ينجيه ويحقق غرضه.

بعد قليل توقف الحاكم العسكري عن تقليب الملفات بحجة أنه عثر على ضالته ،وقرر مفاتحة الوالد بالأمر الذي إستدعاه من أجله وقال له بتودد:

–        يا حاج علي إن حكومة إسرائيل ترغب بشراء أو إستئجار “خلة السنام”القريبة من قرية عسلة ،وتتمنى عليك الموافقة أولا ، ونحن مستعدون إما لإعطائك شيكا على بياض أو أن تطلب أنت بنفسك الرقم الذي تريده!فأنت رجل فاضل وتستحق،وسوف لن نبخل عليك بشيء،إذا ما خدمتنا وبعت  لنا الأرض أو قمت بتأجيرها لنا.

صعق الوالد لسماعه هذه الوقاحة التي لم يكن يتوقعها يوما ،وقال له أنه لا يوافق لا على البيع ولا على التأجير! فهذه الأرض عزيزة عليه ،وقد ورثها من أبيه الذي ورثها عن جدها وهكذا،وان له فيها ذكريات لا تحصى ،وقد حرثها وغرس فيها أشجار الزيتون ،وأكل من خيرها ،ولن يفكر يوما بالتفريط فيها تحت أي ظرف من الظروف،لأنه يؤمن أن من يفرط في أرضه ،إنما يفرط في عرضه!

شعر الحاكم العسكري أن جبل الكرمل  برمته قد سقط عليه وجر معه جبل الجرمق أيضا مع هضبة الجولان ،أو أنه هوى في بئر لا قرار ولا قاع له،وبان عليه الضياع لأنه لم يتوقع مثل هذا الرد،فحاول لملمة أشلاء  نفسه التي تبعثرت بضربة قاضية غير محسوبة من والدي،وحاول الظهور بمظهر الثبات والحزم أمام الوالد وقال له:

–        يا حاج علي إن حكومة إسرائيل تتمنى عليك عدم الإستعجال  في الرد ،وأن تأخذ وقتك في إتخاذ القرار لأن الثمن كبير وكبير جدا ،وفي حال كنت خائفا من ردة فعل الناس أو موقف الفدائيين ،فإننا سنؤمن لك هجرة إلى أستراليا أو كندا أو امريكا ،وسنؤمن لك مشروعا إستثماريا ونمنحك جنسية البلد الذي تختار ،ونضمن لك حياة الملوك هناك.

أدرك الوالد إصرار الحاكم العسكري على الإستيلاء على الأرض ،ولم لا فهي أرض مرتفعة تطل على البحر الأبيض المتوسط وتصلح لبناء مستدمرة فيها ،ولذلك قرر التمسك بموقفه الرافض لبيع أو تأجير الأرض،وأن يضبط  أعصابه ويتعامل مع الحاكم العسكري بالهدوء ،لأن الإنفعال والعصبية لن يأتيا بنتيجة،وربما ينعكس عليه إنفعاله ويضعه الحاكم العسكري في السجن بتهمة مقاومة الإحتلال.

رد عليه الوالد  بثبات وحزم أنه لا يفكر بالتفريط في الأرض ،لا بيعا ولا تأجيرا ،كما انه لا يفكر أيضا بالهجرة أو الإستثمار في الخارج أو الحصول على جنسية أجنبية، ولا يطمح بأن يصبح مليونيرا !إذ ما نفع الملايين بعد التفريط في الأرض للأعداء؟

 تظاهر الحاكم العسكري بأنه لم يسمع كلمة الأعداء ،لأن ما يخطط له اهم من ذلك بكثير،ولذلك لا بد من التنازل عن العديد من الأشياء والتغاضي عن بعض الألفاظ والمواقف والتصرفات،وحاول تليين موقفه بسرد قصص ربما تكون وهمية عليه ،حول رعاية الحكومة الإسرائيلية لمن يبيعون أراضيهم وقال له أن الأرض في النهاية سيتم مصادرتها من قبل الجيش الإسرائيلي ،الذي لم يصعب عليه إحتلال أراض دول ،في إشارة منه إلى الضفة الفلسطينية وهضبة الجولان  وصحراء سيناء وأراض عربية أخرى.

 لم يفوّت الوالد عليه ذلك الإستعلاء وقال له بنبرة  إستهزاء واضحة أن ما جرى في حرب حزيران 67 لم يكن حربا بمعنى الكلمة ،بل كان عملية تسليم وإستلام ،وإستطرد بالقول  أنهم في حال رغبوا فعلا  بالسيطرة على الأرض ، فإن عليهم في هذه الحالة مصادرتها بالقوة ،وعدم دفع الملايين من الدولارات ثمنا لها ،فقال الحاكم العسكري أن حكومة إسرائيل تفضل الشراء والإستئجار أولا ،وفي حال فشلت مساعيها فإنها ستلجأ إلى المصادرة بقرار عسكري،فرد عليه والدي بالقول أنه ينصحهم إصدرا أمر للجيش الإسرائيلي كي يصادر خلة السنام بالقوة ،لأنه لن يفرط فيها بيعا او شراء.

لم يتوصل الحاكم العسكري لنتيجة مفادها أن الوالد لن يلين  رغم تصريحاته تارة وتلميحاته تارة اخرى برفض التنازل عن الأرض رغم المغريات التي قدمها له نيابة عن الحكومة الإسرائيلية التي تدع الملايين لشراء بيوت قديمة أو قطع أراض في مواقع إستراتيجية ، ،فقرر إستخدام آخر ورقة لديه على طريقة الكي أو فجر الدمل،وكله أمل بنيل موافقة الوالد كي يزف الخبر لرؤسائه الذين سيكافئونه على إنجازه ،بعد الحصول على عقد البيع أو التأجير ،وكلا الأمرين سيقودان في نهاية المطاف إلى المصادرة بحكم الأمر الواقع ،دون علم منهم أن موقف الواد مثل صخر الصوان الصلب والحاد الذي لا يلين.

عدل الحاكم العسكري من جلسته وتصنع الإبتسامة وقال للوالد بعد الترحيب به من جديد والإشادة بما يسمعه عنه :

–        إسمع يا حاج  علي :علاوة على دفع المبلغ الذي ستطلبه ومهما كان حجمه وأنا أنصحك بطلب مبلغ فلكي ،وتستطيع طلب أي شيء من حكومة إسرائيل ،وسنلبي لك كل طلباتك ،وانا نيابة عن حكومة إسرائيل مخول بالتوقيع على الموافقة على أي طلب تتقدم به لحكومة إسرائيل ،حتى لو كان الموضع أمنيا  ،وأؤكد لك أنني على ثقة تامة أن حكومة إسرائيل على إستعداد للسماح لإبنك المشاكس أسعد بالعودة إلى البلاد ،ولن يجرؤ أي “عرص”يهودي إعتراض سبيله أينما ذهب ،وسيكون مسموحا له زيارة إسرائيل في أي وقت يشاء ،وسنرحب به رسميا!

 أدرك الوالد أن الموقف يتطلب بعض الخشونة في التعامل من أجل الحسم وقطع الأمل عن طريق قطع الطريق عليه ،فقال للحاكم العسكري أنه ليس لديه إبن إسمه أسعد ،لكن الحاكم العسكري الواثق من نفسه في هذا الأمر بالذات ،رد عليه بأنني موجود وأعمل في الكويت وغير مسموح لي بالعودة ،وأبدى إستغرابه من نفي وجودي وإنكاري.

كرر والدي قوله أنه لا ولد له إسمه أسعد ،وأن عليه أن يخرج من هذه القضية  ،ويدرك فعلا أن هذه الورقة لن تكون في صالحه ،الأمر الذي جعل الحاكم العسكري يخبط رأسه بالطاولة ويقول بلهجة حادة :

-يا حاج علي نحن نعرف إبنك أسعد جيدا ونعرف أنه درس  في العراق ،ويعمل في الكويت  ،ويظهر عداءه لإسرائيل ،فلماذا تنكره وتتبرأ منه ؟ أليس هو إبنك ؟أم انك تخاف منا وتنكره امامب لنه يعادي إسرائيل؟

لم يتزحزحز الوالد عن موقفه قيد شعرة ،واكد للحاكم العسكري عدم وجود ولد له إسمه أسعد،فما كان من الحاكم العسكري إلا التوجه إلى خزانة في ركن المكتب  وتناول منها ملفا ضخما ،وعرضه على والدي ،وقال له :

–        يا حاج علي أليس هذا هو إسم إبنك؟وهذه صورته؟ فلماذا تتبرأ منه وتنكره؟تأكد أننا لن نعاقبه إكراما لك ،خاصة وإنك ستبيعنا الأرض وسندفع لك المبلغ الذي تريد!وأقسم لك برب إسرائيل أننا سنعيده إليك ،ولكي تتأكد ومن صحة ما أقول فإنني سأوقع على طلب لم الشمل الخاص به في حال توقيعك على عقد البيع أو التاجير!

قرر الوالد بق الحصوة كما يقول المثل ،ويصدم الحاكم العسكري شر صدمة ،ويلقنه درسا ربما لن ينساه ما عاش،فقال له بحزم الرجال الرجال بعد ان عدل من جلسته وتنحنح:

-يا خواجا ..صحيح أن أسعد إبني وأنا لن اتبرأ منه أو أنكره ،ولست غاضبا منه على مواقفه ،فهو من صلبي ويمثلني ،وكان خاله نمر القنبر من أوائل المجاهدين في ثورة 1936 ،وشغل منصب نائب رئيس فصيل الموت فارس العزوني ،لكنه وفي حال كانت عودته إلى البلاد مقابل تنازلي عن “خلة السنام”،فإنه لن يكون إبني وسأتبرأ منه وأنكره ،لأن الأرض عندي أغلى من الولد.

بهت الذي كفر، وأحس الحاكم العسكري بدوخة وعمى ألوان وعدم قدرة على التركيز وشعر أن غرفة المكتب الفسيح تدور به ما سبب له بالدوخة ،لكنه وخوفا على مكانته أمام والدي  نوحتى لا يشعر الوالد انه إنتصر عليه ونال منه،تمالك نفسه وسيطر على أعصابه إلى حد ما ،لكنه لم يستطع مواصلة الحديث مع والدي وإكتفى بطرده من مكتبه شر طردة بعد أن بصق في وجهه،وقال له مهددا:

–        يا حاج سنأخذها منك إن عاجلا أو آجلا وغصبا عنك! وإستمر في الهذيان :

–        -يجب قتل امثال هذا الحاج لأنه حجر عثرة في طريق إقامة مملكة إسرائيل ،لقد إشترينا مساحات شاسعة من الإقطاعيين العرب الذين كانوا مقربين من الإمبراطورية العثمانية ،وتمكنا من تأسيس دولة إسرائيل ،بعد ان إشترينا آخرين ،لكن مشكلتنا تكمن في أن أصحاب الأرض الحقيقيين يرفضون بيع  أراضيهم ،رغم أننا نتعهد بدفع مبالغ فلكية لهم في حال وافقوا على بيعنا أراضيهم ،وحتى اليوم ورغم ما نفعله بهم من قتل وتدمير بيوت ومصادرة أراضي  ووضع ابنائهم في السجون،فإننا نعجز عن إجبارهم  على بيع أراضيم.

فرد عليه والدي :

–        حلمات أذنيك أقرب لك من الحصول على خلة السنام!

وبحسب أحد افراد الشرطة الذين كانوا يعملون في مكتب الحاكم العسكري ،فإنه بدا كالثور الهائج بعد طرده والدي من المكتب ،وكأنه تعرض لنوبة عصبية ،لم يهدأ من أثرها إلا بعد أيام .

غادر والدي قلقيلية في سيارة الأجرة التي يقودها على خط قلقيلية –نابلس السائق خليل الخرسا،وما تزال أصداء لقائه مع الحاكم العسكري ،تتلاطم في ثنايا ذاكرته ،وقد ركّز كثيرا على ما سمعه من تهديد وهو يغادر المكتب ،وكانت كلمات الحاكم العسكري بأننا سنأخذها منك إن عاجلا أو آجلا ،ترن كالجرس في ذاكرته،وقد تسرب بعض الخوف إليه خشية قيام الجيش الإسرائيلي بمصادرتها بأمر عسكري ،وإقامة مستدمرة فوقها ،فيتكون الضربة مزدوجة ،فبعد أن صادر الإحتلال سابقا بندقيته ،وها هم اليوم يهددون بمصادرة أرضه.

أقسم والدي  أنه لن يمكنهم من السيطرة على خلة السنام ،ما دام شاربه يشم الهواء ،كما يقول الرجال الرجال ،وقال في نفسه أن الروح ليست أغلى من الأرض مثل ما أن الولد أيضا ليس أغلى من الأرض ،وأنه سيقاومهم بكل ما يؤتيه الله من قوة وعزم ،وأنه لن يمكنهم من تحقيق أهدافهم ومصادرة الأرض منه.

ما تزال ذكرياتي في خلة السنام حية ولم تفارقني رغم إنقطاعي عنها منذ العام 1974،فهي أرض منبسطة تطل على البحر الأبيض المتوسط ،وكنا نستمتع بإنعكاس أشعة الشمس عصرا على مياه البحر ،الذي كان يشبه لوحة طبيعية مفرحة ،كما أنني كنت أحرثها ،وأساعد والدي على حفر الحفر المعدة لزراعة أشتال  الزيتون التي كنا نحضرها من أراضينا الواقعة شرقي البلد مثل الدرجة والكعابيش التي تعج بالأشجار المعمرة التي نسميها  “الرومي”  نسبة إلى العهد الروماني.

 كان والدي يقوم بقطع أشتال الزيون النابته أسفل السيقان بالفأس والبلطة ،وكنت أقوم بتحميلها فوق الحمارة التي كنا نمتلكها ونزرعها في خلة السنام، ثم أتعهدها بنقل الماء والسماد إليها صيفا ،وكانت تلك الأشتال تحت مراقبة الوالد على الدوام لضمان نموها ،وكان يقوم بتركيبها بطعم أصيل من شجرة أخرى لتعطينا ثمرا طيبا ،لأنه وفي حال عدم التطعيم فإنه ستكون شجرة زيتون برية لا يستفاد من ثمرها.

كنت أيضا أقوم بقطف البامية كل يوم جمعة ،وكنا نزرعها بالبطيخ  وكان الوالد يطلب مني رغم صغر سني النوم في “المقثاة” ليلا لحراستها من اللصوص، كما كنا نزرعها أحيانا قمحا ،ندرسه على البيدر في إحتفالية كبيرة،وكم كانت بهجتنا عندما نخيّم فيها في فصل الصيف حيث البطيخ.

كانت الوادة رحمها الله تزرع البندورة والبصل والثوم ،وتقوم بالطبخ على النار ،كما كان والدي يقوم بالصيد ويحضر العديد من الحمامات والشنانير أو الأرانب البرية  أحيانا وطائر الزريقي ،وتطبخ لنا الوالدة ،وأحيانا  كنا نشوي تلك الطيور بعد تنظيفها طبعا على الجمر.

كانت خلة السنام تبعد عن عزون نحو ثلاث كيلومترات  جنوب غرب،وعن عسلة  نحو كيلو مترا واحدا ،وكانت تعج بأشجار الزيتون التي تبدو للناظر بأنها أشجار نعناع بسبب عناية الوالد  المستمرة بها،وكان  في وسطها شجرة بلوط نجلس تحتها ونتفيا ظلالها في الصيف طلبا للراحة ونتناول طعام إفطارنا أو غداءنا تحت ظلالها ،ونضع عندها أغراضنا ،كونها خارج نطاق الأرض الزراعية الطرية.

كانت هناك مساحة صخرية في طرف خلة السنام  الغربي ،إستغللتها قبل سفري بزراعة اللوز المر على أمل تركيبه لوزا حلوا ومشمشا ودراقا وخوخا ،لكنني سافرت ولم أعد ،وقام الوالد بقطع كافة أشجار اللوز لتحول المنطقة إلى غابة لوز ،يغزوها اللصوص ليلا.

لي قصة أخرى مع خلة السنام ،وقد إرتقت هذه القصة إلى المستوى الدولي ،عندما تقرر حفر بئر للنفط فيها قبل حرب حزيران 1967،وجاءت شركة “ميكوم”الأمريكية ،وبدأت بالحفر إلى أن خرج من البئر سائل أحمر ،ومن ثم توقف الحفر ،وتم تفكيك الحفارة وشحنها إلى العقبة على طريق شحنها لأمريكا.

بدات القصة بعد ان باشرت النقطة الرابع بحفر بئر أرتوازي للمياه في وادي عزون الشمالي ،وكانوا يبعثون عينات من طين الحفر لفحصها شهريا في أمريكا ،وذات يوم سمعنا  إشاعات تقول أن هناك “كاز”يعني نفط في المنطقة.

بعد أيام ترجمت تلك الإشاعات إلى رجال خبراء كانوا يتحركون في كل افتجاهات في المنطقة ،وإنقلنا بعد ذلك إلى وضع علامات حجرية مصبوغة بالشيد الأبيض على شكل دائرة واسعة ،وإنتهى الأمر بأن حددوا مكمن بئر النفط في خلة السنام،الأمر الذي أشاع الفرحة في نفوسنا وقولبنا لأننا سنصبح شيوخ نفط أغنياء.

وما هي إلا أيام حتى بدانا نستقبل طاقم الحفر والآليات والمعدات التي تم شحنها من بلدة حلحول قضاء الخليل،وقام الوالد بإنشاء دكان من الزينكو بجانب الحفارة لتأمين مستلزمات العمال ،كما نشأت هناك صداقات بيننا وبين العمال الحلحوليين ومنهم السيد عبد الخالق .

عندما جاءت الحفارة مع طاقمها من قرية حلحول حيث كانوا يحفرون بئرا آخر هناك لكنهم توقفوا عن الحفر  دون إبداء الأسباب،وبعد أن كانت المنطقة شبه ميته ،تحولت إلى خلية عمل ليل نهار ولم ينقطع صوت الحفارة على مدى 24 ساعة ،كما كانت أضواؤها تنير المنطقة بكاملها.

سمعنا العديد من الإشاعات والأقاويل عن أسباب توقف الحفر ،ومن جملة ما سمعنا أن هذا البئر كان يقع على نفس خط بئر رأس العين الذي حفرته إسرائيل،وقيل أيضا أن طائرة هليوكابتر إسرائيلية هبطت  ذات ليلة في المكان وعلى متنها مسلحين وخبراء ألقوا نظرة على المكان ،وبعد ذلك أوقفوا الحفر.

تذكرت موقفا مشابها للوالد قبيل مجيء الحفارة  بخصوص خلة السنام ،وهو أنهم عرضوا شراء أو إستئجار أراضي المنطقة ،ووافق ملاك الأراضي على التأجير ولم يقم أحد ببيع قطعة أرضه ،لكن والدي رفض البيع والتأجير رفضا تاما ،وأصبح هو العائق الوحيد أمام المشروع .

وذات صباح جاء مبعوث من قبل المختار وطلب من أبي مرافقته لمقابلة المتصرف  الذي ينتظره في بيت المختار وجاء خصيصا من نابلس لمقابلته،وعندها أدرك والدي ان هناك أمرا ما وربما لن يمر على خير ،وتوجه مع الرجل إلى بيت المختار القريب من منزلنا ،وما ان دخل حتى عاجله المتصرف بالتهديد والوعيد في حال إستمر بركوب رأسه ،وقال له :

-إسمع ياحاج ،الأرض رايحة رايحة وأتمنى عليك الموافقة وقبض المعلوم ،وإلا أصدرت قرارا  الآن بالمصادرة بدون مقابل،ولأن الوالد لا يقبل من يتحداه أو يهدده ،ولذلك رد على المتصرف بالقول دون أن يأبه بالنتائج على موقفه:

–        إفعل ما بدا لك ،لن أوافق !

وغادر من فوره  ،الأمر ألذي أربك المتصرف وأحرج المختار ،الذي بعث وراءه بعدد من الرجال كي يعيدوه ويقنعوه بالموافقة على التأجير  على الأقل.

لحقت به مجموعة من الرجال المتضررين من وقف المشروع وتوسلوه الموافقة ،كي يتدبر الناس أمورهم ويغادروا مساحة الفقر التي تسيطر عليهم من خلال   تأجير أراضيهم للأمريكيين ،وتحت الضغوط والترجي وافق الوالد على التأجير وقبض ألف دينار .

كنت فخورا وفرحا وأنا أتجول بين العمال الحلحوليين والخبراء الأمريكيين الذين كانوا يحبونني ،وكنت أقول لهم مرفوع الرأس أنني إبن صاحب الأرض،وما كان يزيدني فخرا هو حديثي بالإنجليزية مع الخبراء الأمريكيين.

بعد مغادرة الحفارة عادت المنطقة إلى سيرتها الأولى مع تغير بسيط في سطح الأرض التي شهدت أعمال الحفر،وتم وضع “الصبّة “الإسمنتية عليها ،ولم تعد صالحة للحرث أو الزراعة ،وقد تركوا البئر عبارة عن ماسورة مياه نافرة  فوق سطح الأرض بدون أدنى إحتياطات أمنية،وكان والدي أحيانا يجهز مئات الأمتار من الخيطان القوية ويربطها بعلبة صغيرة ،ثم ينزلها في الماسورة لإنتشال الماء.

ذات يوم وبينما كان الوالد يمارس عمله في الأرض ،توقفت بالقرب منه  سيارة من نوع شيفروليه أمريكية الصنع وتحمل لوحة كويتية ،وسأل سائقها الوالد عن مكان البئر ،وطلب منه التكرم بمرافته إليه .

وافق الوالد على طلبه وتوجه مع السائق إلى حيث مكان البئر ،وسأله الرجل عن آخر مادة خرجت من البئر قبل توقف الحفر ،فقال له الوالد أن آخر مادة خرجت من البئر كانت عبارة عن مياه حمراء.

وعندها سأله الرجل بتلهف عن كيفية  تصرف الأمريكيين حيال هذه المياه الحمراء ،فأجابه الوالد إنهم حفروا لها قناة خاصة  لتصب في بركة أعدوها لذات الغرض في الطرف الشمالي من الأرض.

طلب الرجل من والدي مرافته إلى تلك البركة ،وبدأ يتفحص تربتها الناعمة بيديه ويفركها ومن ثم يشمها ،وقال للوالد :

–        يا حاج عندكم نفط!

رد عليه  الوالد بإستغراب كيف عرفت ؟فأجابه أنه يعمل خبيرا للتنقيب عن النفط في الكويت ،وأن خروج المياه الحمراء من البئر يتبعه النفط فورا.

بعد رفض الوالد بيع أو تأجير الأرض للإحتلال، قرروا العمل على إنتزاعها منه عن طريق أحد عملائهم في المنطقة وهو يوسف العسلاوي،الذي قام بمصادقة أخي الأصغر وأصبح يتردد على بيتنا ،إلى درجة انه أصبح واحدا من أهل البيت.

كان مريبا في تودده لأخي ،ولم يكن صعبا إكتشاف نواياه ،لكن أخي وعلى ما يبدو لم يتنبه له ،إذ كان يعده بالكثير ،حتى يعطيه الأمان ،ولم يكن الوالد راض عن تلك العلاقة  لمعرفته بالرجل وبما يقال عنه بأنه على علاقة مع الإحتلال ويعمل سمسار أراضي،وكان يحذر أخي من ذلك الرجل المراوغ المحتال.

أصبح يوسف العسلاوي لصيقا لأخي ،وكانا يلتقيان في خلة السنام القريبة من عسلة ،مثل”خبط العصا”كما يقول البدو،وكانا يقضيان النهار هناك ،يطبخان ويصنعان قلايات البندورة ،ويشربان الشاي ،إلى درجة أنه بات مفتاح أخي.

يبدو ان ذلك المحتال كان يتعامل مع أخي وفق أجندة معدة له سلفا،إذ كان يحرص بداية على التقرب منه وإغداق الوعود عليه كي يطمئن إليه ،وما إن كسب ثقته ،حتى غاص في العمق وحاول أن يضرب ضربته.

بدون مقدمات طلب منه سرقة جواز سفر الوالد ،وعندها أيقن أخي أن صديقه  محتال ،وأن عليه التخلص منه ،خاصة بعد ان وصلت به الوقاحة أن كشف له النية المبيتة وهي بيع خلة السنام لليهود ،عند ذلك طرده أخي من البيت وقطع علاقته به بعد أن تكشفت نواياه .

قد يعجبك ايضا