الدّولة .. و المثقّف و إشكاليّة الدّولة السّوريّة ، المزمنة ، مع المثقّفين ( 3/1 ) / د. بهجت سليمان

د. بهجت سليمان (@drbahjat49) | Twitter

د . بهجت سليمان* ( سورية ) – الخميس 16/4/2020 م …




  • مفكر سوري ، السفير السوري السابق في الأردن

1▪ في العلاقات التي تخلقها الدّولة في توزيعها لمراكز القوى السّياسيّة و جوائز الشّرف ، و في انتقائها لمن يُمثّلها في فضاء السّيادة و حقول السّياسة و العلاقات و التّصرّف و الأداء ، و لما يجعلها مكوِّناً سياسيّاً للثّقافة السّياسيّة ، و لما يجعل منها ظاهرة حاضرة في نقاط التّأثير ، و لما يرتّبُ لها من هيبةٍ هي حاجة أساسية للدّولة ، و في أثناء تحديدها للسّقوف السّياسيّة في مواقع الأمكنة الاجتماعيّة المختلفة في “المجتمع” ؛ و في اقتصاداتها السّياسيّة للقوّة و استخدام أدوات القوّة و المعرفة ، و في استثماراتها المُجدية لأدوات العنف في الشّرعيّة و المشروعيّة و تناهي التّفاصيل المؤلِّفة لممارسات السّلطات الاجتماعيّة و التّاريخيّة و التّاريخانيّة التي لا ترمي السّلاح في مقاومتها للتّنظيم و التّحديد و التّصرّف و التّصريف الذي تعمل عليه الدّولة كجزء من شخصانيّتها الاعتباريّة ..

     و في قدرة الدّولة على جعل مشروعها السّياسيّ مشروعاً اجتماعيّاً مفضّلاً أو مفروضاً بأدوات الإخضاع المختلفة التي تمتلكها دون أن يستطيع “الآخرون” منازعتها عليها ، و في عمليّاتِ النّحو السّياسيّة بما هي صَرفٌ للطّاقات الاجتماعيّة و طاقات الأفراد و الجماعات السّالبة التي تشكّل جزءاً من المادّة المظلمة التي تعمل على لصق و التصاق أجزاء التّاريخ المتنافرة لتبدو بهيئة واحدة و كتلة منسجمة في مواجهةمشروع الدّولة المتجاوِز في الواقع و في الحاضر ؛

و في قدرة الدّولة على ممارسة ذاتها ممارسة فوقيّة من دون أن تكون مضطرّة للكلمات و الجمل و النّصوص و الخطابات الرّامية إلى الإقناع ؛

 

2▪ و من أجل أن تتمكّن الدّولة من أدواتها و أدوات الآخرين التي تُشهَرُ في وجهها السّياسيّ بين فينة و أخرى قادمة من قاع المجتمع المتخلّف و المحدود بمشاريع جماعاته و أفراده الاستقلاليّة و الانفصاليّةو المتمايزة دوماً طامحةً إلى التّعضّي المقاوم في شدٍّ فيزيائيّ كتلويّ ، بعكس شعاع سرعة الدّولة و تسارعها وفقاً للمشروع النّافع و الضّروريّ للمُتّحَد في هيئة الأغراض و الأهداف ..

     و في ممارسة الدّولة شرعيّتها أو شرعيّاتها دون جميع “المشروعيّات” الأخرى .. و في مصادرتها لتلك “المشروعيّات” ..

     و في سبيل حمايتها للمجتمع و الدّفاع عنه ضدّ أعدائه و حمايته من نفسه و من مكوّناته متبادلة التّحدّي الذي حنّطته ذكريات التّفوق في السّوق أو في الحقل أو في المنظومة أو في الثّقافة أو الثّقافات … ، إلخ ، إلخ ..

     إنّه في كلّ ذلك ؛ و في غيره ، أيضاً ، ممّا يتّصل به أو يتعلّق بتفاصيله أو إجماليّاته الأخرى ..يبدو مشروع “الدّولة” مشروعاً مستقلّاً عن مشاريع الأفراد و الجماعات و الفئات و الطّبقات و الاتّجاهات و القناعات و المصالح و المعتقدات ، و عليه أن يكون كذلك ، ما أمكنها كلُّ ممكن و متاح و ضروريّ و مدبَّر إلى هذا السّبيل .

3▪ في مقال لنا منذ سنوات ، كنّا قد رسمنا صورة تخطيطيّة للعلاقة التي تحكم “المثقّف” ، بوجه عام ، مع “الدّولة” التّاريخيّة ، بما هو “المثقف” صاحب السّلوك الإيجابيّ الذي يقوم به في فعل غير إيجابيّ إزاء “الدّولة” ..

     كما كنّا ، أيضاً ، قد خصّصنا جزءاً من حديثنا ، اهتمّ بظاهرة “المثقّف” السّوريّ ، بخاصّة ، حيث أوضحنا في سياقه كيف كان “المثقّف” السّوريّ ، بشكل عام ، نقمة على “الدّولة” التّاريخيّة ، و على الدّولة الوطنيّة السّوريّة منذ “الجمهوريّة الأولى” ، و على مدى أكثر من نصف قرن .

     و كنّا قد رفعنا الحديث عن علاقة “الدّولة” بِ”المثقّف” ، إلى هذه الّلحظة بحيث أنّه يتحتّم علينا ، هنا ، أن نبحثَ في هذه العلاقة ، تاريخيّاً و وضعيّاً ، على عكس ما كان حديثنا فيه ، سابقاً ، على علاقة “المثقّف” بِ”الدّولة” ؛ و أعني أنّه علينا ، الآن ، أن ننظرَ إلى المشكلة ( أو الإشكاليّة ) من باب كون “الدّولة”- هذه المرّة – هي الطّرف الإيجابيّ في هذه العلاقة في السّلوك .

     □  و سنلجأ إلى تقسيم الحديث إلى محورين :

     ○  الأوّل ، و هو علاقة “الدّولة” التّاريخيّة بِ”المثقّف” ، بوجه عام .

     ○  و الثّاني ، و هو علاقة “الدّولة الوطنيّة السّوريّة” بِ”المثقّف” السّوريّ ، بوجه خاصّ .

 

●  أوّلاً : في الدّولة التّاريخيّة

4▪ نشأت المشكلة “الثّقافيّة” بين “الدّولة” و “المثقّف” ، في التّاريخ ، منذ أن ظهرت البوادر الفكريّة المؤسّسيّة الموضوعيّة للإنسان ، عندما بدأت المؤسّسة “تتدخّل” ، لسبب أو لآخر ، بحياة الأفراد ؛ و منذ أن أدركتْ مؤسّسة الدّولة التّاريخيّة استقلالها النّسبيّ عن حياة الأفراد و الجماعات التي ترى الدّولة في نفسها ، و تبعاً لأشكال الدّولة المختلفة مع الزّمن ، “مالكة” أو “مفوّضَةً” أو “ممثِّلةً” ، أو “حاميةً” أو “راعية” أو “مستثمرة” أو “متسلّطة” أو “متسيّدة” .. على مقدّرات و مصالح و حياة هؤلاء .

     لا أتحدّث ، طبعاً ، عن سلوك “الدّولة” كردّ فعل على الحركات الفرديّة أو الجماعيّة المتمرّدة و الطّامحة و المتطّلعة إلى استبدال السّيطرة و الحكم و السّيادة ، فهذا لا يؤصّل للعلاقة التي نبحث فيها و لا يشرحها بالفعل الأصليّ ؛ و لكنّني أتحدّث عن السّلوك الإيجابيّ المحض الذي تسلكه “الدّولة” وفق تصوّراتها ، هي ، عن “الحكم” و “السّيادة” ، نحو “المثقّف” أو “المثقّفين” .

5▪ إذا تتبّعنا تاريخيّة بعض أشكال الدّول ، على العموم ، فإنّنا نجد أنّ “الدّول” صاحبة المواقف المجرّدة في تهيّبها من “المثقّف” و استبعادها له من مشروعها العامّ ، و إهمالها له أو التّضييق عليه ، أو محاصرته و نبذه ، و أحياناً التّخلّص ؛ إنّما كان يقترن ، عادة ، بالدّولة التي تعاني من نقص في “الشّرعيّة” الذي يُصاحبه جهلٌ في طبيعة المشروع السّياسيّ و وظيفيّة الدّولة ، أو تجاهل للوجود الاجتماعيّ و السّياسيّ للقوّة البادية على أصحابها من “المثقّفين” ، كمعرفة ، أو كتهديد عصبويّ آخر في شكل من الأشكال ..

     و غالباً ما كان يترافق هذا الأمر مع أشكال الدّول الاستبداديّة و الدّكتاتوريّة و الثّيوقراطيّة ، في التّاريخ القديم و الحديث و المعاصر ، تلك الدّول التي تتصوّر أنّ اقتصاد القوّة أو العنف يعني الضّعف أمام القوى الاجتماعيّة و السّياسيّة و الثّقافيّة الجانبيّة ..

     مع أنّه ليس ثمّة سياسة حصيفة لدولة ناجحة و قويّة و مسيطرة ما لَم تعرف كيف تقتصد من “سلطتها” و “قوّتها” و “عنفها” الضّروريّ و المشروع ، و أعني في الأحوال “العاديّة” التي لا تكون “الدّولة” فيها ، أو لا تشعر فيها “الدّولة”بالتّهديد الدّاخليّ أو الخارجيّ المباشرين .

6▪ في التّاريخ العربيّ- الإسلاميّ .. و كذلك في التّاريخ “الأوربّيّ” ، نماذج معروفة من تلك “الدّولة” الهيّابة أمام المشروعيّات و الشّرعيّة و الحقوق و الثّقافة و المثقّفين .. فما من داعٍ لضرب الأمثلة ، إذْ أنّنا نتحدّث في “النّظريّة” ، بوجه عام .

     و إذا استطعنا أن نفصلَ “الدّولة التّاريخيّة” ، في سياق الكتابة ، فإنّنا ، على التّأكيد ، لا يمكننا في الفكر السّياسيّ ، بل و لا حتّى في “فلسفة السّياسة” ، أن نتّبعَ خطّة “متعالية” أو “علائيّة” ( ترانسندنتالية ) – الفلسفة الترانسندنتالية: هي تلك الفلسفة التي تبحث في “الشروط القبلية” للمعرفة البشرية. فلا تهتم بالمعارف ذاتها وإنما بطريقة معرفة الإنسان بها ؛ أي بشروط التجربة وما يسبق التجربة منطقيا من مقتضيات تجعلها ممكنة.. و أول من تحدث بها الفيلسوف كانط – .

     عندما يكون الحديث عن “الدّولة” ، مجرّد دولة ، مطلق دولة ، لأنّنا لا يمكننا كدارسين أن نتصوّر أو نضع أنفسنا خارج “الدّولة” أو فوق “الدّولة” أو تحت “الدّولة” ، و هذا لعلّة أنّنا حتّى في مفهوم “الدّولة” الأونتولوجيّ ذي البعد الميتافيزيقيّ ، نحن محكومون بِ” الوضعيّة ” الفلسفيّة و السّياسيّة بواقع “الدّولة” و ممارساتها ، هذه الممارسات التي ، هي ، نحن ، جزءٌ منها ، بما في ذلك وعينا بخصوص الكثير من القضايا التي تنتجها “الدّولة” أو تنتج عكسها ، مثل العدالة الاجتماعيّة ، و أعني بالعدالة الاجتماعيّة ، على عكس ما قرّره بعص “المثقّفين” و غالى به بعض “الفلاسفة” و المفكّرين ، أيّ تلك العدالة السّياسيّة ذات الأثر الاجتماعيّ في توزيع أثر الدّولة و مؤسّساتها و أدواتها و شخصانيّتها ، ناهيك عن شخصيّتها الاعتباريّة ، توزيعاً معرفيّاً لا تحدّه “الثّقافة” .

7▪ من الواضح أنّ هذه المسألة هي على جانب من الغموض و الإبهام ، و لكنّ لها ، بكلّ تأكيدٍ ، معانيَ” أو “دلالات” وافية ممّا يُمكن التّشخيص عليه .

     و في سبيل المثال ، يمكننا ، إذا كنّا محايدين و موضوعيين ، و لو بالزّعم ، أن ننظرَ إلى “الدّولة” غير العادلة ، وفق مفهومنا المقدّم على هذه العدالة ، في سياقِ تخلّيها عن “العدالة المعرفيّة” التي ذكرناها منذ قليل ، و التي تقود ، عند توفّرها ، “الدّولة” إلى مختلف “العدالات” و تمكّنها منها ، في شتّى صور و حقول التّوزيع الاجتماعيّ و السّياسيّ و كذلك الاقتصاديّ ، أيضاً .

     و للتّشخيص الواقعيّ التّاريخيّ ( و هذا لمن لا يُحبّ التّجريد ! ) ،فقد لا تكتفِي “الدّولة” التّاريخيّة ، بخروجها – مثلاً ، مثلاً .. ! – عن “التّوصية الأفلاطونيّة” ، أو بالأحرى عن “الوصايا الأفلاطونيّة” ، بشأن “المعرفيّة” التي عليها أن تحكم “الدّولة” ، أوّلاً ، لتكون قادرة على أن تكون حاكمة ؛ بل و تجاوز هذا الخروج عن ( أفلاطون ) إلى ما هو خروج “على أفلاطون” ، و أعني التّمرّد المقصود ، أو غير المقصود لعلّة في “الحاكمين” .. جعل من “الدّولة” التّاريخيّة عدوّة للمعرفة .

     أكيدٌ أنّني لا أقول كلاماً مرسلاً عن “المعرفة” ، و لكنّني أحدّد بِ”المعرفة” ما هي العقلانيّة السّياسيّة التي تُنجي الدّولة من ذاتها ، أوّلاً ، باعتبار “العقلانيّة” شيئاً ضدّ التّجريبيّة “المجانيّة” ، و لكنْ تلك التي تحصد حياةَ الشّعوب ، و باعتبار “المعرفة” هي تلك “العقلانيّة” ، أيضاً ، التي تعترف لنفسها .. بوصفها شيئاً من تقليد “الآلهة” في رعيِ “المؤمنين” في تشخيص حيّ للأخلاق السّياسيّة التي حارتْ العقول في خلطها بالسّياسة و في خلط السّياسة بها ، و ما زالت إلى الآن !

8▪ طبيعيّ أنّ هذا يقودنا إلى القول بأنّ “المعرفة” هي الجزء الخالد من “العقل” البشريّ ، أو الذي يُلهمه “الخلودُ” إدراكَ شؤون “النّاموس”في الممارسة و في “القانون” و في مختلف العلوم .

     هذا أقصى ما يمكن لنا أن نتهافتَ بهِ إلى استبعاد “المعرفة” من “المثاليّات” الأخلاقيّة المستحيلة ، و الكاذبة على كلّ حال ، و لكنْ ، و في الوقت نفسه ، هو أقصى ما هو مسموح فيه للعبارة بتقريب “العقل” ، و ما هو ، أيضاً ، مسموح فيه للعقل بتجويد الواقع في التّشخيص .

     جهلتْ الدّولة التاّريخيّة ، بما فيها الدّولة المعاصرة ، و أنتجت جهلها الذي صار نموذجيّاً في “الثّقافة” و في الثّقافة السّياسيّة على الأخصّ ، و الذي ، أيضاً ، انقسم عليه “المثقّفون” فيما بينهم ، كما انقسموا مع “الدّولة” عليه ؛

     و إذا كان ( بيير بورديو ) ، الفيلسوف و عالم الاجتماع السّياسيّ الفرنسيّ المعاصر ، قد اعتبر “الخيانة” في معرض نقل المشفوه إلى الكتابة ، هي “شرط الوفاء الحقيقيّ” ، و هو يعني الوفاء المعرفيّ ، بالطّبع ؛ فإنّ ممارسة “الدّولة” ، عبر التّاريخ ضحّت ، في وقت معاً ، بالوفاء و بالخيانة عندما استطاعت أن تتجنّب المعرفة العقلانيّة في كلا “المشفوه” و “المكتوب” ، و هو ما أنتج للدّولة ثقافتها السّياسيّة الخاصّة التي “وزعتها” بالممارسة توزيعاً ، هو الآخر ، غير عادل و غير “اجتماعيّ” و لا حتّى “سياسيّ” !.

9▪ وهناك تساؤل جدير بالاهتمام ، هو : هل للدّولة كثير من الحقوق في ذمّة “المثقّفين” .. (!!؟) ، طالما نّها هي التي خلقت الثّقافة غير المعرفيّة ، كأداة سياسيّة ، فظنّ بها “المثقّفون” نموذجاً و مثالاً و خطاباً مشتركاً لهم فيه أن يقارعوا الدّولة به ، فيما عزّز هذا الأمر تلك الانطوائيّة الثّقافيّة في الدّولة ، فتحوّلت في “أدمغة” بعض المثقّفين الذين لا عقلَ معرفيّاً لهم .. بوجه العموم ، إلى سلاح تجاوز الانطواء إلى الجريمة و الثّورة و الانقلاب و الكيديّة و الثّأر .

     هذه صورة عامّة و شاملة لنموذج الدّولة التّاريخيّة ، و من الطّبيعيّ أنّه مقياسٌ مثاليّ أو مُعَادِلٌ نموذجيّ (ستاندرد) ، تتوزع “الدّول الوضعيّة” ، هنا و هناك ، على تقاسم مساوئه و محاسنه .. هذا إذا كان له من المحاسن نصيب .

قد يعجبك ايضا