آفاق الإقتصاد العالمي / الطاهر المعز

افاق الاقتصاد العالمي : مخاطر الانزلاق وسياسات الانطلاق - مقالات

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 11/4/2020 م …




مقدمة:

رافق انتشار وباء “كوفيد 19” تغيير شامل في الحياة اليومية للأفراد والمُجْتَمعات، وفي سير شؤون الإقتصاد، وكافة جوانب الحياة، وتوَقُّفُ الإنتاج في معظم القطاعات، ما قد يؤدّي إلى شُحّ المواد الأساسية كالغذاء، كما حدث خلال أزمة 2007/2008، حيث ارتفع سعر الحبوب والأغذية، وتتخوف الدول المُستورِدَة للأرز من التأثيرات السّلْبِيّة لقرار حكومات ست دول آسيوية من كبار مُصدِّرِي الأرز (كالهند وفيتنام وكمبوديا وتايلند ) فَرْض قُيُود على تصدير الأرز، وتأجيل توقيع عُقُودٍ جديدة، ما يهدّد بانخفاض مخزون البلدان، وبأزمة غذاء عالمية، لأن الأرز غذاء أساسي لحوالي ثُلُثَيْ سكان العالم، ولا تنتج جميع الدول المُسْتَهْلِكَة الأرز، بل تستورده، ومن بينها أغلبية الدول العربية، وتُنتج قارة آسيا (الهند وتايلند وفيتنام والصين وإندونيسيا وبنغلادش، وبورما، والفلبين، واليابان )، وتستهلك كذلك نحو 90% من إمدادات الأرز العالمية، وأدّت هذه القُيُود إلى زيادة الطّلب على الأرز، وارتفاع سعره في الأسواق العالمية، بقرابة 20% في المتوسط، إلى أعلى مستوى، منذ سنة 2013، إذ تحاول الدول، وتجار الجملة، تخزين أكبر قدر ممكن، وتعتبر المخزونات منخفضة في البلدان العربية، بحسب تقرير وكالة “رويترز” (08 نيسان/ابريل 2020)، وينعكس ارتفاع الأسعار بشكل مباشر على حياة المواطن العربي، خصوصًا في المشرق، قُبَيْل حلول شهر رمضان وزيادة استهلاك الأرز، وقد يؤدي شح المعروض وارتفاع سعر الطن إلى ألف دولار إلى أزمة غذائية، بينما تُشير التوقعات إلى زيادة الطلب على الأرز، خلال العقد المقبل، بحسب دراسة نَشَرَها “ معهد أبحاث السياسات الغذائية والزراعية”.

مؤشرات الأزمة اقتصادية:

فرضت معظم دول العالم “الحجر الصّحّي”، في محاولة للحد من انتشار فيروس “كورونا”، فتوقّف النشاط الإقتصادي في معظم القطاعات، وفَقَد مئات الملايين من البشر دَخْلَهُم، ونَشَر صندوق النقد الدولي (حارس الرأسمالية العالمية) عدة دراسات ووثائق ترصد دَرجة غير مسبوقة من “حالة عدم اليقين الاقتصادي”، واعتمدنا في بعض هذه الفقرات على بيانات الصندوق الصادرة يوم 31 آذار/مارس ويوم 08 نيسان/ابريل 2020، حيث يتخوف خُبراء صندوق النقد الدّولي من “عدم الإستقرار”، مع استمرار ارتفاع عدد الحالات الجديدة للإصابة بكوفيد 19، على مستوى عالمي، رغم انخفاضها أو استقرارها في بعض البُلْدان، وسُجِّلَ هذا الإرتفاع في العديد من الدّول الأوروبية (فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وبريطانيا) كما في إيران وفي الولايات المتحدة، بموازاة التأثير السلبي على نمو الإقتصاد العالم، وحذر صندوق النقد الدولي، في الثامن من شهر نيسان/ابريل 2020، من احتمال انهيار اقتصاد العديد من الدول العربية، خاصة ليبيا والسودان واليمن والعراق وسوريا ولبنان والأردن، وبعض بلدان الإتحاد السوفييتي السابق، في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي بلدان غير قادرة على مواجهة انتشار وباء “كوفيد 19″، بسبب انهيار المنظومة الصحية، وبسبب تبعيتها الغذائية للخارج، في الظّرف الحالي. أما البلدان المُصدّرة للنفط فتواجه من جهتها انهيار أسعار برميل النفط الخام وانخفاضها بنسبة فاقت 50%، خلال أسابيع، بفعل توقف حركة النقل وقطاعات الصناعة والسياحة، وانهيار الطلب على المحروقات…

انخفض استهلاك الأفراد والأُسَر بسبب إجراءات الحَبْس المنزلي (الحجر الصحي) وبسبب انخفاض الدّخل واختفاء العدد من السلع وارتفاع الأسعار، وخصوصًا أسعار السلع الضرورية والأساسية، وزاد حجم البطالة بعد توقف قطاعات السياحة والفنادق (المغرب وتونس ومصر والإمارات والأردن…)، وقطاعات النقل والتجارة والمطاعم والخدمات التي تُشغل أعدادًا كبيرة من العاملين بطريقة نظامية أو في الإقتصاد المُوازي، كما انخفضت عائدات الدولة من العملات الأجنبية التي يُرسلها العُمّال المهاجرون إلى ذويهم، وما زاد الطين بَلّة هُروب رؤوس الأموال، وتخارج الإستثمارات، وتؤدّي هذه العوامل إلى تداعيات سلبية على اقتصاد الدول المُكَبّلة بالدّيون الخارجية، إذْ تُقدّر قيمة الدّيُون السيادية الخارجية للدول العربية، التي يحل أجل استحقاقها قبل نهاية سنة 2920، بنحو 35 مليار دولار، ورغم هذه البيانات، يدعو صندوق النقد الدولي حكومات الدول العربية “لدعم الأُسَر والشركات” (والواقع أن اهتمام الصندوق وشقيقه البنك العالمي يَنْصَبُّ على الشركات وأرباب العمل والأثرياء، أما الأُسَر فلا يرى فيها الصندوق غير جانب الإستهلاك)، ويظهر ذلك بجلاء من خلال حث الصندوق للحكومات على “توفير السيولة للمصارف، ولدعم الإقتصاد، عبر تقديم الدّعم من المال العام لشركات القطاع الخاص، وتأجيل تسديد الرسوم وقُروض الشركات، للحد من تباطؤ النشاط الاقتصادي…”، بحسب مدير “إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى” في صندوق النقد الدولي، الذي أعلن حاجة العديد من الدّول إلى قُروض طارئة (لإهداء هذا المال المُقْتَرَض إلى الشركات؟)…

نشرت وكالة “فيتش” للإستشارات والتقييم الائتماني، تقريرًا متشائما بعنوان “التوقعات الاقتصادية العالمية في ظل تفشي فيروس كورونا”، ويتوقع مُعِدُّو التقرير ركودًا وانخفاض الناتج الإجمالي العالمي بنسبة  1,9% سنة 2020 مع احتمال تطورات سلبية، وحدوث أزمة مالية عالمية، يتسع نطاقها أكثر مما يتوقع الخبراء والباحثون، في مجالات النشاط الإقتصادي والتشغيل، وفي حال تمديد عمليات إغلاق الشركات إلى نهاية الربع الثاني من السنة الحالية (2020)، يُتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي، في الدول الرأسمالية المتقدمة ( الإتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، مثلاً) بنسبة قد تصل إلى 8% في الربع الثاني من سنة 2020، مع فقدان الوظائف (حوالي عشرة ملايين وظيفة في الولايات المتحدة لوحدها) وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وخفض النفقات الرأسمالية، وعدم عودة الإنتعاش في الولايات المتحدة وأوروبا، قبل نهاية سنة 2021، حتى لو تراجعت حدة “الأزمة الصحية”، خلال النصف الثاني من سنة 2020…

أصدَرت منظمة التجارة العالمية تقريرًا يوم الإربعاء 09 نيسان/ابريل 2020، وتوقع التقرير تَراجُعَ حجم التبادل التجاري العالمي، سنة 2020، بنسبة قد تصل إلى 32% بسبب “الأثر الاقتصادي المدمّر للوباء”، وأعلنت منظمة العمل الدولية أن الفيروس التّاجي يهدّد معيشة نحو 1,25 مليار عامل، بسبب ” تباطؤ النشاط الإقتصادي، والقيود المفروضة على السفر، وإغلاق قطاعات كاملة من الإقتصاد، مثل الفنادق والمطاعم وتجارة التجزئة غير الضرورية والسياحة، وجزء كبير من نشاط التصنيع”.

خاتمة:

أظهرت الأزمة الصحية الناجمة عن انتشار وباء “كوفيد 19” انهيار منظومات الرعاية الصحية، بفعل سياسة التقشف، وخفض الإنفاق الحكومي في قطاع الصحة العمومية والوقاية والعلاج، وتقديم المال العام، مجانًا، للشركات والمصارف والأثرياء، ومن بين الشركات التي استفادت من المال العام (عبر خفض الضرائب) ومن حماية الدّول الإمبريالية، في وجه المنافسة، شركات تصنيع العقاقير أو “بيغ فارما”، ونادرًا ما تستثمر هذه الشركات في مجال الوقاية، لأن ذلك مخالف لمنطق الرّبح، فالوقاية تقضي على المرض قبل انتشاره، ما يُشكل خسارة لهذه الشركات التي تُهمل الأمراض المُعْدِية، مثل “كورونا”، لأن أرباحها مُتأتّية من إصابتنا ومَرَضِنا، وتحول قطاع الصحة، في ظل الليبرالية المفرطة (النيوليبرالية) إلى بزنس، وتجارة…

إن النموذج الإقتصادي الرّأسمالي المهيمن، هو الذي فَرَضَ خصخصة المؤسسات والثروات والمرافق والخدمات والصحة والتعليم والسكن والنقل والكهرباء والماء وغيرها، ما عَمّق الفوارق الطبقية وما حَرَمَ أغلبية السّكّان من ثروة البلدان ومن الخدمات الأساسية الضرورية للحياة، وأدّت الخصخصة، وإهمال جانب الوقاية والتّحصين، إلى التضحية بالعاملين في قطاع الرعاية الصحية، والعناية بالمُسِنِّين والمعوقين، وفي قطاعات أخرى كتجارة التجزئة والنقل والنظافة وغيرها، ليكونوا في طليعة المُصابين والموتى، ليكون وباء “كوفيد 19” دليلاً على عدم المُساواة من المهد إلى اللحد، إذ يضطر الفُقراء والعُمال والنساء في جميع مناطق العالم، والسود (في الولايات المتحدة) للعمل دون توقف، وليكونوا عُرضة أكثر من غيرهم للإصابة بالوباء أو بأمراض مهنية أو بحوادث عمل

يَفْرِض منطق السوق وقانون العرض والطلب إنتاج سلع قابلة للبيع بسرعة، وعدم تخزين المواد أو المعدات الضرورية، لاستخدامها في حالة الطوارئ، لأن “التخزين شر مطلق”، بحسب أحد أقطاب الرأسمالية المعولمة، “تيم كوك”، المدير التنفيذي لشركة “أبل”، ما يُفسّر نقص المعدات الطبية الضرورية للفحص والإختبارات، التي تهيمن على إنتاجها بضعة شركات تنتج وتبيع إنتاجها في المكان والزمان المطلوبَيْن، وترفض أن تصنعها مسبقا وتخزنها، فلم تتمكن الطواقم الصحية من الحصول على معدات الوقاية، خلال انتشار وباء “كوفيد 19″، ما أدى إلى ارتفاع حالات الوفاة بين الأطباء وطواقم الرعاية الصحية، في كافة دول العالم، وحَذّرت الأمم المتحدة من نقص الغذاء، بسبب تعطيل الإنتاج والنّقل، وإغلاق الحدود، أما المُشردون وفاقدو المأوى، والأسَر التي تسكن مساكن ضيقة ومكتظة وغير صحية، فلا أحد يهتم بأمرهم وبمصيرهم، بينما تنفق الحكومات المال العام لإنقاذ المصارف والفنادق والشركات الكبرى في قطاعات غير أساسية، مثل صناعة السيارات أو الطائرات…

لعبت الصين دورًا رئيسيا في إنقاذ النظام الرأسمالي العالمي، خلال أزمة 2008، ولكن وباء “كوفيد 19” ضرب الصين قبل أي دولة أخرى، وتأثر اقتصادها كثيرًا، رغم العودة التدريجية للنشاط الإقتصادي، وقد لا يستطيع نظام الصين إنقاذ النظام الرأسمالي العالمي، هذه المرة، مثلما فَعَلَ قبل أكثر من عِقْد، وفي الولايات المتحدة يتوقع أن لا تختلف خطة دونالد ترامب (الجمهوري) سنة 2020 عن خطة باراك أوباما (الديمقراطي) سنة 2008، لإنقاذ الإقتصاد الأمريكي من أزمته، وإطلاق برامج طوارئ، لتستفيد الشركات الإحتكارية، العابرة للقارات، من المال العام، ويغرق العُمال والفقراء في المزيد من الفقر، وبدأت شركات صناعة السيارات والطيران وغيرها عملية الإبتزاز، عبر طلب المال العام، وتسريح العُمّال…   

قد يعجبك ايضا