إرث بوليفار المعرفي ودوره في حركات التحرر – معاذ عابد

 

 

 

 

 

 

 

معاذ عابد * ( الأردن ) السبت 17/1/2015 م …

* مناضل شيوعي في صفوف حركة اليسار الإجتماعي الأردني

نقدم لكم المقال البحثي الفائز بالمرتبة الأولى في مسابقة سفارة جمهورية فنزويلا البوليفارية في الأردن حول إرث سيمون بوليفار المعرفي والفكري،وهذه المقالة البحثية تتطرق لكيفية إنتاج التحرر الوطني معرفياً وإعادة تشكيل الأدوات التحليلية لمختلف المجتمعات والجوهر التحرري فيها.

 

المحتويات:

 

          مقدمة

 

          ملامح الفكر البوليفاري

 

          محطات التطور في إرث بوليفار” أهمية الفكر البوليفاري كأساس للتقدم المعرفي”

 

          ركائز حركة التحرر البوليفارية

 

          مراجع

 

 

مقدمة

 

ان الخط الاجتماعي والسياسي الذي تشكلت ملامحه عند سيمون بوليفار لم يكن له إطار يجمعه في فكر أو أيدلوجية قبل الثورة البوليفارية التي قادها الرئيس الراحل الرفيق هوغو تشافيز فهذه الثورة هي تطبيق على أرض الواقع لفكر لم يكن متبلوراً بالنضوج السياسي والاجتماعي الذي يستحقه ،فالتحرر القاري الذي بدأ به سيمون بوليفار شكل ملامحاُ جديدة في التاريخ البشري وحتى قبل بداية حركات التحرر في العالم اجمع،وبدون أي مراجع فكرية تحررية تؤطر الحركة البوليفارية لم تستند حرب التحرير العظمى ضد الاستعمار والملكية على أساس ايدلوجي ترتهن هذه الحركة التحررية وترتبط به ولكن في نفس الوقت لم تخلو من أساس علمي كان قد ساهم في تكوين النفس التحرري لدى بوليفار.

 

 فقرائاته الأولية في فترة اغترابه في أوروبا ساهمت بتكوين منظومة نسق فكري تقرأ الواقع وتستشهد بأراء علمية كالملاحظة التي ابداها الرحالة والعالم الألماني  ألكسندر فون هومبولت عن أن المستعمرات الأسبانية في أمريكا اللاتينية تستعد للتحرر حين ذكر بوليفار في قوله عن همبولت “إنه المكتشف الحقيقي لأمريكا الجنوبية لقد كان عمله أكثر فائدة لشعبنا من أعمال جميع الغزاة” (1)ان الفكر التحرري لبوليفار لم يأت فقط من مرجع فكري أو أيدلوجي بل تطور كذلك من الممارسة العملية خلال حرب الاستقلال .

 

برغم أن هذا الفكر لم يكن له له إطار يجمعه إلا أنه كان متواجداً على شكل إرث تحرري فلا أبلغ من صورة لتمثال المحرر العظيم سيمون بوليفار في القاهرة وقد غطى الشباب المنتفض فم بوليفار بكمامة لتقيه وهو على فرسه غاز مسيل الدموع،إن إرث بوليفار بينهم فتمثاله على حصانه هي روح  كفاحية تشربت بها الشعوب أجمع.

 

 

 

ملامح الفكر البوليفاري

 

سنبتعد عن الصواب إذا قلنا أن بوليفار منظر أو أيدلوجي أو سياسي فلسفي بل كان شيئاً من كل ذلك، ولكننا سنكون بالدقة ذاتها إذا قلنا أنه كان سياسياً من الدرجة الأولى وكان النضوج السياسي لتكوينه التحرري ينعكس في أعماله ومأثره سواء بزهده في السلطة والرئاسة أو بترتيبه للأولويات،نستطيع أن نفسر هذا الفكر حالياً بسبب تملكنا الأدوات المعرفية التي تؤهلنا لتحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية في أمريكا اللاتينية في حرب الاستقلال وما بعدها.

 

إن من اهم مظاهر التشكيل البوليفاري في تلك الحقبة هو ظهور طرف جديد يصارع القوى المتواجدة لم ينتمي هذا الطرف إلى البوربونيين أو لأنصار آل هابسبرغ أو أي عائلة ملكية ولا إلى تيارالأجيال الثانية والثالثة من الإسبان  ولم يكونوا ينتموا الى الكريوليين (المطالبين بالسيادة الذاتية المؤقتة حتى استقرار الملكية)  بل عرفوا …بالوطنيين والكلمة التي تعرف اصطلاحا باللغة الانجليزية (nationalist) (قومي, وطني)  فظهور الوطنيين في مناطق أمريكا اللاتينية في وقت متقارب واندلاع ثورات يقودها سيمون بوليفار في شمال وغرب القارة اللاتينية واندلاع ثورة خوسيه دي سان مارتين وتلاحمه مع ثورة برناردو أوهيغينز في التشيلي جعل من تيار سياسي وعسكري ثوري يحمل خطاً وملمحاً جديداً في التشكيل السياسي وهم “الوطنيين” أو “القوميين” من اللافت في الأمر ان حتى تسمية الوطنيين والقوميين لم تكن نابعة من فكر تحرري قائم على أساس سياسي بل نابعة من حاجة ثورية للتخلق من النقيض و”الضد” للوطنيين وهم هنا الملكيين.

 

فكانت الصفة المترابطة كما تظهر مراسلات بوليفار في الكثير من المناسبات والخطابات بين الوطنيين أنهم جمهوريين،يدعون إلى بناء جمهوريات وإن اختلفت أشكال التسمية لهذه الجمهوريات سواء التي تمتعت بصفة دستورية او التي طالبت بتلك الفترة ببناء أوتوقراطية رئاسية بشكل خاص بتلك الحقبة (بمعنى الرئيس مدى الحياة،ويسمي خليفته للرئاسة)

 

لذا نجد أول ملمح من ملامح الفكر البوليفاري أنه كان فكراً جمهورياً لم يناد بالملكية الدستورية ولا بالحكم الأوتوقراطي الوراثي (2) وطبق هذا الفكر في استقلال فنزويلا عام 1811 بعد إعلان مجلس كاراكاس السياسي استقلال فنزويلا ،ما عُرف بالجمهورية الأولى.

 

النقطة الثانية في ملامح فكر سيمون بوليفار التحرري أنه كان يسعى لا إلى التحرر من الاستعمار وباشكال  شتى منها الاستقلال الوطني والنضال من أجله وإلغاء الرق والعبودية بل كان هذا التحرر هو نضال لا يقتصر على نهج سياسي فقط بل  التحرر من الفكر الاستعماري أيضاً  الذي ظل متفشياً في المجتمع اللاتيني الناشئ الذي أراد استبدال الملوك الاسبان بملوك محليين على شكل رؤساء وإن كان النضوج الاجتماعي والقراءة الشاملة للمجتمع اللاتيني في تلك الفترة تدل على ان الجو العام في البلاد كلها كان يدعم هذا التوجه بين السياسيين الجدد  وحتى بين الثوريين والوطنيين أمثال أوهيغينز(3) الذ يصنف كرئيس وطني إلا أن الفكر السيادي الذي زرعه الاستعمار وصل بشكل أو بآخر إلى الساسة الوطنيين،في الحقيقة لا يجب أن نضع كل اللوم على هذه الحركة الناشئة التي قامت بجهد عظيم سابق لعصره “معرفياُ” ومن الأعمال الريادية “واقعياً” التحرر من الفكر الاستعماري بقي يتنقل بين الخطوط الثورية في أمريكا اللاتينية بأشكال متعددة ظهر في الكثير من الحركات الثورية ولكنها لم تتشكل سوى عند بوليفار في تلك الفترة،فلا أقل أن نجد ملامح التحرر من الفكر الاستعماري وقيمه السياسية والاجتماعية في الحركات المحلية القومية بين السكان الأصليين للقارة اللاتينية مثل توباك أمارو وحركته التي تكررت حتى حملت في البيرو إحدى الحركات الثورية اسمه والتي يقبع زعيمها في السجن حتى الآن.

 

التحرر من فكر الاستعمار وجد طريقه في الحركات الكفاحية اللاتينية على اختلاف مناهلها السياسية ومشاربها الفكرية فما الذي قد يجمع فكر تشي غيفارا فيديل كاسترو و أبيمال غوزمان والفارك والزاباتا والبوليفاريين وتوباك أمارو وخوسية مارتي  هناك شيء واحد مشترك يجمع كل هذه الحركات،شيء خفي،حتى وان تعارضت النظرة مع هذا التيار أو ذاك ما زال نفس التحرر من الفكر الاستعماري هو الجامع المشترك الأكبر لهذه الشعوب والحركات.

 

لعل التحرر من رواسب هذا الفكر الذي توالى بأشكال عديدة من الاسبان إلى الانجليز انتهاء باليانكي وعملائه الذين حكموا القارة اللاتينية مثل بينوشيه وباتيستا وغيرهم،كان يجب أن يضمحل ولكن يجب أن ياتي فكر آخر يناقضه يحل محله،وهو الفكر الذي تركه بوليفار ليلتقطه تشي جيفارا  وفيديل كاسترو والراحل العظيم هوغو شافيز هو فكر التحرر الوطني الديموقراطي المرتكز على القاعدة التي انطلق منها بوليفار سابقاُ عصره في عملية الاستقلال، وهي أن الاستقلال المحلي هي حركة “تحتية المنشأ” بعيدة كل البعد عن البنية الفوقية الأوروبية في الأنماط الفكرية وتمثل المصالح الخاصة بالأغلبية الشعبية من المواطنين،أنها حركة ذاتية ووطنية ذات توجه تنموي مستقل بشكل تام  لا يستبدل النظام السياسي القديم بشكل جديد ومحلي بل بشكل تنموي اجتماعي يقوم على وحدة قومية والاكتفاء الذاتي فالدول التي نراها اليوم في أمريكا اللاتينية كانت تُسمى بالأقاليم الوطنية الأمريكية ولا أبلغ من هذا الفكر هو تشكيل كولومبيا العُظمى .

 

ما أسس له بوليفار هو مهمة وضعت على عاتق الوطنيين الديموقراطيين والقوى الثورية اللاتينية القوى القومية وهي مهمة “تأسيس دول قوية،مكتفية ذاتياً قادرة على تحقيق عملية بناء وطنية،وتبعاً لذلك على تشكيل مجتمع متماسك يعيش بانسجام ،فوق كل شئ متعلم حقاً” (4)

 

اذن فالتنمية الذاتية كانت هي الأساس في الفكر التحرري لأنها الداعمة الأساسية في الحفاظ على الاستقلال الوطني وترسيخه وتطبيع مبادئ العدالة والمساواة الاجتماعية ،لأن الذهنية الأوروبية التي كانت ترى من التعطش للدم ومشاهدة الإعدامات العامة في الشوارع وتستلذ بمنظر المدانين بأحكام الموت وهو يتوسلون من أجل الرحمة وفي ذات الوقت يرون بعض الطقوس الوثنية التي تمارس في مرحلة ذهنية وتشكل اجتماعي مبكر لدى الحضارات اللاتينية دموية ومجرمة، هذه الذهنية التي أنتجب الفكر القومي الشوفيني الذي يؤمن بالتفوق،فهذا بالمناسبة فرق مهم بين الفكر القومي اللاتيني التنموي الاساس والنزعة وبين الفكر القومي المنطلق من بنيه فوقية مؤمنة بالتفوق كما في أوروبا، وهذا ما قد ذُكر في القراءة عن كتاب إرث بوليفار(ما يدعيه البعض مما يسمى ” الاتصال المتسلسل بين دول أمريكا اللاتينية والتاريخ العقلاني الأوروبي” لأنه أكد على اعتبار أن المجتمعات في أمريكا اللاتينية في انفصال بل انقطاع عن أوروبا في نظراتها التاريخية المعرفية، وهذا بطبيعة الحال بسبب الاختلاف بين التكوين القومي في أوروبا التي من خلال التكوين الإنساني والاجتماعي وصلت إلى إختراع التفوق العرقي الآري والفاشية ممثلة بهتلر وموسوليني، وبرغم وجود ديكتاتوريا في أمريكا اللاتينية لكنها لم تكن ذات ايدلوجية فاشية مشابهة لتلك التي في أوروبا فحتى خوان بيرون برغم اعجابه بفرانكو أو هتلر أو موسوليني لم يستطع انتاج أو أن يتم الانتاج له بايدلوجية مشابهة للعقائدية النازية والفاشية بلون أمريكي لاتيني لأن التكوين الإنساني يختلف تماماً عن أوروبا لذلك يؤكد الكاتب في بداية الكتاب بقوله: التاريخ من وجهة نظرنا كما هو من وجهة نظر ماركس ليس علماًبل ترجمة سياسية لأحداث الماضي ، وهذا يفسر عدم انقطاع الربط بين التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والطبقي لحرب الاستقلال عن اسبانيا) (5) لذا فإن الفكر البوليفاري وضع النهج الوطني أو القومي على أول خطواته الحقيقية وهي التنمية والكفاءة والتماسك وأهم من كل ذلك العلم وبهذا الصدد قام بولفار بخطوات مهمة دعا لها في الكثير من المناسبات لعل أهمها في تلك الحقبة من الزمن الدعوة لتحرير العبيد وانهاء العبودية .

 

 

 

 

 

أهمية الفكر البوليفاري كأساس للتقدم- محطات التطور في إرث بوليفار

 

بدوره وضع  سيمون بوليفار حجر انطلاقة للنهج العلمي في حركات التحرر الوطني الديموقراطي الذي مر ب3 محطات تاريخية شكلت علامة فارقة في التطور المعرفي للوطنيين الديموقراطيين دعاة التحرر في العالم أجمع  

 

المحطة الأولى

 

 المهمة التي إنطلقت منها هي الفكر الشيوعي فعندما وضع لينين وتطرق لها ستالين بعض الأدوات المعرفية حول الممارسة العملية انطلق ماوتسي تونغ في حركة لمقاومة الاحتلال الياباني لبلاده ومن خلال خلفيته الماركسية اللينينية استطاع أن يستنبط من أدواته المعرفية ودراسة حركات التحرر الوطني والقومي لدى الشعوب ومن أهم مات توصل لأهميته العلمية في الحرب الوطنية ضد الاحتلال اليباني هو الممارسة العملية التي مارسها بوليفار في استنباط واتخاذ قرارات مهمة مثل ترك الحكم الرئاسي من أجل التمركز وحماية الاستقلال بالخفاظ على السلاح،هذه الممارسة العملية التي مارسها بوليفار في بداياته إبان حرب الاستقلال فاستشف ماوتسي تونغ ما قام به بوليفار وهو وجوب اتمام التحرر الوطني الديموقراطي قبل البناء والتنمية والاستقلال الذاتي لبلاده فشكل هذه الفكرة نقلة نوعية في الفكر الشيوعي بالعالم لقي الكثير من المؤيدين والمطورين وكذلك المعارضين  والمناوئين لأولوية التحرر الوطني وأهميته، تشي جيفارا المشبع بروح التحرر من الاستعمار وفكره كان قد تلاقت هذه الأفكار الثورية مع الخليط اللاتيني البوليفاري الذي تشبع به تشي بعد رحلته التي شابهت رحلة ألكسندر هومبولت فمعارضة تشي للبيروقراطية والتساهل بموضوع حركة التحرر الوطني الديموقراطي والتأثير البوليفاري في فكر تشي مقترن بصورة مهمة أكثر من ظهوره العلمي المعرفي لدى ماو تسي تونغ بسبب التسلسل الوطني(القومي) “في أمريكا اللاتينية” وهذا ما سنتطرق له لاحقاً.

 

الفكر الماركسي اللينيني”الوطني الديموقراطي والتحرر” أو ما يمكن تسميته الإضافة التي اضافها ماو ورفضها الكثيرون بسبب اراء فكرية ونسق ايدلوجي خاص بهم،لفهم يقتصر على أن التحرر الوطني هو ناتج عن تحرر طبقي اجتماعي أي أن الإطاحة بحكم طبقىة معينة يعني بالضرورة بداية عملية تحرر وطني ديموقراطي لا أنها عملية مستمرة ومتتالية لحركة متبادلة ذات علاقات متناسبة على جميع الجهات السياسية سواء الفوقة والتحتية.

 

واقترنت هذه الأفكار كما ذكرنا بالفكر البوليفاري لتشي جيفارا فكانت حصيلة طبيعية للنسق البوليفاري الرافض للبيروقراطية والاوتوقراطية فقال جيفارا بخصوص هذا الموضوع وفي الخلاف الصيني السوفييتي في مؤتمر الجزائر “الخطّ الصيني بقيادة ماو تسي تونغ هو الخطّ الماركسي الثوري الصحيح، وأما خطّ موسكو فهو يميل إلى “بورجوازية وبيروقراطية الدولة، وإلى التساهل في الكثير من الأمور الثورية الحقيقية” برغم معارضته الشديدة للخلاف الصيني السوفييتي إلا ان تشي جيفارا قد اعتمد في اختياره موقفاً هو الأقرب لماركسيته التي تعلمها في الجبال خلال الممارسة العملية كما قال في إحدى مقولاته المأثورة ،جيفارا رأى البؤس بعينيه بين الشعوب المضطهدة في القارة الثائرة وراى أثر الديكتاتوريات العميلة في تجويع وإفقار الشعوب فعلم بأن التعايش السلمي مع الرجعيات والإمبريالية ليس هو الحل الصحيح،وأن الحرب الثورية هي أهم أساس للأنتقال للعدل الاجتماعي والاشتراكية فاتخذ ميلا للجانب الصيني هو في مجمله ميلاً للنسق اللاتيني والذي ظهر في بوليفار وميراندا وخوسيه مارتي وغيرهم من رموز التحرر الوطني والقومي في تلك القارة.

 

ان التحرر الوطني والقومي الذي انطلق في أمريكا اللاتينية في نهايات القرن السابع عشر تطور ليصبح ركيزة أساسية في فكر ثوري جدلي وهو الفكر الشيوعي  “ وإذ جاء لينين ليعلن أن الحركات القومية التحررية في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة هي عموماً ذات طابع تقدمي بقدر معاداتها للإمبريالية، وأن النفس القومي الرجعي والشوفيني هو ذاك الذي يغطي النزعة الإمبريالية والنزعة العسكرية في الدول الرأسمالية المتقدمة، فإن ذلك الطرح أسهم بإنتاج صنفٍ من اليساريين القوميين في دول العالم المستعمرة وشبه المستعمرة ممن يطرح أساساً برنامجاً قومياً مناهضاً للإمبرياليةفالتحرير والوحدة والتنمية دون تبعية كانت برنامج الحزب الشيوعي الصيني في ظل ماو تسي تونغ، كما كان التحرير والوحدة برنامج الحزب الشيوعي الفيتنامي وهوشي منه.  ويقول الباحثون الأمريكيون في الكثير من مقالاتهم ودراساتهم عن الصين وفيتنام أن الشعب في البلدين كان لا يحب الشيوعية كثيراً ولا يميل إليها لولا أن النخب الشيوعية في البلدين أثبتت قدرتها على تحقيق برنامج التحرر القومي.  وكذلك في كوبا، لم يبدأ كاسترو اشتراكياً، ولكنه ورفاقه استنتجوا بالتجربة، وكانت حركة تحررهم قد ولدت خارج الحزب الشيوعي الكوبي، أن كوبا الرأسمالية لا يمكن أن تكون مستقلة عن أمريكا، أي أنهم استنتجوا الاشتراكية من الحس الوطني، وهو نفسه ما أوصل عبد الناصر وغيره من زعماء الدول المستقلة حديثاً في جنوب الكرة الأرضية من القوميين غير اليساريين لاستنتاجات مشابهة حول ضرورة تطبيق إجراءات اشتراكية في تلك المرحلة” (6) ونستطيع بكل بساطة أن نرى لا مجرد تشابه بل تطابق في الحركة البوليفارية وأهدافها وبين برنامج الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماوتسي تونغ الذي يقول ” إن وحدة البلاد ، واتحاد الشعب ، واتحاد جميع القوميات داخل البلاد ، هي الضمانات الأساسية التي تكفل الانتصار الأكيد لقضيتنا .(7)،بل وتعداها إلى فيتنام وكوبا.

 

فكانت حرب الاستقلال وأثرها التاريخي واهمية الإرث البوليفاري في تشكيل تطور مهول في الحركة الماركسية على الصعيد “التطبيقي والممارسة العملية” مما جعل الكثير من الحركات الثورية التي وافقت الرأي  تنشط في أمريكا اللاتينية وحتى أن بعضها كان بعيداً عن المركز السوفييتي في قراراته السياسية وكان متقاربا مع الفكر الشيوعي القائم على التحرر الوطني الديموقراطي.

 

هذا النهج الفكري الذي ترابط بين الكثير من الحركات والذي لخص العمل والانتقال الى الاشتراكية بضرورة ثورة وطنية وحرية قومية من براثن الاستعمار المباشر وشبه الاستعمار وكذلك الاستعمار بالتبعية والعمالة كما سنذكر لاحقاً بالتفسير والفهم للركائز البوليفارية الثلاثة .

 

 

 

المحطة الثانية

 

 في تطور ملامح الفكر البوليفاري والاستفادة من هذه الشرارة الأممية  في مصر في عام 1952 والعالم العربي بالحركة الثورية التي أسميت بالثورة الناصرية المحلية التي امتدت لتكون نواة وأساس لملامح التحرر الوطني العربي فتخلصت الشعوب من الملكيات الرجعية في العراق ودول شمال افريقيا سواء ببناء الجمهوريات أو بالنضال من أجل التخلص من الاستعمار وهذه (كانت متلازمة) أيضاً فالملكيات الرجعية كان ومازالت (من بقي منها ) أساساً وموطئ قدم للاستعمار والتبعية.

 

الحركة الناصرية التي لاقت رواجاً بين الضباط القوميين الأحرار العرب وأطاحت بملكيات رجعية كانت على نفس الوقت تدعم حركات التحرر من الاستعمار كالدعم الفني والمادي الذي قدمته مصر الناصرية للجزائر وليبيا وغيرها من الدول المقاومة للاستعمار.

 

إن الإدراك الناصري لضرورة لثلاثية الجمهورية والتحرر والتنمية جعلته يخلق المفاهيم الاشتراكية الخاصة بمصر فكانت هذه خطوة انتقال رهيبة في تطور الفكر البوليفاري في أمريكا اللاتينية وكم قال الراحل العظيم هوغو شافيز أنه يؤمن بإن لكل بلد اشتراكيتها الخاصة بل إنه قام بخلق اشتراكية خاصة لوقت ومكان والتي سميت باشتراكية القرن الواحد والعشرين وهي مزيج بين الشيوعية في مراجعها الفكرية وبين الاشتراكية الديموقراطية بشكلها الدعائي فشكلت أول نواة لليسار الاجتماعي في أمريكا اللاتينية والتي ضمت قادة كانوا متطرفين في حربهم ضد التبعية والديكتاتوريات الفاشية في مختلف انحاء القارة فرئيسة الأرجنتين ديلما روسوف كانت من مقاتلي حرب العصابات الشيوعية الثورية في البرازيل وكذلك موخيكا الذي كان قيادياً في حركة توباك أمارو اليسارية الثورية حتى تشافيز نفسه عندما أسس برامجه السياسية كانت انقلابية عسكرية ثم تحولت للانتخابات بعد نجاحها في خلق القواعد الشعبية وجهود الشيوعيين التاريخية في نشر الوعي التقدمي في القارة بألاف الأشكال الثورية والعسكرية والليبرالية المجتمعية على أقل تقدير .

 

 

 من ناحية والتطور الذي أضافه ناصر وهو التحرر الوطني الذي من الممكن وصفه “التحرر الوطني والشعبي الديموقراطي” فالاعتماد على القواعد الشعبية في حماية التحرر الوطني الديموقراطي كان إضافة مهمة إلى الحركة التحررية وما يمكن أن نراه في الفكر الناصري من لبنات وأسس هو التالي :

 

حرية الوطن والمواطن ،تحقيق معدلات عالية من التنمية الإقتصادية والإنسانية ،عدالة توزيع الناتج القومي بين الحاضر وبين المستقبل ، وبين منتجي الوطن بعدالة تمنع الإستغلال ، وتحقق الإكتفاء الذاتي للمواطن والوطن ، وتسير بهما على طريق التقدم والرفاه والكرامة الإنسانية ، بعيدآ عن الارتهان للمساعدات والقروض الخارجية المكبلة للوطن وجماهيره ، والمقيدة لتنميته وقراره الحر ،إن واقع التجزئة الذي لايمكن القفز من فوقه يفرض البدء بذلك ضمن جزئيات قطرية ، إلا أن ( الوحدة ) والتكتل القومي العربي بكل أشكاله الممكن توفرها وإنماءها ، هي التي ستسرع وتقوي وتدعم التحرر السياسي والإجتماعي والإقتصادي ، وتخلق معدلات تنمية عالية ، وتكافؤ وتكامل للفرص المتاحة ، بما تقوي الجماهير العربية في مواجهة الإستبداد والإستغلال الخارجي والداخلي في كل مناحيه (8).

 

وكأن هذه القوانين والخطوات الناصرية التي تشبعت بالتحرر القومي وارتكزت على الأساس البوليفاري الذي ورثته الشعوب متعلمة من ممارستها العملية وفهمها للعمليات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تدور خلال مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي والتقدم الشعبي.

 

لقد كان نقص القوة الشعبية قد  سبب الضعف في حرب الاستقلال ووصول النزعات السياسية المتاثرة بالانفصال الاقليمي (وهو ما نستطيع أن نصفه ببساطة نقص الركيزة البوليفارية وهي الوحدة)،والملفت في حرب الاستقلال هو تسمية الدول اللاتينية “بالأقاليم الوطنية” أو لنقل “الأقاليم القومية التي تعني قُطر باللغة العربية” فعبد الناصر بالإضافة إلى النزعة الثورية التحررية أسس بالتعاون مع القوة العسكرية التي تحمي دولة حركة التحرر الوطني والقومي،ارتكز على بناء قاعدة شعبية فشكلت الإضافة الناصرية للفكر التحرري أساساً بنهضة قومية لدى الشعوب العربية وبقيت هذه الأفكار التحررية  وهي التي موجودة في الحركة السياسية العربية بشكل نظري بعد الانقلاب اليميني في مصر أيام حكم السادات،وتأثرت حركات القوميين العرب بمختلف توجهاتها الماركسية والقومية،إلا أنها اتفقت بمجملها أن التحرر الوطني والقومي هو الأساس في النهوض والتنمية الاجتماعية والعدالة،من الملفت أيضاً أن الشعارات البوليفارية في التحرر والوحدة والتنمية متطابقة في كل العالم منذ 200 عام وهي منذ سيمون بوليفار وانطلاق الحركة التحررية لأمريكا اللاتينية نراها تلخص الحركة الثورية في الصين بعد التحرر من اليابان وفي فيتنام وكوريا وفي مصر وسوريا والجزائر ثم تعود مرة أخرى في خمسينات القرن المنصرم إلى أمريكا اللاتينية عبر حركة كاسترو وتشي جيفارا والعديد من الحركات المسلحة التي دارت حول فلك واحد وهو التحرر الوطني الديموقراطي التام من الاستعمار وذيوله.

 

 

المحطة الثالثة

 

من تطورات الفكر البوليفاري فهو تحوله إلى حركة سياسية على أرض الواقع أي تطبيق الفكر البوليفاري بالركائز الأساسية بل وأصبحت دروس ثورة بوليفار لها تأثير بل أصبحت البوليفارية سمة أساسية في التحول الثوري التي شهدته القارة اللاتينية على يد القائد الراحل هيوغو شافيز.

 

شافيز الذي أدرك ما أسس له بوليفار كان قد وصل إلى نقطة ترابط مهمة بين المحطات الأساسية التي انطلق منها بوليفار ولكنه لم يعد إليها بدون أساس علمي فالمعرفة في العالم تطورت إلى درجة امتلاك أدوات التحليل العلمية المهمة كالتحليلات الجدلية ودراسة المصالح الاجتماعية بل إن ما ذهب إليه ماوتسي تونغ مكتشفاً ما اكتشفه بوليفار من الممارسة العملية وما ترابط بين بوليفار كفكر تحرري من الاستعمار وبين حركة تشي جيفارا في كوبا ثم في بوليفيا كانت مفصلاً مهماً دعم ركائزه الفكر الناصري الثوري في البلاد العربية قرأ الراحل الكبير شافيز فكر بوليفار وفكر ماركس وجميع تطوراته ودرس التجربة الناصرية فوصل إلى الثورة البوليفارية منطلقاً من الأمنية التي كان بوليفار ينطلق منها والتي تشكلت بمؤتمر بنما والدعوة التي كان ينادي بها بوليفار من أجل وضع سياسة توحيدية أتم منها الراحل الكبير الجزء الكبير فأصبحت الشعوب اللاتينية التي تحولت الى اليسار بخياراتها السياسية تتوق الى وحدة الوطنية “القومية” بدون شكل كتلة سياسية واحدة ودولة واحدة بل على الأقل العُصبة والاتحاد والكنفدرالية الدائمة التي صادقت عليه في مؤتمر بنما “كولومبيا العظمى (كولومبيا،فنزويلا،الإكوادور،بنما) لكن الفكرة بقيت في القارة اللاتينية على مدى 200 عام وحاولت الإمبريالية الأمريكية عبر عملائها ودعم الانقلابات للضباط الرجعيين تارة والفاشيين تارة أخرى كان أشهرها الأنقلاب الذي قاده المجرم بينوشيه على الرفيق الراحل سلفادور الليندي في التشيلي ،ان اتحاد دول امريكا الجنوبية بشكله الحالي وبشكل أعضائه “ميركوسور”  ودول الأنديز وكأن اتحاد اقليم امريكا الوسطى وكولومبيا العظمى  بشكل جديد وعصري.

 

“كانت أفكار بولفار حول الاتحاد تعني ضمنياً وجود دول أنريكية لاتينية منفصلة،وكان هدفه الاستراتيجي تأمين الحماية الكاملة لها كلها،..كان بوليفار ينادي بـ”الاتحاد،الاتحاد،الاتحاد”(9)

 

شافيز في حركته الثورية البوليفارية وجد أساساً علمياً قائماً على فهم المصلحة الوطنية بالتأميم لثروات الوطن وكذلك بفهم علاقات الانتاج لضمان التنمية والعدالة فكانت الاشتراكية اساساً اجتماعياً بوصفها علماً اقتصادياً وذراع للسياسة التنموية في الفكر البوليفاري الحديث الذي تطور على أساس الممارسة العملية والتنمية والعدالة والوحدة .

 

ان اختيار الفكر اليساري لم يكن وليد الصدفة أو من باب التجريب فالخيار اليساري للثورة البوليفارية جاء امتداداً لسلسلة طويلة من الكفاح الشعبي اللاتيني ضد مئات الاشكال من الاستعمار والاضطهاد والاستعباد الذي بدأ من المستعمر الاسباني ومر بالبريطانيين واليانكي وعملائهم في هذه الدول.

 

لقد كانت الحركة التحررية في القارة اللاتينية تتخذ اشكالاً مختلفة كلما تطور الفكر الاستعماري واشكاله لذلك ومع تملك الادوات العلمية المعرفية للفكر البوليفاري استطاعت هذه الثورة أن تصنف المنظومات الفكرية والاجتماعية على أساس المصلحة العامة للقارة اللاتينية مصلحة شعوبها ومواطينيها وكياناتها السياسية المستقلة والقوية والمتحالفة .

 

فقد انتقد الرفيق الراحل تشافيز السياسات النيوليبرالية مدركاً أنها شكل من اشكال الاستعمار ووجه جديد للامبريالية التي تعاني الأمرين جراء تناقضات الرأسمالية الحادة  فقد ظهرت اشتراكية القرن الواحد والعشرين التي تستند على القاعدة الجماهيرية والفكر الاجتماعي في التدعيم السياسي فلا أبلغ للتنمية من محو الأمية وتقسيم مسئولية اجتماعية على المنخرطين بقوة في عملية تنمية وطنية كبرى يقودها زعيم ثوري يحمل سيف المحرر العظيم سيمون بوليفار لكنه يقاتل الظلم والاضطهاد مع جيش من ملايين الفنزويليين واللاتينيين وشعوب العالم.

 

ان فكر بوليفار الذي أسس له ودعا إليه هيوغو شافيز لم يبقى في فنزويلا بل وصل إلى شعوب أمريكا اللاتينية وان اختلف الحزب واسم التنظيم لكن القواسم المشتركة الكبرى واضحة جداً فهذه بوليفيا التي تعززت فيها السياسات البوليفارية “اليسارية التنموية المتحدة مع دول أمريكا اللاتينية” فهذا الرئيس البوليفي الذي ان صح التعبير هو الرئيس البوليفي البوليفاري ايفو موراليس ذو الأصول الهندية عرقياً يقول “أسوأ عدو للإنسانية هو الرأسمالية. هي المسؤولة عن الاحتجاجات الشعبية كما يحدث في بلدنا، ثورة ضد النظام، ضد نموذج الليبرالية الجديدة، والتي تعتبر تمثيلا للرأسمالية المتوحشة. إذا لم يستوعب العالم هذه الحقيقة، بأن الدول لا تقدم أدنى الخدمات في مجال الصحة والتربية والغذاء، فإن هذا يعني انتهاكا يوميا لحقوق الإنسان الأساسية.”(10)

 

ولم يكن فكر تشافيز محدوداً بالقارة اللاتينية بل امتد الى  طلب علاقات وطيدة بين الدول الأكثر فقرا في العالم، بدءا بدعوة للتكامل في أمريكا الجنوبية وإلى دعوته لحلف أفريقي- كاريبي- جنوب أمريكي.

 

يقول الرئيس فيديل كاسترو عن هوغو تشافيز : ” ،ما زال ينبغي على بوليفار العمل إلى حد الآن في القارة الأمريكية”

 

كان تشي غيفارا قد اكتشف أن التحرر في أمريكا اللاتينية مستلهما الفكر الثوري لكل من خوسيه مارتي وسيمون بوليفار ليكون رمزاً ثانياً لأمريكا اللاتينية “مع كثرة رموزها الثورية إلا ان بوليفار وتشي جيفارا وتشافيز هم الأكثر تأثيراً في الوعي الجمي لشعوب أمريكا اللاتينية بل والعالم أجمع” جيفارا وخلال رحلته في أمريكا اللاتينية التي عرفت برحلة الدراجة النارية التي عاين من خلالها البؤس والشقاء الذي سببه الاستعمار بموجة من موجاته المتعددة على أمريكا اللاتينية وبالفكر الثوري الذي تشبع به من منبع الماركسية وعلى اسس التحرر الوطني الديموقراطي أدرك أهمية التحرر القومي لأمريكا اللاتينية وسعى إلى وحدة الكفاح بين شعوبها الحلم الذي كتبه في عدة أعمال منها رسالة استقالته الشهيرة وكتيبه القيم الاشتراكية والإنسان في كوبا.

 

شكل جيفارا حالة فريدة كانت ربطة وصل عجيبة بين الفكر البوليفاري من جهة وبين الفكر الشيوعي “الوطني” من جهة أخرى فقد أدرك بغريزة اللاتيني المجرب والبوليفاري المحنك أن الرافع الفكري للحركة التحررية هو اتمام مهام التحرر القومي للشعوب ليس في امريكا اللاتينية فقط بل بالعالم كله،مماجعلت الحركة الثورية اللاتينية الجديدة التي أسس لها تشافيز ورفاقه من البوليفاريين اليساريين شعوباً وقادة امتداداً لفكر بوليفار بتطوراته ومحطاته السياسية.

 

ركائز حركة التحرر البوليفارية:

 

ان التطورات التي وصلت اليه الفكرة الثورية التحررية لسيمون بوليفار وتطابقها مع حركات ثورية تحررية في العالم مثل الصين ومصر و بعض دول آسيا “فيتنام وكوريا” والتي توجت بالثورة البوليفارية وإعلان الجمهورية الفنزويلية جمهورية بوليفارية ارتكزت على أسس قبل أن تقوم المنظومة الشيوعية  والأفكار التحررية “الوطنية\القومية” الديموقراطية ،فما هذه الأسس والركائز التي طورها سيمون بوليفار خلال حياته القصيرة نسبياً الكبيرة فعلياً :

 

1-      الجمهورية: أكد سيمون بوليفار في حركته التحررية على أن الدولة الجمهورية هي أساس حركة الاستقلال من الاستعمار الاسباني الذي رسخ لوجوده بالحكم الذي يستمد شرعية من الملكية فالجمهورية والفكر الجمهوري الوطني  الذي يرتكز على العدالة والتنمية الانسانية والاجتماعية لأنها بالضرورة التقيض من الملكية التي كانت شكل المنظومة الحاكمة للمستعمر الاسباني وأغلب المستعمرين في العالم،في أمريكا اللاتينية كانت الملكية سواء بوربونية أو هابسبورغية هذه المنظومة ذات الصبغة الاقطاعية الناشئة والمحتفظة برواسب العبودية من أجل ترسيخ سلطتها الاستعمارية ونهب ثروات المستعمرات ونزف دماء أبنائها لذا اعتبر أن الشكل الجمهوري للدولة هو أساس نبيل وعادل  فيقول بهذا الشأن عام 1814 “انكم فنزويليون ،كاركاسيون،جمهوريون وبهذه العناوين النبيلة كيف يمكنكم العيش بدون حرية؟…لالا الحرية أو الموت هو شعارنا”(11)

 

وقال في عام 1813 “العدالة هي ملكة فضائل النظام الجمهوري وبها يمكن الحفاظ على المساواة والحرية اللتين تمثلان أعمدة هذا البناء”(12)

 

هذا الشكل بغض النظر عن كيفيته “في تلك الفترة” تطور إلى أن وصل إلى شكل الجمهورية الديموقراطية الشعبية ” والتي تستحق أن يُطلق على شكلها السياسي الوطني والقومي في هذه الايام “الجمهورية البوليفارية”

 

 

 

2-      التحرر و انهاء العبودية :رآى بوليفار في الثورة ضد المستعمر انعتاقاً شعبياً ووطنياً من نير الاستعمار القادم من أعالي البحار فأكد في أكثر من مرة على ضرورة تحرير العبيد من نير العبودية التي تخرق القوانين الانسانية كما وصفها بوليفار،لم يكن بوليفار مجرد محرراً للكيانات السياسية بل كان محرراً للإنسان من أكثر من نير نير الاستعمار والاستغلال والعبودية فيقول بهذا الشأن “من الجنون أن تحاول ثورة  من أجل الحرية الإبقاء على العبودية” (13)فقد أعلن بوليفار أكثر من مرة أن العبودية هي خرق للقانون وانتهاك لكرامة الإنسان ولمبدأ المساواة المقدس هذه العبارات تكررت كثيرا وخصوصا في خطابات بوليفار ومراسلاته وكتاباته ،فقد رآى أكثر من مرة أن الاستعمار هو استعباد لشعوب وأن العبودية هي شكل فردي من الاستعمار ففي خطاب ألقاه عام 1815 قال بوليفار في بوغوتا ” إن إنشاء العالم الجديد في ظل حكم عبودية قاتلة،لم يتمكن من انتزاع الأغلال دون تمزيق أصحابها”(14)

 

العبودية كذلك كانت شكل النظام السياسي الحاكم وكذلك في التفسير الماركسي إن الاقطاعية المناهضة للعبودية هي حركة تقدمية في المجتمعات العبودية وهذه المجتمعات التي من المفترض ان تكون تطورت بشكل طبيعي إلا أن التطور الاجتماعي والسياسي بالمراحل التاريخية للقارة اللاتينية قطعه الاستعمار،الملفت في طرح بوليفار أنه وفي أكثر من مناسبة نادى بتطبيق الجمهورية الوطنية لا الملكية الوراثية التي تتناسب كشكل سياسي للمرحلة الاقطاعية‘فكان المحرر سيمون بوليفار سابقاً لعصره بتقدمية تجاوزت العصر الاقطاعي وتعدته الى البرجوازية ولكن الملفت أنها حتى كانت برجوازية صغيرة الطرح بمعاييرنا العصرية.

 

3-      الوحدة : دعى بوليفار في أكثر من مناسبة إلى الوحدة وقدم المشاريع تلو المشاريع لاتمام المهمة الأكبر والأنبل للجمهوريات المتحررة وهي الوحدة وليس بشكل كيان سياسي واحد بل بشكل متناسب مع المراحل من التحرر سواء بالكيانات المستقلة والمترابطة باتحادات كونفدرالية دائمة وطويلة المدى متكاملة ومتكاتفة ضد القوى الاستعمارية فالوحدة شكلت هاجساٌ لبوليفار ومن ثم لتشي جيفارا وتشافيز الذي استطاع أن يكمل مسيرة بوليفار في هذه الوحدة إلى أن فارق الدنيا بجسده ويبقى بفكر وحدوي شعبي ثوري يستند على الاشتراكية والديموقراطية الشعبية تشافيز ذهب حتى النهاية فكما قال بوليفار “عدد قليل  فقط من المحررين يجرؤ على الذهاب حتى النهاية” (15) لقد ذهب تشافيز حتى النهاية بحياته التي افناها في تحقيق الحلم البوليفاري والفكر الثوري الجيفاري.

 

تشافيز البوليفاري بعمق وحتى النهاية ركز في أكثر من مناسبة وبالتحديد على هذه القيم الثلاثة المهمة والتي أدرك من خلال جوهر هذه الأفكار وتطورها بما يتناسب مع شكل الاستعمار الجديد  فالجمهورية التي وصفت بالبوليفارية يجب أن تكون جمهورية بالمعنى الصحيح للكلمة يجب أن تكون جمهورية شعب لا جمهورية موز أو مجرد أداة بيد ديكتاتوريات عميلة ومرتهنة بالكامل للخارج الاستعماري أو متحالفة مع القوى الرجعية والارهابية الدولية التي تقودها الولايات المتحدة وتتعامل معها كحديقة خلفية أو مناجم يضعون رؤساء كمديرين لهذه المناجم يديرون مجموعة من العمال،ان الفكر الجمهوري الحقيقي يستند إلى ديموقراطية شعبية تمثل السواد الأعظم من الشعب فحركة الجمهورية الخامسة التي انتمى لها شافيز قبل الحزب الاشتراكي الموحد كانت أساساً لهذا الفكر واعادة بناء جمهورية تمثل حقا الشعب الفنزويلي في النطاق الوطني.

 

من أهم ما ارتكز اليه شافيز في الفكر البوليفاري والثورة البوليفارية هو محاربة العبودية بشكلها الجديد والتي ظهرت باستعباد شعوب أمريكا اللاتينية في استخراج ثرواتها الوطنية والقومية من أجل العملاء أذناب اليانكي القائمين على نهب ثروات الشعوب الوطنية وتقديمها خدمة لهؤلاء الطغم الفاشية مقابل الدعم المادي والعسكري لضمان بقاء أكبر عدد من العملاء في السلطة،لذا فحركة التأميم هي من أهم ما قامت به الثورة البوليفارية مستندة على المبدأ الذي يدعوا إلى تحرير الوطن من الارتهان للخارج وكذلك تحرير المواطنين أن يكونوا عبيداً وعمل سخرة للإمبريالي وعملائه المحليين،يقول ماوتسي تونغ في وصف هذه الحالة: “ إنّ الإمبريالية لن تعيش طويلا، إذ هي حليفة الشرّ و الإثم،و لا همّ لها إلاّ مساندة الرجعيين فى كلّ بلد الذين يناصبون الشعب العداوة، و قد إستولت بالقوة على كثير من المستعمرات و أشباه المستعمرات و كثير من القواعد العسكرية ،وهي تهدّد السلم بحرب ذرية. و على هذا النحو أرغمت الإمبريالية أكثر من 90 بالمئة من سكّان العالم على الوقوف، أو على وشك الوقوف فى وجهها صفّا واحدا. إلاّ أن الإمبريالية ما زالت اليوم على قيد الحياة تمعن فى البغي و الطغيان فى آسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية. كما أنّها لا تزال تضطهد جماهير شعوب بلدانها فى العالم الغربي. إنّ هذا الوضع يجب أن يتبدّل . و من واجب شعوب العالم بأسره أن تضع حدّا لعدوان و إضطهاد الإمبريالية و بصورة رئيسية الإمبريالية الأمريكية”(16)

 

فقام تشافيز بعمليات تأميم عملاقة مثل تأميم الذهب الفنزويلي واسترداد الاحتياطي ووقف نهب هذه الثورة القومية للبلاد،فاعتبر أن تحرير الوطن من الهيمنة الامبريالية هي تحرير له من العبودية بشكلها الجديد هذا الأمر الذي يؤكد على اهمية المسألة  وأنها مترابطة ترابطاً كلياً فمن أجل خلق جمهورية حقيقية يجب أن تكون ذات سيادة وطنية مترابطة بين الوطن والدولة والمواطن.

 

 

 

اللافت في دعوات بوليفار التحررية إيلائه الشعب اهمية كبرى، فهو إذ يرى بأن الحكومات العمِيلة وقد جلبت الكراهية للشعب وأجبرت الناس التخلي عن أُسرهم وحمل السلاح، لمس بأن دعوته النضالية لا تحتاج الى مرتزقة للحفاظ على حرية الشعب، فـ”كل مواطن سيتحوّل الى جندي عندما يهاجمنا العدو“، برغم من ان المواطنين البسطاء” لا يعرفون الحسابات العسكرية ولا التعامل مع السلاح ولا الانضباط العسكري والطاعة”؛ لكن الميليشيات تتوجّه دوماً للقاء العدو بشجاعة يحدوها الأمل بالنصر“.(17)

 

يقول  بوليفار” أيها المشرعون! اإن الحرية اليوم هي غير  قابلة للتدمير في أمريكا ؛ انظروا الطبيعة الوعرة لهذه القارة، التي طردت بنفسها النظام الملكي :فالصحاري تدعو إلى الاستقلال “(18)

 

 

ولااننا اذ نرى ملامح ودعوات الوحدة بين الشعوب اللاتينية تظهر  بأشكال وصور عديدة منذ بوليفار وجيفارا والاتحادات التجارية والسياسية بل والعلاقات الأكثر من أخوية التي تربط رؤساء دول أمريكا اللاتينية ومقدار التنمية التي تنالها شعوبهم وخصوصاً بالتعاون التجاري والاقتصادي والسياسي لتتكون من هذه الدول كتلة تستطيع حماية نفسها والدفاع عنها بل وتنمية مجتمعاتها بصورة متصاعدة وملفتة للنظر فنرى البرازيل التي تعد من أفضل 20 اقتصاد في العالم تعتمد بشكل أساسي على الزراعة،وبوليفيا التي تشهد أعلى معدل نمو اقتصادي وفنزويلا وكل الدول التي تسير في النهج البوليفاري سواء بشكل تطبيقي مثل فنزويلا أو بشكل مشاريع بوليفارية.

 

وفي احصائيات عالمية من مراكز الاحصائات الوطنية الفنزويلية سجل اقتصاد فنزويلا، نمواً بلغ حوالي 5.5 % عام 2012 مدعوماً بانفاق حكومي قوي ساعد الرئيس هوجو تشافيز في الفوز بفترة رئاسية جديدة في تشرين الاول (اكتوبر)، وساعد انفاق حكومي ضخم على المساكن للفقراء ومعاشات التقاعد للمسنين والاعانات للامهات المعيلة الناتج المحلي الاجمالي على أن ينمو بنسبة تزيد عن مستوى 5 % المستهدف في ميزانية العام الحالي.

 

ليس الهدف من هذه الأرقام هو الاستدلال بشواهد علمية واحصائات موجودة في كل مكان لكنها تؤكد أن الأسس والركائز الثلاثة للفكرة البوليفارية في التطبيق الحديث وهو ” الجمهورية التي تمثل الشعب،الحرية بالتأميم الإقتصادي،الوحدة والتضامن مع الدول اللاتينية”

 

أن الركائز الثلاث للفكر البوليفاري هي الجمهورية والتحرر والوحدة هذه الركائز الثلاث  تترابط بشكل كبير فيما بينها على أنها تكميلية تظهر أهميتها في ضد هذه الشعارات فالملكية ترتبط عادة بتعال سياسي ونمط انتهازي من الحكم السياسي وبالتالي هي غير وطنية نهائياً ،فتلازم الجمهورية بالوطنية يجعلها أساساً للركيزة الثانية وهي الحرية والتحرر من العبودية بأشكالها المتنوعة والمختلفة في الأشكال السياسية للدول والكتل البشرية مهما كانت المرحلة والسمة الاقتصادية التي تحكم الكيانات السياسية،وبدون تحرر لا يمكن أن تكون الجمهورية الوطنية ملبية لطموح مواطنيها وسكانها .

 

الوحدة والإتحاد هي ركيزة لهدف سياسي آخر وهي القوة والتنمية لحماية هذه الأهداف والتكامل الوطني والقومي بين شعوب ليس “اللاتينية وحدها والعربية وحدها” بل تنمية ووحدة شعبية بين أمم العالم أجمع الراغبة في العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر.

 

هذه الأسس التي العلمية التي يجب أن تترابط فيما بعضها البعض  هي أساس تحرر وتنمية وقوة عالمية عظمى تنشر السلام والمحبة والتضامن بين الشعوب وتكسر التفوق العرقي الذي يظهر بأشكال عديدة وبالأخص النزعة الليبرالية الجديدة دستور الامبريالية الجديد التي تنتهي وتضمحل منذ الخطوة الاولى التي خطاها سيمون بوليفار في ثورته ضد الملكية والعبودية والتفتيت .

 

كل هذه المقومات والدراسة المتواضعة المقدمة تبين وتبرهن على ان الإرث الفكري لسيمون بوليفار الذي وجد بالممارسة العلمية الثورية وأسس التلاحم البشري بين جموع المستضعفين والمضطهدين من شعوب الأرض طريقاً ونهجاً ليجعل بوليفار لا رمزا لاتينيا فقط بل رمزا انسانياً لشخص استثنائي قدم حياته وكفاحه من أجل قضايا أمته الثائرة وجميع أمم الأرض

 

 

المراجع :

 

1:الكسندر هبولت من الأمريكيتين إلى الكون :ريموند اريكسون،موراسيو فونت، برين شاوزارت

 

 http://web.gc.cuny.edu/dept/bildn/publications/humboldt.pdf

 

2: إرث بوليفار وأهميته المعاصرة : السفير فاوستو فيرنانديز بورخي  ص 25

 

3: ديكتاتورية أوهيغينز La Dictadura de O’Higgins بقلم ميغيل لويس أرموناتيغي (سانتياغو، 1853).

 

4: إرث بوليفار وأهميته المعاصرة : السفير فاوستو فيرنانديز بورخي  ص 36

 

5: قراءة في كتاب- إرث بوليفار وأهميته : معاذ عابد  -الحوار المتمدن العدد  3518 – 2011 / 10 / 16

 

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=279751

 

6:ابراهيم علوش : حول الرخاوة “اليسارية” في الموقف الوطني والقومي ، مجلة الصوت العربي الحر

 

http://www.freearabvoice.org/arabi/maqalat/HawlaAlRakawahFeeAlmawqefAlwatanee.htm

 

7: ماوتسي تونغ : حول المعالجة الصحيحة للتناقضات بين صفوف الشعب  المؤلفات المختارة 1957

 

8: فائز البرازي: الليبرالية والإشتراكية في تطور الفكر الناصري :موقع الفكر القومي العربي

 

http://www.alfikralarabi.org/modules.php?name=News&file=article&sid=572

 

9: إرث بوليفار وأهميته المعاصرة : السفير فاوستو فيرنانديز بورخي  ص 43

 

10: Morales quoted in Kozloff 2008. p. 12

 

11:غوستفو بيريرا:سيمون بوليفار كتابات مناهضة للاستعمار،من رسالة بوليفار للجنود 1814 ص73

 

12: المرجع السابق ص 75

 

13: إرث بوليفار وأهميته المعاصرة : السفير فاوستو فيرنانديز بورخي  ص 44

 

14: غوستفو بيريرا:سيمون بوليفار كتابات مناهضة للاستعمار،ص79

 

15: المصدر السابق ص159

 

16: ماوتسي تونغ،حديث مع وكالة أنباء شينخوا 29 سبتمبر- أيلول – -الكتاب الأحمر نسخة72عام ص82

 

17: في الذكرى الـ200 لبيان كارتاخينا البوليفاري بعث السبيل البوليفاري لتحرير أمريكا اللاتينية وسيادة شعوبها:منشورات سفارة جمهورية فنزويلا البوليفارية لدى الأردن 15-12-2012

 

18: غوستفو بيريرا:سيمون بوليفار كتابات مناهضة للاستعمار،ص323

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.