الصحة تجارة مربحة …. استغلال قواعد البيانات الضّخْمَة (مُكمّل لمقال “وباء كورونا – مصائب قوم عند قوم فوائد”) / الطاهر المعز

نتيجة بحث الصور عن وباء الكورونا والمال

الطاهر المعز ( تونس ) – الجمعة 6/3/2020 م …

تقوم الشركات الكبرى للمختبرات وصناعة العقاقير بإنشاء قواعد بيانات الرعاية الصحية، وبتخزين حجم هائل من المعلومات التي تخُصُّ الأفراد، وحصلت الشركات على محتوى سجلاتهم الطبية، وبياناتهم الشخصية والصحية، في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البيانات الخاصة المتعلقة بالحالة الصحية والفُحُوص وسجلات علاج الأفراد، طيلة حياتهم، من أجل استغلالها وجني الأرباح الضّخمة من وراء استخدامها، وبيْعِها.




تَتَكتّم هذه الشركات عن الطرق التي مكنتها من الحصول على المعلومات، كما تتكتم على محتواها، وعندما تضطر للتطرق لهذا الموضوع، تلبس ثوب “المنظمة الخيرية”، وتدّعِي إن هذه المعلومات تبقى سِرّية، ولا تُسْتخدَمُ سوى في أغراض البحث العلمي وتحسين شروط الرعاية الصحية والعلاج والعناية بالمُصابين، وتقديم المَشُورة للأطباء والمَرْضى وعائلاتهم، وغير ذلك من الأكاذيب.

في بداية سبعينيات القرن العشرين، مَوّلت شركةٌ خاصةٌ بحثًا نفذه فريق علمي وطبي في جامعة “بيل” الأمريكية، لإنشاء قاعدة لربط ما تَوَفّر الوصول إليه من البيانات المتعددة، وتمكنت الشركة فيما بعد من استغلالها، ومن بيع طريقة، أو نظام جمع ومعالجة البيانات والإحصائيات، والإستفادة منها لزيادة مُستوى الأرباح، واستخدمت الشركات التجارية هذه المنظومة، بهدف تقويم وتحوير وتَكْيِيف سياستها الإشهارية والتجارية، للتحكم في أذواق الزبائن، وتوجيه عمليات التّسَوُّق نحو سِلَعٍ مُعينة، تزيد من أرباح الشركات، وأدّى النّفُوذ السياسي والإقتصادي لهذه الشركات إلى إنشاء قطاع تجاري ضخم، يتمثل في بيع المعلومات الشخصية لأطراف عديدة، دون الحاجة للحصول على موافقة أصحاب هذه المعلومات الشخصية، كما تَطَوَّرَ مستوى البحوث العلمية والطبية، لاستغلال المعلومات الوراثية (الجينية)، التي كان هدفها المُعْلَن، في البداية، اكتشاف العقاقير الجديدة من أجل معالجة الأمراض الوراثية أو النادرة، واستغلت الشركات حجم المعلومات الضخم المُخزن في الحواسيب، والذي كان يهدف في الأساس تحسين أداء مؤسسات التأمين الصحي، ضمن منظومة التأمين الإجتماعي، فاستحوذت هذه الشركات، بتواطؤ من الحكومات التي خَصْخَصَت قطاع العلاج والرعاية الصحية، على الحجم الضخم للبيانات الشخصية والطبية، عبر جمعها وتحليلها، بهدف خفض التكاليف وتعظيم الأرباح، كأي شركة في أي قطاع وفي أي دَوْلَة رأسمالية…

 

كَنْز البيانات الصحية ، ومطامع الشركات العالمية:

يتم تخزين وتحليل جميع المعلومات المتعلقة بصحتنا، بواسطة الخوارزميات، ولذلك فإن موضوع المُتاجَرَة بها يكتسي خثطُورَةً بالغة.

نشرت مجلة “Nature Medecine“، في كانون الثاني/يناير 2020، مقالًا بعنوان “تغيير حجم البيانات الكبيرة”، يشير إلى مُضاعفة حجم البيانات الصحية في العالم، عشرة أضعاف، بين 2013 و 2019. وهي معلومات طبية “عادية” يجمعها الأطباء والمستشفيات والمختبرات، وكذلك البيانات المقدمة من الناس، بشكل مُباشر أو غير مباشر، وفي كثير من الأحيان دون علمهم ودون موافقتهم.

بدأت كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد دراسة وبائية رائدة، سنة 1947، تتمثل في المراقبة المنتظمة لعدة عقود، لبيانات ضغط الدم والتدخين أو الكوليسترول لدى الآلاف من سكان مدينة “فرامنغهام” الأمريكية. كان الهدف هو “التنبؤ بمخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية” التي كانت تُمثل آنذاك، السبب الرئيسي للوفاة في العالم. كان الهدف المعلن لتلك الدّراسة، “إنتاج المعرفة التي تعود بالنفع على الناس في جميع أنحاء العالم”.

بعد أكثر من سبعة عُقُود، يتم توفير جميع البيانات الصحية من قبل المستشفيات والمختبرات والأطباء والممرضات، ويتم تخزينها وتحليلها من قبل المختبرات والشركات التجارية والشركات الصناعية وشركات قطاع الخدمات، ولا يتم استغلالها، بالضرورة، لاكتشاف جزيئات ( molecule ) جديدة أو تحسين صحة العمال والفقراء، ولكن لبيع المنتجات التي تدر أرباحا كبيرة.

أسست عائلة شخص مصاب بمرض نادر جمعيةً اسمها ( PatientsLikeMe )، وقامت بجمع بيانات نحو 750 ألف شخص متطوع، عبر العالم، بهدف إجراء مزيد من البحوث، وإنتاج علاج ناجع. واجهت الجمعية بعض الصعوبات وتم بيعها، سنة 2019، لشركة التأمين الصحي الأمريكية “UnitedHealth” فأصبحت هذه الشركة الخاصة تمتلك البيانات الشخصية، المقدمة طوعًا، من قبل مئات الآلاف من الأشخاص، حول العالم.

في بريطانيا، تم في سنة 2005، إنشاء قاعدة بيانات “المملكة المتحدة Biobank” (مؤسسة عُمومية)، بهدف دعم البحث بشأن مرض “ألزهايمر”، وجمعت هذه المؤسسة العمومية البيانات البيولوجية والوراثية لـنصف مليون شخص، تتراوح أعمارهم بين 40 و 69 عامًا، بالإضافة إلى خمسين ألف صورة للمُخ، بهدف مراقبة التّطورات التي تحصل في دماغ الإنسان، قبل وبعد الإصابة بمرض “ألزهايمر”،  وأصبحت هذه المؤسسة، المالكة لهذا الكَم الهائل من البيانات والمعلومات، مُهدّدةً بالخصخصة، لتصبح البيانات الشخصية لأكثر من نصف مليون شخص، ملكًا لشركة رأسمالية خاصة.

 

سوق البيانات الصحية:

تقدر سوق الأشياء المتصلة، التي يحملها المرضى بنحو 10,3 مليار دولار سنة 2019، ومن المتوقع أن تصل إلى 22,8 مليار دولار سنة 2023، ويقدر سوق خدمات “الصحة السحابية” بمبلغ 12 مليار دولار سنة 2019 ويتوقع أن تصل إلى 24,6 مليار دولار سنة 2023.

في أوروبا (فرنسا، ألمانيا، سويسرا، إلخ)، نشأت شركة خاصة، تبيع الدراسات والمسوحات، وتمكنت من جمع البيانات الشخصية لنحو 500 ألف مريض في جميع أنحاء العالم، بهدف إجراء البحوث المتعلقة برفاه المرضى (إدارة الألم بشكل أفضل، والنوم بشكل أفضل…). يُشتبه في أن هذه الشركة تبيع البيانات الشخصية للأشخاص المرضى الذين قدموا هذه البيانات طوعًا اعتقادًا منهم بضرورة “إجراء مزيد من البحث”، كما زعمت الشركة. أما الزبائن الذين يشترون قواعد البيانات الطبية، فهم متعددون، وتشمل القائمة: مختبرات الأدوية، شركات صناعة الأدوية، والشركات المصنعة للمعدات الطبية، وشركات البحوث والدراسات، وشركات تقديم الإستشارات، وشبكات العيادات والمُستشفيات الخاصة…

في العام 2017، تمكنت شركة أمريكية كبيرة للمختبرات، من تسريع البحث وتصنيع دواء لعلاج مرضى السكري، قبل المختبرات المنافسة الأخرى، بفضل استخدام البيانات الشخصية التي اشترتها من طرف آخر…  

في أيار/مايو 2019، قررت المختبرات الصيدلانية الرئيسية في العالم (فايزر، نوفارتيس، سانوفي، إلخ) إنشاء منصات مشتركة، تتبادل من خلالها البيانات الصحية، الوارِدَة من مصادر متعددة، من أجل تسريع البحث و”التجارب السَّرِيرِية”، ومن أجل تطوير مُشترك لأدوات البحث، في أساليب الوقاية وتعزيز الدعم، بعد المرض، بشكل يُمكّن الجميع من ربح الوقت والمال…

أصبحت الشركات غير المرتبطة بقطاع الرعاية الصحية، مثل “غوغل” و “آمازون” و “فيسبوك” و”آبل” و “مايكروسوفت”، وغيرها، تقوم  بتطوير وشراء التطبيقات، أو برامج الكائنات المتصلة التي تجمع البيانات ذات الصبغة الصحية، لاستخدامها في أغراض شتّى، فيما أنشأ  “غوغل” فرعها الصحي “غوغل هيلث”، ( Google Health ) الذي اشترى، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، تطبيق  “فتبت” ( Fitbit )  مقابل 2,1 مليار دولار.

لا تهتم هذه الشركات الكبرى بصحة الفقراء ، ولكنها تستثمر في كافة المشاريع التي تجلب أرباحًا كبيرة، ونادرا ما تُمَوِّلُ هذه الشركات، البحوث والتجارب التي قد تُفضي إلى تصنيع أدوية جديدة، ولكنها تستثمر بشكل أساسي في تطوير أدوات التشخيص وبعض التجهيزات لرعاية المرضى

إن خصخصة قطاع الصحة يُمثل عبثًا بحياة الإنسان، لأن رأس المال لا يهتم سوى بزيادة حجم أو تحسين نوعية الإنتاج، وبزيادة الأرباح، مع تَقليل الإنفاق، أما الصحة والتعليم والنقل العمومي والسكن والثقافة والترفيه، فهي قطاعات أساسية لتحسين نوعية العيش للمواطنين، وليست قطاعات مُرْبِحَة، ماليا، لذلك لا يمكن الوثوق برأس المال وجعله وَصِيًّا على قطاعات حيوية، فيُحوّلها من حَقّ مُكتسَب، إلى سلعة تُباع لمن استطاع إليها سبيلا  

قد يعجبك ايضا