دراسة هامّة … صناعة النّسيج والملابس، نموذج التّبادل غير المتكافئ / الطاهر المعز

Image result for ‫صناعة الملابس‬‎

الطاهر المعزّ ( تونس ) الأحد 27/1/2019 م …




الأردن العربي –

تقديم:

انطلقت فكرة إعداد هذه الورقة من ملاحظتَيْن “عابرتَيْن”، في بداية الأمر، لظاهِرَتَيْن مُنْتَشِرَتَيْن في مجتمعات الوطن العربي، كما في قارّة إفريقيا.

أولهما انتشار قطعة قماش تُحاكي بشكل تقريبي مَظْهَر الكوفية الفلسطينية، وبَدَلَ أن تكون مصنوعة من القُطْن، وخطوطها ومربعاتها من لَونَيْن (أسود وأبيض أو أحمر وأبيض) كانت هذه الخِرَق زَرْقاء أو صفراء أو برتقالية أو خضراء اللون، ولم تكن مصنوعة من القُطْن، بل من نفايات النفط، وصُنِعَتْ بالصين، وفي نفس الفترة، انتشرت في أسواق قارة إفريقيا أشكال جديدة من الملابس التقليدية لنساء إفريقيا، وللقماش الذي يستخدمه سكان إفريقيا في بيوتهم، وفي لباسهم، وكانت هذه الملابس والأغطية تُصْنَعُ محلِّيًّا، من القطن المَحَلِّي، فأصبحت مصنوعة في الصين، من نفايات النفط، أو من قُطْنٍ رديء.

وثانيهما، ارتفاع عدد محلات البيع (أو الأَكْداس في الأسواق الشعبية) للملابس المُستخدمة، والقادمة من وراء البحار، وارتفاع أسعارها نسبيا، مع ارتفاع عدد رُوّادِها من الفئات الوُسطى، وموظفي الحكومة والمُدَرِّسِين، بعدما كانت مخصَّصَة للفُقراء، ولا تأتي هذه الملابس القديمة من الصّين، وإنما من أمريكا الشمالية ومن أوروبا…

تُحاول هذه الورقة البحث عن الخيط الرّابِط بين “الظّاهِرَتَيْن”، وكذلك الوقوف عن بعض أسبابهما، ونتائجهما على اقتصاد بلدان ما سُمِّيَ “الجنوب” أو “الأطراف”.        

تستهلك صناعة النسيج والملابس كميات كبيرة من المياه، وتتسبّبُ بتلويث نحو 20% من المياه المُلوثة في العالم، إذ تتطلّبُ صناعة قميص واحد، نحو 2700 لتر من المياه، أو ما يُعادل معدّل استهلاك الفرد لفترة 900 يوم، وفق الصندوق العالمي للطبيعة، وتستهلك نبتة القطن (كما الألياف الطبيعية الأخرى) مياها كثيرة، ويُشَكِّلُ القطن نحو 40% من المادة الأولية لصناعة الملابس، وهي صناعة مُلَوِّثَة، تستخدم حوالي 25% من الإنتاج الإجمالي للمواد الكيماوية المُصَنّعة في العالم، وتستخدم هذه الصناعة عددا وافرًا من العُمال، ولهذه الأسباب انتقلت هذه الصناعة إلى البلدان الفقيرة المنتجة للقطن، نظرًا لتوفُّر القطن والمياه، ونظرًا لانتشار البطالة والفَقْر، أي العَمالَة الرّخِيصة، ورغم ادّعاء شركات بيع الملابس احترام البيئة والمحيط وصحة البشر، تتسبب صناعة الغزل والنسيج والملابس في دمار كبير للبيئة وفي أضرار جسيمة بصحة البشر، زيادة عن الحوادث القاتلة للعمال في إندونيسيا والهند وبنغلادش وباكستان وغيرها، وتُشكل صناعة وتجارة الملابس إحدى ركائز العولمة الرأسمالية والتبادل غير المتكافئ بين المركز الرأسمالي (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية)، حيث تُباع الملابس الفاخرة بأسعار مُرتفعة، والمُحيط أو الأطراف (البلدان الفقيرة)، حيث يُزْرَعُ القُطْنُ وتُصْنَع الملابس بتكلفة منخفضة جدًّا، وحيث يتحمل السكان نتائج التلوث…

زراعة وصناعة القطن في العالم:

القطن شَجَرة صغيرة مُعَمِّرَة، تترعرع في المناطق ذات المناخ الحار، وتتطلب أرضَا خصبة ومياها كثيرة، لتُنْتِجَ قطناً عالي الجودة، ويعود اكتشاف أَلْياف القطن إلى حوالي خمسة آلاف سنة قبل التاريخ الميلادي، في أمريكا الجنوبية (المكسيك حاليا)، وأظْهرت الوثائق التي تعود إلى نفس تلك الفترة، إن الملابس القُطْنِيّة كانت معروفة (أو شائعة لدى بعض طبقات المجتمع) في الهند كما في مصر، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، مما يجعل النبتة وثمارها وصناعتها واستخدامها شائعا خلال نفس الفترة في ثلاث قارات، في أمريكا (المكسيك) وفي إفريقيا (مصر) وفي آسيا (الهند)، والقُطْنُ أنواعٌ، ويختلف موسم زراعة القطن باختلاف البلد (أي باختلاف المناخ والتُّرْبَة، ونوعية القُطن).

يمُرُّ القُطْن بمراحل طويلة، قبل تصنيعه، إذ تحمل زهرة القُطن بداخلها بُذُورًا، وجب تخليصها وفَصْلُها، (عملية “الحلج”)، وتُسْتخدم قشرة البذور في صناعة الزّيوت النباتية وعلف الحيوانات، لكن الإستخدام الأساسي للقُطْنُ يتمثل في صناعة الخُيُوط والقماش، أي النسيج والملابس، ولا يزال يُشَكِّلُ المادة الأولية الأولى لهذه الصناعة، رغم انتشار الملابس والمنسوجات المصنوعة من مشتقات النفط ومن “البولسترين”، وتتصدر الصين قائمة أكثر الدول إنتاجًا للقطن سنة 2014 بنحو 33 مليون طن مِتْرِي، تليها الهند (27 مليون طن) فالولايات المتحدة (18 مليون طن) ثم باكستان (10,5 ملايين طن) والبرازيل (9,8 ملايين طن)، ولكن القطن المصري “طويل التِّيلَة” يُعتَبَرُ أفْضَلَ أنواع القطن ويُقْبِلُ عليه المُوَرِّدُون من جميع دول العالم…

تُنْتِج العديد من البلدان الإفريقية القطن، وأصبحت جمهورية “مَالِي”، خلال موسم 2017-2018، تتصدر قائمة الدول المنتجة في إفريقيا بحوالي 725 ألف طن من القطن، متقدمة على “بوركينا فاسو “، وتتم زراعته في مالي كل ثلاث سنوات بالتناوب مع الذرة، والذرة البيضاء، في أراضي تُقدر مساحتها بسبعمائة هكتار

القُطْن وقطاع النسيج في الوطن العربي:

تُشير الوثائق والرّسوم إن قدماء المصرييّن عرفوا زراعة القطن، واستخدموه للملابس وللزّينة، ولكن زراعة القطن ازدهرت خلال فترة حكم “محمد علي”، أواخر القرن التّاسع عشر، بعد تجربة زراعة أنواع جيدة من القُطْن القادم من الحبشة، منذ 1918، ويبدو إن المناخ والأرض المصرية كانت أكثر مُلاءَمَةً لهذه الأنواع “الحَبَشِيّة”، فأثْمَرَتْ قُطْنًا عالي الجودة، احتل خلال عقد الخمسينات من القرن العشرين، حوالي 20% من المساحات المزروعة في مصر، وكان مرغوبًا من مصانع بريطانيا وأوروبا، وأصبحت مصر أحد أهم مُصَدِّرِي القطن، عالي الجودة (أو “طويل التّيلة”) في العالم، وبلغت حصة القطن حوالي 70% من صادرات البلاد، لكن سياسة “الإنفتاح” والخصخصة التي بدأت خلال فترة حكم “أنور السادات (بداية من 1970 وحتى اغتياله سنة 1981) أدّت إلى إهمال قطاع الفلاحة (وفق تعليمات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي)، فانخفضت المساحات المزروعة قطنًا إلى 11% سنة 1980 وإلى حوالي 4% فقط سنة 2000، وانخفض عدد العاملين بها من حوالي 1,2 مليون إلى قرابة 650 ألف عامل، وباعت الدولة عددًا من المصانع إلى شركات أجنبية (منها شركات هندية وصينية)، وأصبحت مصر تستورد ملابس مصنوعة من نفايات النفط…

تُمثِّلُ صناعة الغزل والنسيج رمْزًا للنهضة الصناعية في مصر، عبر تشجيع زراعة القُطْن (منذ فترة “محمد علي”، كما سبق ذِكْرُهُ)، ثم إنشاء شركات غزل “المحلة” وغزل “شبين”، وتحولت من صناعة يدوية إلى صناعة آلية، مع إنشاء عدد كبير من المصانع، منذ بداية القرن العشرين، ضمن برنامج التصنيع الوطني ل”طلْعت حَرب” الذي أنشأ مصرف مصر، وشركات مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وهي أهم مرحلة تصنيع في مصر، ثم تَلَتْها المرحلة الثانية 1952 – 1970، حيث ازدهرت زراعة القطن وصناعة النسيج في المحلة الكبرى وكفر الدوار وشبين الكوم وشبرا الخيمة وغيرها…

خَرّب النظام الذي كان يُمثله “محمد أنور السادات” (دامت فترة حكمه من 28/09/1970 إلى 06/10/1981) كل ما هو وطني في مصر، وأصدرت الحكومة القانون رقم 13 لسنة 1974 الذي سمح بدخول القطاع الخاص لقطاع صناعة الغزل والنسيج، فانخفضت الرواتب، وساءت ظُرُوف العمل، ثم توقفت الدولة عن الإستثمار في القطاع العام، وعن تنفيذ أعمال تطوير وتجديد أو صيانة الآلات والتجهيزات لأربع وثلاثين شركة حكومية، تمهيدًا لعملية الخصخصة الكاملة، بداية من سنة 1991 (القانون رقم 203)، ودفعت الحكومة 161 ألف عامل للخروج للمعاش المبكر، وانخفضت مساهمة صناعة الغزل والنسيج في الناتج الصناعي الإجمالي إلى نحو 2,4 %، ولا تتجاوز قيمة صادراتها سبعة مليارات جنيه (الجنية المنخفض حيث يساوي الدولار 18 جنيها مصريا)، وأَشْرَفَ القطن المصري المعروف بجودَتِهِ (طويل التيلة) على الإندثار…

في سوريا (وفي بلاد ما بين النهرَيْن) تُعتبر الزراعة من أقدم النشاطات الإقتصادية، ما مكن من تأسيس التّجمّعات البشرية القارة (الحَواضر)، وتُعَدُّ البلاد ثاني مُنْتِج عربي للقطن (في مناطق الحسكة والرقة ودير الزور وإدلب وحماه وحلب والجزيرة)، وخلافًا لمصر، ارتفع إنتاج القطن، في سوريا، من 378 ألف طنٍ سنة 1970 إلى 610 آلاف طنٍ سنة 1995 وإلى مليون طنٍ سنة 2001، وأصبحت سورية تحتلّ المركز العاشر عالميًا في زراعة القطن، قبل الحرب الأطلسية الأمريكية (بداية من 2011)، وكان القطن يحتل المركز الثّاني لإيرادات الصّادرات السّورية، بعد النّفط، فيما بلغ إجمالي الإستثمارات في القطاع (حكومية وخاصة) 1,3 مليار دولارا…

بقيت صناعة الغزل والنسيج في سوريا، “يَدَوِيَّة”، حتى العقد الثاني من القرن العشرين، ثم بدأت الآلات بالدخول، وتأسست شركات الغزل والنسيج، بداية من 1933، في مدينة حلب، ثم في دمشق وحمص وغيرها، قبل قرارات التأميم وتأسيس “اتحاد الصناعات النسيجية” الذي يُشرف على الإنتاج والتصدير، ثم أحدثت الحكومة سنة 1975 “المؤسسة العامة للصناعات النسيجية” التي تُشرف على 26 شركة لإنتاج خُيُوط القطن والصوف، أو الخيوط الممزوجة ب”بوليستر” و”فيسكوز” وغيرها

ارتفع إنتاج الغزل القطني في سوريا، بنسبة 150% بين سَنَتَيْ 1983 و 2000، ثم بنسبة 120% بين سنَتَيْ 2000 و 2001، لكن هذا التطور لم يواكِبه تطور مماثل لطاقة إنتاج المنسوجات والأقمشة (البيانات من المكتب المركزي للإحصاء – سوريا)، أما منذ الحرب، فقد نهبت المجموعات الإرهابية المصانع (بإشراف خبراء من الصناعات التركية) وباعتها بأبخس الأسعار إلى مصانع تركيا…

صناعة الملابس في ضوء التقسيم العالمي للعمل:

انتقلت صناعات النسيج والملابس من الدول الرأسمالية المتطورة إلى البلدان الفقيرة (ما يُسَمّى “العالم الثالث”)، منذ حوالي خمسة عُقُود، وانتشرت المناطق الصناعية، التي تُشكل هذه الصناعة عمودها الفقري، في ضواحي المُدُن الكُبْرى، من الدّار البيضاء (المغرب) إلى بانكوك (تايلند) ومانيلاّ (الفلبين)، مرورًا بمدن عربية وإفريقية وآسيوية، وبمدن أمريكا الجنوبية، وفَرَضَ البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي على الدول الفقيرة إقرار تشريعات وحوافز لصالح الشركات الأوروبية والأمريكية لصناعة الملابس، منذ نهاية عقد ستينيات القرن العشرين، في إطار “تشجيع الصّادرات”، لأن هذه الملابس (ومصنوعات أخرى) ليْسَتْ مُعَدّة للبيع في الأسواق المَحَلِّية، بل يقع تصديرها لبلدان المَنْشَأ، حيث يقع المَقَر الرسمي لهذه الشركات الأجنبية، وتُشغِّلُ هذه الشركات، التي يُديرها ويُشرف على تسييرها أجانب، عُنْصُرِيُّون في معظمهم، العُمّال الشُّبّان من الجنسين، برواتب متدنّية، دون احترام قوانين العمل – على هِنَتِها – في هذه البلدان، وغالبًا ما تعمد الشركات – بدعمٍ من الحكومات المحلية – إلى تَسْرِيح العُمال الذين يُحاولون تأسيس نقابات في هذه المصانع، وعمومًا شَكَّلَ قطاع الغزل والنسيج والملابس، وصناعة الجِلْد، مُخْتَبَرًا لما سُمِّيَ “العَوْلَمَة الرأسمالية المُتوحِّشة” (العولمة الرأسمالية دائمًا متوحشة، وبدأت مع بدايات مرحلة الإمبريالية)…

تضاعف حجم وقيمة التجارة العالمية سِتّةَ أَضْعَاف، بين سنَتَيْ 1980 و2010، بحسب “الهيئة العالمية للموارد” التابعة للأمم المتحدة، ولكن هذه الأرقام لا تعكس حجم الدّمار الذي أصاب البلدان المُصَدِّرَة للمواد الخام، من جَرّاء استخراجها، إذ تُقَدِّرُ الأمم المتحدة إن إنتاج أي سلعة مصنوعة (طن واحد من المواد المصنوعة على سبيل المثال)، يتطلب استخرج ثلاثة أمثالها من المواد الخام (أي ثلاثة أطنان)، بالإضافة إلى تَبْذِير موارد الطّاقة، وهي ضرورية في عملية استخراج المواد الخام، مما يَرْفَعُ خسائر البلدان المُصَدِّرَة للمواد الخام (بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية)، من حجم المبادلات التجارية العالمية، وبالأخص تجارة السلع الاستهلاكية، في حين ترتفع أرباح شركات أوروبا والولايات المتحدة واليابان، والتي تحتكر إنجاز بعض عمليات سلسة الإنتاج مثل التّصميم والبحث العلمي، وهي عمليات غير مُلَوِّثَة للبيئة، وتُحقِّقُ قيمة زائدة مُرْتَفِعَة (capital gain  أو plus value)، وتُعْتَبَرُ صناعة النسيج والملابس، إحدى القطاعات “الرَّائِدَة” في مجال التبادل غير المُتكافئ، لكنها لم تعد استثناءً، بل تُشَكِّلُ جزءًا ظاهرًا من نمو عملية التبادل التجاري العالمي، وكلما ارتفعت قيمة وحجم مبيعات النسيج والملابس (نمو بمعدّل 1,2% سنويا) تَعَمّقت الفجوة بين العالم الرأسمالي المُصَنّع والبلدان الأخرى (أو “المُحِيط”)، ويتوقّع تقرير الأمم المتحدة ارتفاع حجم مبيعات هذا القطاع إلى تريليُونَيْ دولارًا، بحلول 2023، رغم انخفاض متوسّط سعر الملابس في الدول الرأسمالية المتطورة، بسبب الضغط على تكاليف صناعتها في بلدان “المُحِيط”، وبسبب عدم الإهتمام بالمحيط وبالبشر، بل بسبب زيادة الأضرار في بلدان “المُحِيط”، خلال مختلف مراحل عملية الإنتاج، مما يزيد من عدم المساواة…

دور صناعة النسيج في تدمير المُحيط وحياة السّكّان – نموذج “بنغلادش”:

طَفَتْ على سطح الأحداث، من حين لآخر، حوادث قاتلة في صناعة النسيج في بلد مثل بنغلادش، وأهمُّ هذه الحوادث، خلال السنوات الأخيرة، انهيار مصنع المنسوجات “رانا بلازا” ( نيسان/ابريل 2013) في ضواحي العاصمة “دكّا” (بنغلادش)، ويُنتج المَصْنَع معدّل 400 ألف سروال شهريا (إلى جانب قُمصان وملابس أخرى)، وبَيَّنَ الحادث خطورة وضع الطبقة العاملة وخطورة ظروف العمل، التي ذهب ضحيتها في هذا المصنع أكثر من 1300 عاملة وعامل، مع إصابة حوالي 2300 عامل وعاملة، بسبب غياب أسس السلامة ومنافذ الهواء وغياب وسائل الإنقاذ والإطفاء،والإسعافات الأولية، فيما تُعرقل شركات النسيج وجود تمثيل نقابي للعمال، الذين يتجاوز عدد ساعات عملهم اليومي عشر ساعات، ويصل إلى ستة عشر ساعة،عند الضّرُورة، وتَقل رواتب عمال وعاملات النسيج عن الحد الأدنى القانوني للأجور، ولا يوجد نظام للتأمين الصحي والإجتماعي، ولا تأمين ضد الحوادث والمرض والبطالة، وينتج هذا المصنع ملابس لأكبر شركات أوروبا وأمريكا الشّمالية، ويصل سعر القطعة الواحدة إلى أكثر من 100 ضعف ثمن تكلِفتها، وبعد الحادث بست سنوات، بلغ متوسط الرواتب حوالي ستين دولارا شهريا، ولم يتجاوز ارتفاع الرواتب نسبة زيادة الأسعار والتّضخّم، ولا يزال أرباب العمل يُضَيِّقُون على وجود النقابات، واستمرت ظروف العمل المنافية لمقاييس منظمة العمل الدولية وحتى لقوانين البلاد، التي تُعد من أكبر منتجي الملابس (بعد الصين)، ويعمل بالقطاع حوالي أربعة ملايين عاملة وعامل، يَفْرِضُ عليهم أصحاب المصانع العمل ساعات إضافية إجبارية، لا يستفيدون من أَجْرِها، ويشتغلون أحيانًا 16 ساعة، عندما ترتفع الطلبات التي وجبت تلبيتها بسرعة قياسية…

إن ظروف عمال أُجَراء قطاع النسيج متشابهة، سواء في الصين أو في أمريكا الوُسْطى، أو في بنغلادش، فمعظم الأُجَراء عاملات شابات، يعْمَلْنَ في وضع شبيه بالعبودية، برواتب ضعيفة، لا تكفي لإعالة الأُسَر والعيش بكرامة، بالإضافة إلى ارتفاع ساعات العمل، والإهانات، وانعدام الحماية والحقوق النقابية، في مصانع ينقُصُها الهواء، والأمن والسّلامة المهنية، وتُصْنَعُ (في بنغلادش) ملابس لشركات عابرة للقارات، من بينها “أديداس” و ( H&M) و ( C&A) و”زارا” وغيرها…

يُعاني سكان “بنغلادش” أيضًا من الإنقطاع المستمر للتيار الكهربائي في المنازل، لأن استهلاك المصانع يحظى بالأولوية المُطْلَقَة، كما يُعاني السُّكّان من التلوث الخطير، لأن عملية الصباغة تتطلب استخدام خزّانات من الأحماض ( أَسِيدْ) والأصباغ وهي مواد سامّة تسببت في كوارث بيئية، وفي تلوث مياه الأنهار وفروعها التي تصب في خليج البنغال، فتُلَوِّثُ الأرض والهواء والبحر ومياه الشرب، ويوجد في البلاد أكثر من 700 محل (مصنع) للغسل والصباغة والتجميع تصرّف مياهها (دون مُعالجة) في أنهار العاصمة “دكا”، لتقضي على الأسْماك، مما يحرم الصيادين من رزقهم، والسّكان من استهلاك السمك المَحَلِّي، كما تُسْتَخْدَمُ هذه المياه المُلَوّثة في الرّي وفي زراعة الأرْز، في بلد يعيش نحو 70% من سكانه على الزراعة، ويعتمد على الإنتاج الغذائي المَحَلِّي، كما تسببت صناعة النسيج في استنزاف المياه الجوفية التي انخفض حجمها، وتَحْدُثُ هذه التجاوزات بتواطُؤ من المسؤولين السياسيين الفاسدين، سواء في المستوى المَحَلِّي أو في مستوى الحكومة، مما يُسبِّبُ عواقب وخيمة على عدد من فئات المجتمع، كالصيادين والمزارعين ومربي الماشية، وتمتد النتائج السلبية إلى السّكّان الذين ارتفعت بينهم حالات الإصابة بمرض السرطان، جراء تسمم المياه (بما فيها المياه الجَوْفِيّة) وتَلَوُّث المُحيط، وانبعاث الغازات، مما يجعل ضَرَرَ صناعة النسيج يَفُوق نَفْعها، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وبيئِيًّا، بينما ترفض الشركات العابرة للقارات (رَبُّ العمل الفِعْلِي) الشروط والإلتزامات التي يطالب بها السكان والنقابات والعُمال، والمكتب الدّولي للعمل، سواء في قطاع صناعة النسيج، أو حتى في محلاّت البيع بالدّول الرأسمالية المتطورة، فالعمل في قطاع النسيج يمْتَهِنُ كرامة الإنسان، في كافة مراحل سلسلة الإنتاج، من زراعة القطن إلى صناعة القُمصان والسّراويل، وينطبق الأمر كذلك على العاملين في قطاع التجارة في الدول الصناعية المُتَطَوِّرة، فهم عبارة عن عبيد يعملون ساعات طويلة برواتب منخفضة، بينما تُحَقِّقُ الشركات أرباحًا صافية (خالية من الضرائب والرسوم) لا تقل عن 60% من المبالغ المُسْتَثْمَرَة…  

تُشَجّع حكومات الدول الرأسمالية شركاتها على تصنيع الملابس (وسلع أخرى أيضًا) في الدول الفقيرة، حيث تنخفض تكاليف الإنتاج، مما يُمكّن هذه الشركات من بيع الملابس (والغذاء وبعض التجهيزات المنزلية وغيرها) بأسعار رخيصة، مقارنة بالرواتب ومستوى العيش في أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية، وتُمثِّلُ هذه الأسعار المُنْخَفِضَة نوعًا من الرّشْوة لسكان هذه البلدان، أو نوعًا من “شراء السِّلْم الإجتماعية”، لكي لا يُطالب العُمال والأُجَراء (في دول “المَرْكَز”) بزيادة الأجور، ولكي لا يَثُورُوا في وجه الحُكام، الذين يُمثِّلُون مصالح نفس تلك الشركات متعددة الجنسية…

الإستغلال المُضاعف، باسم المُحافظة على البيئة و”إعادة تدوير” الملابس المُسْتعْمَلَة:

نجحت شركات متعددة الجنسية في إقناع مواطني أمريكا الشمالية وأوروبا وغيرها بأنهم (المواطنون) المُتَسَبِّبُون الرئيسيُّون، كأفراد، في تلويث المحيط، وفي تدهور البيئة، وفرضت على المواطنين فَرْزَ النّفايات، لتستفيد الشركات من هذا العمل المجاني، ومن المواد الأولية التي تُعيد استخدامها، كالورق والزجاج والخشب والملابس، وغيرها، ونجحت في أقناع الناس بأن من لا يقوم بعملية الفَرْز، مُذْنِب في حق البشرية والمحيط، مما يُبَرِّئُ شركات النفط والصناعات الكيماوية وشركات صناعة السيارات وغيرها من “تُهْمَة” تلويث المُحيط، واستغلت المنظمات الخيرية والشركات متعددة الجنسية شعور المواطنين بالذّنب لتَحْصُل هذه الشركات الملابس القديمة والزائدة عن حاجة الناس، مجانًا، ثم تَبِيعُها في أسواق البلدان الفقيرة…

تستخدم المنظمات المُسمّاة “إنسانية” أو “خَيْرِيّة” أو “غير رِبْحِيّة” أو “غير حُكُومية” كافة الوسائل التي طوّرها المجتمع الرأسمالي (الإعلام ووسائل الإتصال )، لِحث المواطنين في الدول الرأسمالية المتطورة، على تشجيع “المحافظة على البيئة”، وإعادة تدوير الملابس والأحذية القديمة، وإنقاذ الفُقراء من برد الشتاء وحر الصيف، عبر التّبَرُّع لهم ببعض الملابس القديمة (وببعض الدّولارات)، لكن هذه المنظمات تُؤَجِّرُ إسمها (علامتها “التّجارية”؟) لتستفيد الشركات التجارية من العطف الذي يكنه المواطنون لمنظمة “أوكسفام” أو “الصليب الأحمر”، أو غيرهما، بل إن هذه الملابس القديمة الممنوحة لأوكسفام وغيرها، تُساهم في تسريح العمال وإفقار المُزارعين، واحتجاز التّنْمِيَة…

قَدّرت النقابات والمنظمات غير الحكومية إن الشركات متعددة الجنسية تَحْرِقُ أو تُلقي في النّفايات بنحو 60% من الملابس التي تجاوزَتْها المُوضة، مما يجعل سكان الإتحاد الأوروبي يتخلّصون سَنَوِيًّا من أكثر من خمسة آلاف طن من الملابس المستعملة، وتنتشر في أحياء مُدُن الدّول الصناعية صناديق ضخمة، بشعارات منظمات خيرية، تدعو المواطنين للتبرع بملابسهم القديمة، لصالح الفُقراء الذين ترعاهم المنظمات الخيرية (أو “غير الحكومية”)، ويستجيب العديد من المواطنين للنداء “الإنساني”، بوضع الملابس داخل هذه الصناديق، ثم يمر عُمّال يُفرغون هذه الصناديق، ليلاً، ويضعون الملابس داخل شاحنات تابعة لشركات تجارية، تُشَغِّلُ عُمّالاً فُقراء، لِفَرْز الملابس وإصلاحها، وتنظيفها، وتخزينها، بحسب مقاييس تحددها هذه الشركات. أما المنظمات “الخَيْرِيّة” التي تضع شعارها أو إسمَها على الصناديق فتحصل على مبلغ مالي أو نسبة مائوية من حجم المبيعات (بِالطُّن)، ثم تتكفل الجمعيات الخيرية، أو الشركات المتعاقدة معها، بفرز الملابس التي تَبَرّع بها بُسطاء القَوْم، وتشتري الشركات التّجارية الكُبرى قرابة 80% من هذه الملابس التي يقع تصنيفها، وفق مقاييس خاصة (نوعها وحالتها ومقاييسها) ثم تعبِئتها في عبوات ضخمة من البلاستيك أو القُماش، لتُباع بالطن، بالجملة، قبل مرورها عبر تُجّار متوسّطين ثم إلى تُجار التجْزِئة، الذين يطرحونها في أسواق الملابس المستعملة، التي ارتفعت قيمتها وأهميتها في مجتمعات البلدان الفقيرة، ومنها البلدان المُنْتِجَة للقطن، والبلدان التي تُصنع في مُدُنها تلك الملابس المُعَدّة للتصدير، مما يجعل الشركات الرأسمالية الكُبْرى الرابح الأول والوحيد من نهب الإقتصاد واستغلال الطبقة العاملة وموارد البلدان الفقيرة (مثل بنغلادش التي اخترناها نموذجًا)، في عملية يُمكن وَصْفُها بإعادة تصدير نفايات القُطْن، إلى البلدان المُنْتِجَة للقُطْن، وبيع هذه النفايات (في شكل ملابس مُسْتَعْمَلَة) إلى فُقراء بلدان الأطراف، بما يفوق القيمة الحقيقية لإنتاجها في مصانع بنغلادش، أو آسيا، أو أمريكا الوُسْطى، وقد تكون الشركات المُصَدِّرَة لهذه النفايات هي المُتَسَبِّب المباشر في إفقار ملايين المواطنين والمزارعين والعُمال في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية…  

تربح المنظمات الخيرية (“غير الربْحِيّة”) مثل “الصليب الأحمر الأمريكي (على سبيل المثال) حوالي 10 سنْتَات عن كل كيلوغرام من الملابس التي تبرّع بها له الخَيِّرُون “السُّذَّج”، قبل فرزها وتصديرها إلى إفريقيا (وغيرها) وتدّعِي المنظمات الخيرية الأمريكية والأوروبية إنها تستخدم عائداتها من الملابس المستعملة والمُتَبَرَّعِ بها في “دعم البرامج الخَيْرِية في إفريقيا”، لكن ورد في تقرير للمعهد الأمريكي للعمل الخيري، إن منظمة كبيرة مثل “بلانيت آيد” لا تُخَصِّصُ سوى “جزءًا صغيرًا جدًّا لا يتجاوز 28% من العائدات على البرامج التي تدعي تنفيذها، وتنفق المبلغ الأهم في أمريكا، أو ما يُعادل 36,5 مليون دولارا سنة 2011، على إدارة عمليات الجمع والفرز والبيع”، وتُخْفِي “الجمعية الكَنَدِيّة لمرضى السّكّري” (جمعية “غير ربحية”) عائداتها من بيع الملابس المُسْتعملة، فيما تُخالف منظمة “المجلس الأمريكي لإعادة تدوير المنسوجات” قانونها الأساسي الذي ينصُّ على إعادة استخدام الملابس في أمريكا، في حين تُصَدِّرُ هذه المنظمة 85% من المنسوجات التي تجمعها، إلى خارج أمريكا…

نجحت المنظمة “غير الحكومية” الدّولية الخيرية ( Goodwill Industries International )، وهي منظمة أمريكية، في فتح أكثر من ثلاثة آلاف محل لتجارة الملابس والأحذية المستعملة، في الولايات المتحدة، والتي جمعتها من “ذوي النوايا الحسنة”، ويَعْرضُ موقع ( Recycle Match ) التابع لمؤسسة “غير ربْحِيّة” نحو 21 طنا شهريا من الملابس للبيع، وعشرة أطنان من الأحذية للبيع شهريا، خلال فصل الشتاء (2018 – 2019)، ويشتري هذه السلع مُوزّعون (تجار الجملة) في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية…

تتحايل العديد من المنظمات الخيرية على مواطني البلدان الغنية، وتستخدم وسائل الإتصال الحديثة وتُوَظِّفُ مستشارين متخرجين من مدارس التجارة، لاختيار إعلانات مَدْرُوسة بعناية، تطلب من المواطنين “مُساعدة الفُقراء الذين لا يملكون الغذاء أو الكِساء”، وغالبًا ما يَنْجَحُ مثل هذا الإشهار في إثارة عواطف الملايين من ذَوِي النوايا الحسنة، فيتبرعون بما زاد عن حاجتهم أو بما تجاوزته “الموضة” من الملابس، التي تَدّعِي الإعلانات الكاذبة “استفادة الفُقراء منها بدون مُقابل”، وهي إعلانات كاذبة، لأن هذه المنظمات تُشكِّلُ حلقةً في سلسلة تجارية ضخمة، أضرّت كثيرًا بزراعة القُطْن وبصناعة الملابس في بلدان عديدة، ومنها عدد من البلدان الإفريقية…

قارة إفريقيا، كنموذج للنهب والإستغلال المُضاعَف:

يُصَدّر قسم هام من الملابس المُسْتَعْمَلة إلى بلدان مُنْتِجَة للقطن في إفريقيا (مالي وبوركينا فاسو وكينيا…)، مما يُؤثِّرُ سَلْبًا على صناعة النسيج في هذه الدول التي ازدهرت فيها (خلال فترة ما بعد الإستعمار المباشر) مِهن صناعة الملابس التقليدية من الإنتاج المَحلِّي أو من إنتاج البلدان المُجاورة، وأطاحت القوى الإستعمارية بالقادة الذين حاولوا إنتاج السلع الأساسية بعد فترة الإستعمار المباشر، بل اغتالت الإمبريالية “باتريس لوممبا” في الكونغو وأطاحت برئيس مالي “موديبو كيتا” واغتالته، كما حصل لرئيس بركينا فاسو “توماس سَنْكارَا” فيما دَبّرَت الإمبرياليات الفرنسية والبريطانية والأمريكية عددًا لا يُحْصَى من الإنقلابات والحروب الدّاخلية، وبعضها لا يزال مشتعلا (الكونغو وإفريقيا الوسطى ونيجيريا…)، وعرقلت القُوى الإستعمارية خطط التصنيع والتنمية، سواء في قطاع الزراعة أو الصناعة، وعلى سبيل المثال فقد انخفض حجم صناعة الملابس، بالتوازي مع ارتفاع حجم الملابس المستورَدَة والمُسْتَعْمَلَة، والتي تُدِيرُ تجارتها شركات ضخمة عابرة للقارات، تُهَيْمِنُ على حِصّةً قدّرَتْها الحكومة الأمريكية بحوالي 85% من المنسوجات التي يتم جَمْعُها سنويًّا، وتَجْنِي منها أرباحًا ضخمة، وأدّت عرقلة (وإلغاء) خطط التنمية الإقتصادية باستخدام الموارد المحلية، إلى تعميق علاقات التّبَعِيّة وإلى تأبيد علاقات التبادل غير المُتكافئ، بين المركز (الأوروبي والأمريكي الشمالي) والمحيط (الإفريقي والآسيوي والأمريكي الجنوبي)…  

تحتل الولايات المتحدة صدارة الدول المُصَدِّرَة للملابس المُسْتَعْمَلَة، من تَبَرُّعات المواطنين التي بلغت حوالي 470 ألف طن سنويا، بقيمة فاقت (قبل الفرز والتصدير) 800 مليون دولارا (سنة 2012)، تليها بريطانيا بنحو 351 ألف طن سنويا، بقيمة تزيد عن 600 مليون دولارا (سنة 2013)، وكندا بقيمة 133 مليون دولارا أمريكيا، وبلغ حجم تجارة الملابس المستعملة في العالم حوالي أربعة مليارات دولار، سنة 2015، أما أهم البلدان المُسْتَوْرِدَة للملابس المُسْتَعْمَلَة فهي غانا وباكستان وأوكرانيا، وكينيا التي تستورد قرابة 100 ألف طنًّا سنويا، وقَدّرتْ منظمة “أوكسفام” (البريطانية الخَيْرِيّة) إن أكثر من 70% من الملابس المتبرع بها في العالم تتجه نحو أسواق إفريقيا، التي فَرَضَ عليها الدائنون (صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي) “تحرير” اقتصادها، بذريعة ضرورة تطبيق “الإصلاح الإقتصادي” الذي يتضمن، وفْقَ وصفة صندوق النقد الدولي، فَتْحَ الأسواق المَحَلِّيّة أمام السلع الأجنبية، وأدّى تطبيق هذه الشروط (شروط القُرُوض) إلى انهيار قطاعات الزراعة، ومنها زراعة القُطْن في إفريقيا، الذي انخفضت أسعاره في الأسواق العالمية – مثل باقي المواد الأولية – وكذلك قطاع صناعة الملابس في أفريقيا، وأدّى انخفاض الأسعار العالمية للقُطْن الخام إلى إفلاس مُزارعي القُطْن في بلدان عديدة، من بينها “زَمْبِيَا”، وإلى إغلاق عدد من مصانع النسيج، وتسريح العُمّال، منذ نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين، وأغلقت نحو 85% من مصانع النسيج في كينيا، منذ حوالي ثلاثين سنة، فانخفض عدد العاملين في قطاع صناعات النسيج في كينيا من 500 ألف عامل سنة 1980 إلى 20 ألف عامل سنة 2016، وأصبحت كينيا أحد البلدان المستوردة للملابس المستعملة، الواردة من دول رأسمالية متطورة، من بينها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا (الدول الناطقة بالإنغليزية)…

خاتمة:

يُمثل قطاع الملابس المُسْتَعْمَلَة جُزءًا بسيطا من واقع الهيمنة، ولكن الملابس المستعملة تُهيْمِنُ على تجارة الملابس في عدد من البلدان الإفريقية، في موزمبيق ورواندا وأوغندا وتنزانيا، وكينيا، في شرق إفريقيا، وفي مالي وبركينا فاسو وغانا ونيجيريا وغيرها في غرب افريقيا، مما أسْهَمَ في تقويض اقتصاد هذه البلدان (زراعة القُطْن وصناعة تحويل القطن إلى منسوجات وملابس)، ولما أعربت حكومات دول مجموعة شرق أفريقيا الست (EAC – بوروندي وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وجنوب السودان ) في كانون الثاني/يناير 2018 عن اعتزامها حظر استيراد الملابس المستعملة من دول عديدة، ومن بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، بداية من 2019، لأن الأسعار المنخفضة لهذه الملابس القديمة، تعَسِّرُ على المصانع المحلية منافستها في الأسواق الداخلية الإفريقية، ردّت الولايات المتحدة الفعل بأن أعلنت مراجعة علاقاتها التجارية مع رواندا وأوغندا وتنزانيا، “لأن حظر استيرادها الملابس الأمريكية المُستعمَلَة يَضُرًّ بالإقتصاد الأمريكي، ويُهدّد أربعين ألف وظيفة في الولايات المتحدة”، وكان هذا التّهديد كافِيًا لتراجع دول شرق إفريقيا، بعد شهر واحد من اتخاذ القرار، مما يُشكل انعكاسًا لموازين القوى، ولطبيعة العلاقات، ولواقع التبادل غير المتكافئ بين المركز الرأسمالي الإمبريالي والأطراف (أو بلدان “المحيط”)، أضف إلى ذلك البهتان والنفاق الذي يُرافق هذه التجارة المربحة، المقدّرة بنحو أربعة مليارات دولارا سنويا، فتحصل الشركات متعددة الجنسية على المادة الأولية (الملابس) مجانًا، بتواطؤٍ من المنظمات “الخيرية” أو “الإنسانية”، لأن مواطني أوروبا وأمريكا يعتقدون إنهم يُساعدون الفُقراء، ويُحافِظون على البيئة…

ما هي الحلول المُمْكِنة؟

أثبتت سياسة الإقتراض من صندوق النقد الدولي ومن البنك العالمي والدول المسماة زورًا “مانحة” عُقْمَها، بل خَطَرها على استقلال البلدان وعلى النسيج الإجتماعي، وعلى تَطور البلدان المُقْتَرِضَة، وأدت شروط صندوق النقد الدّولي إلى أزمات حادّة، وإلى تراجع أسعار الإنتاج الزراعي وأسعار المواد الأولية، كما أَدّتْ إلى مزاحمة الإنتاج الأمريكي والياباني والأوروبي المدعوم حُكوميا (من المال العام) لإنتاج البلدان الفقيرة، والواقعة تحت الهيمنة، وقد لا تَصُحّ تسمية هذا الدّمار ب”الأزمة”، لأن الأزمة عابرة، أما وضع هذه البلدان فيُنْذِرُ بتراجع طويل الأجل…

يشكل “فَكّ الإرتباط” أحد الحلول، لكنه حل مُكلف، حيث أظهر المثال الذي أوردْناه عن قرار دول شرق إفريقيا، عُنْفَ الرّد الأمريكي، ولا يمكن مجابهة الإمبريالية الأمريكية أو غيرها، سوى بالتفاف شعبي حول برنامج يساهم المواطنون في إعداده ونقاشه وإنجازه، ليكون برنامج الشعب أو الطبقات الكادحة، التي تُدافع عن ضرورة إنجازه، عند اقتناعها بأن إنجازَهُ من مصْلَحَتِها، ولا يمكن طرح مثل هذا البرنامج (أو الخطّة) دون تجميد أو إلغاء تسديد الديون، التي فاقت قيمتها الناتج المحلّي الإجمالي في بعض البلدان، والتي تفوق خدمتها 20% من قيمة الإنفاق الحكومي في عدد من الدول الأُخْرَى، ويهدف مطْلَب إلغاء الديون، إلى استثمار قيمتها في القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعات التحويلية، التي تُمكِّنُ من تنفيذ برامج إنتاجية، مع الحد من نسبة البطالة، فهي قطاعات تستوعب الآلاف من الباحثين عن عمل (كالزراعة والصناعات الغذائية والتّحْوِيلية)، كما وجب الإستثمار في البحث العلمي وتشغيل آلاف الجامعيين المُعَطَّلِين لاستنباط حُلُول للمشاكل المطروحة في المجتمع، كالتّصحّر وشُح المياه، وتحسين جودة النباتات، أو تحسين جودة الإنتاج الصناعي الأساسي، بموارد وخبرات مَحَلِّيّة…     

 ** عن موقع صحيفة “غارديان” شباط/فبراير 2015 + موقع “بي بي سي” + موقع “كيفا” (kiva ) – بريطانيا + موقع ( ctext) إسبانيا – تموز/يوليو 2018 و كانون الثاني/يناير 2019 – كما كتَب الدكتور “اندرو بروكس” (باحث جامعي في مجال “جغرافية النّمو” – “كينغز كوليج- لندن”) كتابًا هاما نُشِرَ بالإنغليزية في شباط/فبراير سنة 2015، بعنوان ( Clothing Poverty : The Hidden World of Fast Fashion and Second-hand Clothes) ) أو ما يمكن ترجمته: “فقر الملابس: العالم الخفي لأزياء الموضة السّريعة والملابس المستعملة”  (2015)

 

قد يعجبك ايضا