الدين والحداثة السياسية صهيونياً وفلسطينياً (1-2) / خالد الحروب

نتيجة بحث الصور عن خالد الحروب

خالد الحروب ( السبت ) 23/6/2018 م …




ثمة تباين كبير في موقع الدين والحداثة السياسية في سيرورة وتكوين وتحفيز الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، رغم ما قد يتبدى من تشابه ظاهري بين الحالتين، وهو تباين ظل مستمراً رغم انه شهد تحولات مختلفة. وأساس هذا التباين كما تقدمه هذه السطور هو التالي: ادعت الحركة الصهيونية الانتساب الى الحداثة السياسية والأفكار القومية الحديثة والعلمانية بما فيها الليبرالية والديمقراطية، لكنها في الجوهر اعتمدت الدين والأساطير الدينية كمحرك أساسي لها، واستندت اليه كمسوغ مركزي في ادعاء حق إقامة دولة على ارض فلسطين، وكأداة تعبئة لإقناع يهود العالم بالهجرة إليها. اما الوطنية الفلسطينية ورغم نشوئها في سياق تقليدي محافظ وأميَل الى التدين الاجتماعي فقد اعتمدت على الحداثة السياسية في تشكلها ومأسستها ونزوعها نحو تأكيد هوية قائمة على الرابطة الوطنية، هدفها بناء كيانية فلسطينية، وفي خضم هذا الجهد اختلف استخدامها للدين عن استخدامه من قبل الصهيونية في مستويين: مستوى مركزية الدين في المشروع الوطني ومستوى الوظيفة المُناطة به (اي بالدين).
وفي الوقت الذي احتلت فيه الادعاءات الدينية مركز المشروع الصهيوني خاصة في مسألة ادعاء ملكية فلسطين، فإن الدين والادعاءات الدينية لم تحتل في الوطنية الفلسطينية نفس تلك المركزية في إثبات ملكية فلسطين. اُعتبرت تلك الملكية، من وجهة نظر فلسطينية، تحصيل حاصل ولم يكن ثمة حاجة للذهاب الى الماضي السحيق او استخدام الدين لإثباتها. اما على مستوى الوظيفة، فقد اشتغل الدين في الحركة الصهيونية بشكل مركزي لإثبات الأحقية التاريخية بالأرض وتخليق قومية حديثة ومن ثم اقامة الدولة. أما في الوطنية الفلسطينية فقد تمحورت وظيفة الدين حول استخدامه في الحشد والتعبئة والمقاومة بشكل أساسي. وفي العقود السبعة التي تلت قيام إسرائيل تضخمت مركزية الدين في المشروع الصهيوني وفي الدولة العبرية نفسها، ودخلت الصهيونية السياسية في مسار تدين متصاعد خاصة بعد حرب 1967 وبقي هذا المسار متواصلاً الى يومنا هذا، وتم ابتلاعها بشكل شبه كامل من قبل الصهيونية الدينية. في المقابل، ترسخ في الحركة الفلسطينية مفهوم الوطنية بكونها البوتقة القومية المُشكلة للهوية، وضمن ذلك الترسخ شهدنا تحول التيارات الدينية السياسية الفلسطينية التدريجي نحو تبني الوطنية الفلسطينية وطموحها باقامة دولة فلسطينية، مع الابقاء على الوظيفة المقاومية للدين. والتحول التدريجي الذي شهده أكبر تيار سياسي فلسطيني ديني متمثل في «حماس» يقدم الشاهد الأبرز على هذه السيرورة. وهكذا، فان الصهيونية ودولتها سارت في اتجاه متسارع نحو أصولية دينية بعيدة عن الحداثة السياسية، بينما اتجهت الوطنية الفلسطينية نحو مسار قومي وطني اقرب الى الحداثة السياسية.
ابتداءً، من المهم الإشارة الى أن هذه المقاربة لا تتبنى اية معيارية مُستبطنة تعتبر ان الحداثة عموماً او الحداثة السياسة على وجه التحديد (سواء أكانتا مشروعات مركبة وثابتة، أم سيرورات متغيرة) تمثلان النظام القيمي الأرقى مرتبة بين النظم السياسية والاجتماعية المختلفة التي ينبني عليها قياس وتقييم النظم القيمية الأخرى. وعليه فإن المقارنة بين أفضلية الحداثة ام الدين في السياسة ليس هدف هذا النقاش. لكن المهم هنا هو محاكمة المشروع الصهيوني ومؤيديه الأوروبيين والأميركيين عبر استخدام المعيارية الحداثية المُتبناة من قبل هذه الأطراف جميعا والتي تزعم الصهيونية ومؤيدوها في الغرب امتلاكها والتصرف وفقاً لها. فإبان ظهور بدايات الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، اعتبرت اوروبا ان تبني الحداثة عموماً والحداثة السياسية خصوصاً من قبل الحركات او المجتمعات يمثل امتداداً للمشروع الغربي، وبالتالي يستدعي الدعم والتأييد الفوري. وفي المقابل فان النظرة الأوروبية ذاتها اعتبرت الحركات والشعوب والأفراد الذين لا يتبنون الحداثة او «لا زالوا» خارج نظامها بعيدين من القيم الأوروبية والحضارية، وبالتالي لا يستحقون ذات الدعم والتأييد الذي استحقه الأولون.
على ذلك اعتبرت النظرة الأوروبية في عمومها الصهيونية حركة حداثية تقوم على المبادئ الحديثة للقومية والعلم والتقدم، بينما نُظر للعرب عموماً والفلسطينيين منهم بكونهم جزءاً من الشعوب المتخلفة الغارقة في الأنظمة الماضوية والتقليد والدين. وقد انعكست تلك النظرة الأوروبية العنصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين في سياسات الدول الكبرى تجاه فلسطين (والعرب والعالم غير الغربي إجمالاً)، وتجسدت في السياسة الخارجية البريطانية والفرنسية والروسية والألمانية. وفيما تباينت هذه السياسات فيما بينها حول المصالح والأهداف والحصص في فلسطين وحولها، فانها انطلقت جميعاً من قاعدة عنصرية مشتركة كانت تحتقر عرب فلسطين وتراهم اقل مرتبة واهلية من اليهود الأوروبيين في فلسطين، ولا تلقي لهم بالاً. تمثل ذلك بوضوح في اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، ووعد بلفور بعدها بعام، وخلال مراسلات حسين- مكماهون في نفس الفترة ايضاً. اللورد بلفور لم يخف نظرته العنصرية والدينية (المناقضة لادعاءات الحداثة السياسية التي يزعم تمثيلها) عندما تحدث عن اهل البلاد الأصليين في فلسطين، فقال مبررا دعم المشروع الصهيوني في فلسطين: «في فلسطين لا نقترح حتى الاهتمام برغبات قاطني البلاد الحاليين. القوى الأربعة العظمى مُلتزمة بالصهيونية. (و) الصهيونية، سواء أكانت مصيبة ام خاطئة، جيدة ام سيئة، متجذرة في الارث القديم للماضي الطويل، ومتجذرة في ضرورات الحاضر، ومتجذرة في آمال المستقبل، وهو ما يفوق بأهميته رغبات وتوقعات السبعمائة الف عربي الذين يقطنون تلك الارض القديمة». ولم تكن رؤية بلفور خاصة به شكلت قناعة النخبة السياسية البريطانية ازاء فلسطين والصهيونية قبل وخلال حقبة الانتداب البريطاني، سواء من اليمين او اليسار. وربما يمكن القول ان احد ذرى تلك الرؤية العنصرية الحداثوية تمثلت في تصريح ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني سنة 1937 الذي يشرعن فيه ممارسات الاستعمار في إبادة وطرد السكان الأصليين، حيث يقول: «انا لا أقر ان الكلب الذي يقيم في بيته (بيت الكلب) له الحق النهائي في ذلك البيت، حتى لو كان يعيش فيه لزمن طويل. انا لا أقر، على سبيل المثال، بأن خطأً كبيراً قد وقع على الهنود الحمر في أميركا، او على الشعب الأسود في استراليا. لا أعتقد انه كان للهنود الحمر للقول بأن «القارة الأميركية تعود لنا وأننا لن نقبل بقدوم المستعمرين الأوروبيين». لم يملكوا ذلك الحق ولا القوة. لا أقر بأي خطأ وقع في حق هذه الشعوب بسبب حقيقة ان جنساً أقوى، وان جنساً أرقى منهم، او على أي تقدير ان جنساً اكثر حكمة في معرفة العالم … جاء واخذ مكانهم.» في هذا النص الكاشف عن تجذر العقلية العنصرية الأوروبية ضد «الآخر» هناك افتراض بدهي يعتبر اليهود القادمين من أوروبا جزءاً من مشروعها «الحداثي» وبكونهم ينتمون الى «جنس أرقى» و»أكثر حكمة».
بدورها، تمثلت الصهيونية فكرة تمثيل «الحضارة الغربية» في الشرق المُتخلف واستبطنتها، وقدمت ذاتها بكونها تجسيداً للمشروع الحداثوي الغربي. لكن على الضد من هذه الحداثوية الادعائية، فان الصهيونية استندت في الجوهر الى أركان ودعاوى رجعية دينية وغير حداثية بهدف «إثبات» حق اليهود في إقامة دولة في فلسطين. ولم تستطع ترجمة «القومية الحديثة» كما تفترضها الحداثة السياسية الغربية التي زعمت الانتماء اليها، وهي الفكرة التي تفترض ان الدولة القومية تقوم على ركائز متوراثة ثلاث: الأرض المشتركة، والشعب المُتجانس، واللغة المشتركة. لم يمتلك يهود القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أياً من هذه الركائز الثلاث، وكان على الصهيونية ان تشتغل على تخليقها ولو قسراً. فمن ناحية الارض المشتركة لم يعش اليهود على ارض واحدة متوارثة كما هو معروف، كما ان اللغة كانت التجمعات اليهودية في البلدان الأوروبية تتحدث لغات تلك البلدان، وبعضها يتحدث اليديشية القديمة او العبرية، ومن ناحية التجانس القومي كان هناك انتفاء كامل لهذه السمة بسبب قرون من العيش في مجتمعات مختلفة كما هو حال اتباع اي دين يعيشون في بلاد متباينة من العالم. وبسبب هذا التشتت «الحداثوي» في بناء «قومية حديثة» على الطراز الأوروبي عمدت الصهيونية الى إعادة تعريف اليهود والدين اليهودي على أنهم «شعب» وليسوا فقط اتباع دين، وهو التعريف الذي صارت أوروبا «الحديثة والاستنارية» تتبناه وعلى أساسه تدعم المشروع الصهيوني. ثم استُتبع ذلك بفكرة هجرة اليهود الى «الأرض الموعودة» وهي فكرة خليط بين الأساطير الدينية والبراغماتية السياسية التي تهدف الى التعبئة والحشد.
بيد ان استخدام الصهيونية للدين وبشكل جوهري لم يتوقف عند مسألة تحويره الى قومية مُختلقة ومتخيلة ليهود العالم مُضافاً اليها الادعاء التوراتي بأحقية امتلاك فلسطين، بل تعداه الى مسائل اخرى لا تقل أهمية. اولها توفير التبرير المُقدس لابادة اهل الارض الاصليين وطردهم عبر توظيف مقولات دينية دائماً. وهنا اشتغلت الفكرة اليهودية الدينية بفعالية اقصائية قصوى لتنفي وجود شعب «آخر» في فلسطين، وفي حال وجود أي «أغيار» فان إخراجهم منها يصبح فريضة دينية، لأنها ارض منحت من الرب لـ «نسل إبراهيم» الذين تم حصرهم في سلالة اسحق. لكن وإزاء الحقيقة الواقعية الكبرى بوجود شعب كامل ومتواصل الحياة في فلسطين على مدار قرون مديدة، نشأت تفسيرات عديدة بعضها وصل في غرابته الى حد اعتبار الفلاحيين الفلسطينيين هم أحفاد العبرانيين الذين بقوا في فلسطين لكنهم أسلموا مع الفتح الإسلامي، وهو ما اعتقده ديفيد بن غوريون وتبعه آخرون. ولم تلق فكرة الإبادة والطرد للفلسطينيين من وطنهم معارضة أوروبية، ذلك انها تماشت عمليا مع النهج الاستعماري الأبيض ازاء شعوب البلدان المُستعمرة سواء أكانت مسوغاته «حداثية» أم «دينية». والنقطة المهمة في هذا النقاش أياً كانت اتجاهاته هي الارتكاز الى مقولات دينية صرفة في تسويغ امتلاك الأرض وطرد من عليها وإقامة دولة يهودية خالصة، ولا لعلاقة لمثل هذه السيرورة بأي سيرورات حداثية قومية كتلك التي تطورت في أوروبا. والسيرورة اليهودية الدينية التي مثلت العمود الفقري للصهيونية تقف عمليا على النقيض من الحداثة السياسية المُعلمنة افتراضاً والتي تحييد الدين أو على الأقصى تمنحه مرتبة ثانوية في التكوين القومي للأمم والمجتمعات.

قد يعجبك ايضا