الأردنيون يسقطون حكومة “شيكاغو بويز” والشارع العربي يتلقف الإشارة / سفيان بنحسن




سفيان بنحسن ( تونس ) الخميس 14/6/2018 م …

يقول الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون في كتابه “نصر بلا حرب” الصادر سنة 1988 “إن رياح التغيير في العالم الثالث تكتسب قوة العاصفة وإن الولايات المتحدة لا تستطيع إيقافها لكن بإمكانها المساعدة في تغيير إتجاهها” ويبدو أن الكاتب قد أحسن إستشراف مستقبل منطقتنا العربية تحديدا فأشار إلى أن عروش الحكام ستتهاوى بسبب الهيمنة الإقتصادية التي يرزح تحت نيرها المواطن العربي معتبرا في ذات الإطار أن الفقر هو أقوى وقود للتحركات القادمة. وقدم نيكسون خارطته للنصر في المعركة القادمة من دون أن تخسر أمريكا جنديا واحدا مشددا على ضرورة أن تقدم أمريكا لأصدقائها من حكام ما يسمى بالعالم الثالث المعونات الإقتصادية والسياسية والأمنية على أن تكون تلك المعونات مشروطة تسمح للبيت الأبيض بمراقبة الأداء الإقتصادي والسياسي للدول التي تطلب الدعم.

في واقع الأمر لم تكن الحلول التي قدمها نيكسون حديثة في عالم الإقتصاد السياسي بل إنها مثلت جوهر أهداف صندوق النقد الدولي الذي بعث إلى الوجود مع نهاية الحرب العالمية الثانية بتعلة إيجاد صيغة لضمان إستقرار سعر صرف العملات وهي التعلة التي إنكشف زيفها مع فك إرتباط الدولار بالذهب سنة 1971، فقد برز الصندون كملاذ أخير للدول الباحثة عن التمويل وإستغل حاجة الحكومات الناشئة في الدول حديثة الإستقلال من أجل فرض سياساته الإقتصادية التي تمكنه من تمهيد الطريق أمام السلع والبنوك الأمريكية لغزو العالم، ولعل من المفيد التذكير هنا بأن الولايات المتحدة لم تساند حركات التحرر في إفريقيا وآسيا بدافع الإيمان بحق شعوب تلك المنطقة من العالم في الحرية وإنما فقط ليحل الدولار محل الجنيه الإسترليني أو الفرنك الفرنسي وليدخل العالم رسميا عهد الإمبراطورية الأمريكية التي كانت أبرز مستفيد من الحرب العالمية الثانية، ونصت لوائح الصندوق على ربط “المساعدة المالية” ب”المساندة الفنية” و”المراقبة”، وتفرض الفقرة الثانية أي المساندة الفنية بأن لا يتقلد المناصب الإقتصادية الرفيعة في الدول المدانة إلا رجال صندوق النقد الدولي أو من يحملون فكره ويدافعون عن خططه، أما الفقرة الثالثة أو “الرقابة” فتسمح للصندوق بمراقبة مدى إلتزام هذه الدول بمبادئ الليبرالية الحديثة كالخصخصة والسوق الحر والحد من الإنفاق العام ومن تدخل الدولة في الإقتصاد كمستثمر.

الدول المستدينة تسمح دون وعي منها للإستعمار بالعودة إلى البلاد من نافذة المساعدة الإقتصادية فتجد نفسها بعد أن تغرق في ديون لا خلاص منها تلعب دور حكومة تصريف أعمال تتبع إقتصاديا وسياسيا الإمبراطورية الأمريكية وشبكات البنوك اليهودية العالمية، والدول التي تمكنت من فرض نفسها بمرور الزمن كقوى صاعدة ككوريا الجنوبية أو سنغافورة هي حصرا تلك الدول التي لم تتورط في الإقتراض من الصندوق وحافظت بذلك على حد أدنى من السيادة مكنها من تسخير مقدراتها لدعم الإقتصاد الوطني دون الرضوخ للسوق حر وهو ما يتعارض كليا مع سياسة الليبرالية الحديثة، وكما هي السياسات الكولينيالية عبر العصور فإن إقامة حكومات داخل المستعمرات تهتم أساسا بالجانب الأمني وتكون تابعة إقتصاديا وسياسيا للإمبراطورية المحتلة وهشة غير قابلة للحياة بشكل مستقل هو أقل الطرق تكلفة لإستمرار الإستعمار. ولفرض ديمومة سيطرتها فإن الولايات المتحدة مستعدة للتدخل المباشر لمجابهة السياسات المتمردة التي قد تقدم عليها بعض دول ما يسمى بالعالم الثالث، وتبقى التجربة الشيلية أبرز هذه الأمثلة فبعد وصول “سلفادور اللندي لسدة الحكم وإنتهاجه سياسة مغايرة تماما لمبادئ الليبرالية الحديثة قامت وكالة الإستخبارات الأمريكية بإغتياله بالإستعانة بوزير الدفاع “أوغوستو بينوشيه” الذي سعى لتطبيق سياسات الإقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان وهو من أبرز أبناء مدرسة شيكاغو أو مدرسة النيوليبرالية والداعي إلى جملة من الإجراءات تصب جميعها في خانة إخراج الدولة من لعب أي دور إقتصادي حقيقي وخصخصة الشركات والمدارس والبنوك وخفض الإنفاق الحكومي وتسريح أعداد هائلة من موظفي الدولة وهو ما أدى إلى إرتفاع فلكي في نسب البطالة في هذا البلد من 3 بالمائة في عهد اللندي إلى 22 بالمائة في عهد بينوشيه، وتشكلت حكومة بينوشيه من مجموعة من الخبراء كانوا خريجي قسم الإقتصاد من جامعة شيكاغو قاموا بتطبيق حرفي لسياسات ميلتون فريدمان ورفعوا الدعم عن السلع مما أدى إلى إضمحلال الطبقة الوسطى.

سياسات بينوشيه كانت شبيهة إلى حد ما بسياسات بعض حكام العرب، فبعد أن رفضت مصر شروط البنك الدولي بإشرافه على مراجعة ميزانيتها لتمويل السد العالي وإدراك عبدالناصر لخطورة السياسات الكولينيالية الجيدة جاءت حقبة السادات التي سميت زورا ب”الإنفتاح الإقتصادي” وعرفت بالتوجه نحو السوق الحر والقبول بكل إملاءات النيولبرالية مما أدى لاحقا إلى ظهور طبقة ثرية في البلاد كانت قد إختفت لصالح الطبقة المتوسطة إبان ثورة الضباط الأحرار، وأدت سياسات السادات إلى إندلاع ثورة الخبز سنة 1977 رفضا لمشروع الميزانية الجديد الذي يرفع الدعم عن السلع الأساسية، وإن تراجعت مصر ظاهريا عن المشروع إلا أنها سلكت طريق المرحلية في التطبيق، وكانت أحداث تونس والمغرب سنة 1984 التي عرفت أيضا بإسم “ثورة الخبز” مشابهة حتى التطابق مع الأحداث المصرية ثم تلتها ثورة الخبز بالجزائر سنة 1986 والأردن في سنتي 1989 و 1996

ويعود الأردن اليوم مرة أخرى إلى الواجهة بثورته الشعبية في وجه الإحتلال العصري لإجهاض ما كان يعتقد نيكسون أنه نصر بلا حرب، ومع إصرار هاني الملقي على تطبيق كل إملاءات صندوق النقد الدولي بسن قانون جديد للضريبة وبرفع الأسعار أدركت النقابات أن سقف المطالب يجب أن يتجاوز مراجعة هذه الإجراءات إلى إسقاط الحكومة أو حتى النواب ملوحين ضمنا بعصى العصيان في وجه حكومة شيكاغو بويز، الشارع الأردني كان أكثر نضجا في حراكه الأخير بإستهدافه رأس الحكومة دون منحها فرصة أخرى لإصلاح سياساتها عملا بما قالته العرب قديما “أيرجى بالجراد صلاح قوم ** وقد جبل الجراد على الفساد”.

حكومة الملقي وكل الحكومات العربية التي تلعب دور ممثل لصندوق النقد الدولي هي أشبه بالحكومات زمن الإحتلال المباشر ولا يمكن لها أن تلعب دورا أثناء أو بعد ثورات التحرير، والثوب الجديد للإحتلال يفرض أسلوبا جديدا للمقاومة لا يقل قدسية عن معارك التحرير في القرن الماضي، فإن سمحت الحكومات الوطنية لنفسها بأن تكون أداة بيد الأمريكان وتسهل لهم نهب مقدرات البلد ومصادرة سياساته النقدية فإنها تجعل من رأسها الهدف الأول لثورة الأحرار ، ولعل في قرار الملك بإقالة حكومة الملقي وتعيين الإقتصادي عمر الرزاز يكون الملك قد جنب بلاده الدخول في أزمة سياسية لا يمكن لأحد أن يتنبأ بنهايتها، تحدث الرزاز بلا مساحيق وأعلن أن بلاده تتعرض للإبتزاز من الصندوق ومن وراءه الولايات المتحدة لإبقاء سياسات الملقي الخاضعة للإملاءات كما أقر سحب قانون الضريبة وإعادة دراسته، ولعله يدرك أن الحكومة لن تقف على قدميها إلا بثقة الشعب وإلا فمصيرها الفشل.

الأردن اليوم يثور على أبشع مظاهر الهيمنة الكولينيالية وإنتصاره إن تحقق سيكتب بداية إنهيار الهيمنة الإقتصادية الغربية على مقدرات الأمة ليس في الأردن وحده وإنما في المنطقة العربية وربما كل ما يسمى ب”العالم الثالث” ولعل الحديث عن سعي السعودية والإمارات والكويت لتقديم حزمة من المساعدات الإقتصادية لعمان لا تعادل 10/1 من قيمة الهدايا التي غنمها ترامب في زيارته الشهيرة للرياض هي محاولة من الممالك الخليجية لإجهاض الحراك الشعبي الذي إن نجح فسيطيح حتما بعروشهم الورقية وهم أبرز بيادق الليبرالية الحديثة.

مصلحة الدول الخليجية ومن ورائها الولايات المتحدة أن يبقى الأردن ضعيفا لكن دون أن ينهار، يمنعون عنه الموت بتقديم الفتات ويمنعون عنه الحياة بتكبيله بالإملاءات الجائرة ولعل ما ينتظر هذا البلد من إملاءات يتجاوز المعهود إلى القبول بصفقة القرن وبتوطين الفلسطينيين في وطن بديل، ويبقى الرهان على الشارع العربي وفي مقدمته الشارع الأردني لنسف كل ما يحاك للأمة في غرف البيت الأبيض.

[email protected]

قد يعجبك ايضا