شرق الفرات وحرب التناقضات / موفق محادين

موفق محادين




*كاتب ومحلل سياسي أردني …

وبصرف النظر عن التوجّهات النهائية للغُزاة الأميركان والأتراك، الأميركان سواء بمواصلتهم لعبة الابتزاز المزدوج، أو استعادة تركيا الأطلسية على حساب الكرد، والعثمانيون بالإذعان لسيد الأطلسي أو لشهيّة البرجوازية في غاز أوراسيا الروسية وأسواقها، فإن حال الاضطراب المذكورة بحد ذاتها، تصب في خدمة الحلف السوري – الروسي – الإيراني، وتؤسّس لمحاولات جديدة على مستوى الإقليم وخرائط النفط والغاز واللاعبين الجُدُد في شرق أوسط آخر غير شرق الغرب.

 

يواصل الأتراك لعبتهم ، ويضعون الأميركان بين خيارين: إما الورقة الكردية التكتيكية وإما الورقة التركية الاستراتيجية

كيف تتحدّد قواعد اللعبة وحركة الغُزاة شمال وشرق سوريا، وما هي المُحدّدات التي تحكمهم وتقرّر توجّهاتهم، من مخزون النفط والغاز الذي يُثير شهيّة الشركات الأميركية، إلى استحقاقات صفقة القرن وتمريرها جنوباً، إلى حرب القواطع والبافرستيتات، القاطِع الحدودي الذي يفصل كرد سوريا عن كرد تركيا، والقاطِع الذي تريده أميركا بين إيران وبين سوريا وحزب الله، إلى حرب الاستراتيجيات الكبرى بين المياه الدافِئة وأوراسيا الروسية.

في التفاصيل، وبعد هزيمة (الوكلاء) وشُذّاذ الآفاق المسلّحين من أربع جهات الأرض، تتوالى الغارات الصهيونية، ويدخل الأميركان مباشرة عبر الكرد شمالاً ومرتزقة العشائر جنوباً، وينتظرون ردود الفعل هنا وهناك ولاسيما الحليف التاريخي الأطلسي في أنقرة، الذي يُمثّل وسيبقى الورقة الأساسية في الاستراتيجية الأميركية، التي تربط ما يجري في الشرق الأوسط بما تريده روسيا الأوراسية.

وهنا يواصل الأتراك لعبتهم بالحديد والنار، ويضعون الأميركان بين خيارين أحلاهما مر: إما الورقة الكردية التكتيكية وإما الورقة التركية الاستراتيجية.

الأولى، كورقة تُجسّد تكتيك الفوضى وتمزيق المنطقة وممارسة الابتزاز المزدوج في عموم المنطقة، والثانية كورقة تُفسّر مُجمل السياسة الأميركية الموجّهة ضد روسيا وإيران معاً، ولا بديل فيها عن الانبعاث العثماني، كما اقترحه برنار لويس وبريجنسكي وأقلام الاستخبارات في البنتاغون.

فلا قوّة ولا دولة شرق أوسطية وبلقانية تساوي الورقة التركية وقدرتها واستثماراتها الطائفية في الطوق البشري الذي يحيط بإيران وروسيا، وينتمي في غالبيّته إلى بقايا الجمهوريات السوفياتية (الإسلامية) السابقة.

وهو ما يتطلّب التخلّي الأميركي عن الورقة الكردية شمال وشرق الفرات، كما تخلّت عن أوهام البرزاني المدعوم إسرائيلياً ونفطياً، ومن ثم اعتماد الأتراك مجدّداً كقوّة أطلسية أساسية مُدجّجة بأيديولوجيا الكراهية الأصولية المطلوبة في اللعبة الأميركية المذكورة.

ولم يكن أردوغان خالي الوِفاض تماماً، وهو يُذكّر واشنطن بالأيام الخوالي في العمل المشترك ضد الخصوم المشتركين، فلديه أيضاً مرتزقة من بعض العشائر العربية الجاهزين لأخذ دور الكرد كبافر ستيت أمني-اجتماعي في قلب الهلال الخصيب، وليس بلا معنى إشارته المُتكرّرة لطرد الكرد من قراهم واستبدالهم بمن أسماهم بالسكان الأصليين، ويقصد بذلك شكلاً من الإحلال التركماني والبدوي، صنيعة المخابرات التركية.

بالمقابل، فإن هذا السيناريو، الذي يلقى تجاوباً واسعاً من غالبيّة الأوساط الأديولوجية في الحزب (الإسلاموي) الحاكم الذي تعود جذوره لرجل الأطلسي والبنك الدولي، عدنان مندريس، سيناريو مثقل بالألغام والعقبات ويحمل بذور موته في ثناياه لأكثر من سبب:

1- أن برجوازية الأناضول، التي اخترعت (الإسلام السياسي التركي) الحالي ووجهته نحو الشرق بعد انسداد الأفق الإقتصادي أمامها عبر الاتحاد الأوروبي، لن تضحّي بصفقة القرن التي عرضها الروس على تركيا وفي مقدّمها خط الغاز الروسي، الذي يسوّي حساباتها مع المُمانعة الأوروبية لانخراط تركيا في السوق الأوروبي، ويضع أوروبا برمّتها تحت الابتزاز التركي، كما يدفع هذه البرجوازية خطوات كبيرة إلى الأمام، ولا سيما وأن خط الغاز مرتبط كذلك بالسوق الضخم لدول البريكس.

2- السوق والجغرافيا السياسية الإيرانية، التي تركت آثاراً إيجابية على المصالح التركية، وتقاطعت معها بصدد واحدة من أهم التحسّبات الأمنية، وهي التحسّبات الناجمة عن الحال الكردية.

3- القوّة المُتعاظِمة للخبرة والعدّة والعتاد التي امتلكها الجيش السوري بعد سنوات ضارية في أشرس مواجهة عسكرية عرفتها المنطقة، وحوّلت هذا الجيش وقوى المقاومة من (نموذج حزب الله) إلى واحد من أهم وأصلب القوى المسلّحة المُدرّبة في الشرقين العربي والأوسط، ويعرف الأميركان قبل غيرهم أن سوريا التي ساهمت في ترحيلهم عن لبنان وعن العراق، تمتلك من الإرادة والخبرة، إلى جانب حزب الله وغيره، ما يجعل من الوجود الأميركي والأطلسي مُكلفاً للغاية بوجود حلفاء يملكون الإرادة والمصلحة في ذلك أيضاً، بل أن شبح الرئيس الروسي الأسبق، أندروبوف، الذي تصرّف بعقل رجل الأمن الاستراتيجي وساهم بتجاوز سوريا لمحنة 1982 و1983 (العدوان الصهيوني الخارجي على الجيش السوري في لبنان، والإرهاب الإصولي في الداخل) عاد بقوّة عبر بوتين وترسانة الأسلحة المفتوحة بين موسكو وحميميم.

أخيراً، وبصرف النظر عن التوجّهات النهائية للغُزاة الأميركان والأتراك، الأميركان سواء بمواصلتهم لعبة الابتزاز المزدوج، أو استعادة تركيا الأطلسية على حساب الكرد، والعثمانيون بالإذعان لسيد الأطلسي أو لشهيّة البرجوازية في غاز أوراسيا الروسية وأسواقها، فإن حال الاضطراب المذكورة بحد ذاتها، تصب في خدمة الحلف السوري – الروسي – الإيراني، وتؤسّس لمحاولات جديدة على مستوى الإقليم وخرائط النفط والغاز واللاعبين الجُدُد في شرق أوسط آخر غير شرق الغرب.

قد يعجبك ايضا