الأردن بين بكاء العزلة وانتظار الفوضى / جورج حدادين




 جورج حدادين ( الأردن ) السبت 30/12/2017 م …

“المبادرة الوطنية الأردنية”

المقصود بالعزلة، كما تفهمها القيادة السياسية والاقتصادية والأمنية في الأردن، هو بالضبط حجز المساعدات العربية والأجنبية، والتي تعتبر ركيزة أساس بالنسبة لقوى التبعية: في الحكم وفي السوق وفي صفوف النخب، لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، منذ أن فرضها الانتداب البريطاني نهجاً وقانوناً، مطلع القرن الماضي، وبعد إنفاذ معاهدة ” سايكس – بيكو” ووعد بلفور، الذي كان الأردن جزءاً منه، حيث تم إخراج “شرق الأردن” من هذا الوعد، بناء على مراجعة في الإستراتيجية قام بها مجموعة من الخبراء والباحثين الانكليز، وصلت إلى نتيجة مفادها ، أن الأردن أهم عقدة جيو سياسية في المنطقة، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وبناء على هذه الرؤية الجيو سياسية تم ربط الأردن بالاستعمار البريطاني المباشر، عبر معاهدة الانتداب، ومن ثم بالهيمنة الأمريكية عبر: مشروع النقطة الرابعة وصندوق النقد والبنك الدوليين، ضمن قانون التبعية، وحصل توافق محلي وإقليمي ودولي، على المحافظة على بنية ووظيفة هذه الدولة، توافق بين ” الدول التقدمية والدول الرجعية العربية” ، وبين منظومة المعسكر الرأسمالي مع منظومة الدول الاشتراكية، ومع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية الأردنية.
قاد هذا التوافق إلى حجز التطور الطبيعي للأردن، حيث تم حجز بناء المجتمع الأردني المندمج المنتج، وأبقى على حالة كافة المنابت والأصول متساكنة، على هذه الأرض، ولكنها غير مندمجة، وتم حجز تطور دولة منتجة مستقلة، معتمدة على الذات.
وللأسف الشديد، شاركت النخب الأردنية والفلسطينية والعربية على وجه العموم، بوعي أو بدون وعي، في تأبيد مصير الأردن هذا. وساهمت هذه النخب بنشر دعاية غبية غير موضوعية، حول بنية دولة بدوية، وشعب بدوي بلا تاريخ، علماً بأن صيرورة الحضارة في الأردن، ومحطات التحولات الكبرى التي حصلت في المنطقة، جرت على الأرض الأردنية، ومنها انطلقت إلى عموم المنطقة: منذ العصر الحجري، حيث الانتقال من عصر “الصيادين اللمّامين” إلى “العصر الزراعي”، ومن ثم إلى “العصر البرونزي” ، من خلال صهر النحاس في وادي عربة قبل سبعة آلاف عام، وعلى أرضية هذا الحدث التاريخي نشأت الحضارة الكنعانية . ليس المقصود بسرد هذه الأحداث، دحض مقولة البدو، بل المقصود لفت انتباه النخبة الأردنية والفلسطينية والعربية، إلى الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة منذ فجر التاريخ، التي “أنتبه لها الغرب بينما غابت عن العرب”.
عود على بدء
بكاء العزلة هذا، الذي تروج له وسائل إعلام: أردنية وعربية وعالمية، ما هو إلا مقدمة لإنفاذ مشروع ” صدمة العصر” الذي يهدف إلى:
• تصفية القضية الفلسطينية من خلال: أولاً إسقاط حق العودة ومن ثم الاعتراف بيهودية الدولة، وما يتبع ذلك من تهجير الفلسطينيين من أرضهم , ” كافة الأرض الفلسطينية بلا استثناء” بأساليب خبيثة ومتعددة، وصولاً إلى الاعتراف بالأمر الواقع من قبل النظام الرسمي العربي، الذي يراهن عليه المركز الرأسمالي العالمي والصهاينة.
• تفكيك الدولة الأردنية وتفتيت المجتمع الأردني، حيث مجمل إجراءات اتخذت، منذ ثمانينات القرن الماضي، تصب في خدمة هذا الهدف، حيث تم فرض إنفاذ توافقات واشنطن المتمثلة: في خصخصة القطاع العام، الذي كان يقوم بدور الراعي الاجتماعي، ورفع يد الدولة عن التدخل في السوق، وهو ما قاد إلى سيطرة قلة قليلة على ثروات الدولة والمجتمع، وفاقم الفروق بين الأغنياء والفقراء، فأزداد الأغنياء غنى والفقراء فقراً، وتمادت مجموعة التبعية بالسطو على المال العام دون محاسبة، وتعمقت النزعات البدائية في المجتمع ونمت الثقافة الظلامية، وهي معطيات وعناصر تمهد الطريق أمام قيام الفوضى ومن ثم الانفجار.
• التمهيد لإعلان ولادة محور سعودي إماراتي ” إسرائيلي” أمريكي، يضم بقية دول ” الاعتدال العربي” ومن ضمنها الأردن، مقابل محور المقاومة، والرهان على توافق روسي أمريكي بهذا الشأن، ينطلق من شرعنة هذين المحورين، وإعتراف متبادل.
• البدء في إنفاذ رؤية محمد بن سلمان “2030” وتعميمها على بقية دول المحور، والتي في جوهرها تخدم، إخضاع هذه الدول لسيطرة الطغمة المالية العالمية بلا شروط.
تجهد القيادة السياسية الأردنية ذاتها في تسويق مقولة ” الأردن المعزول” بشكل بكائي درامي، ومن أجل ذلك توظف الإعلام، وتوظف نخباً تابعة لها من سياسيين، معارضة وموالاة وكبار الموظفين ووجهاء وأكاديميين…الخ ، من أجل تسويق هذه المقولة، في المقابل، لم تقم هذه القيادة بأي عمل جدي وحقيقي من أجل صياغة مشروع مقاوم لهذا المخطط القادم على البلد، لا بل بدون جدية في البحث عن البديل لمشروع البكاء والعويل هذا، لماذا؟.
هل يعقل أن هذا ما يسعى إليه فعلاً هذا المحور؟.
العزلة المفروضة هي من صنع الحلفاء: محور السعودية – الإمارات العربية – ” إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، القائم على حجز المساعدات، أي المس بجوهر نهج القيادة السياسية والاقتصادية لقوى التبعية، فهل هذا ما يسعى أليه هذا المحور، المساس بهذا المبدأ المستقر منذ تأسيس الإمارة، هل يعقل؟ هذا المبدأ القائم على إدارة شؤون الدولة والمجتمع بالاعتماد على المساعدات الخارجية.
أن التغييب الممنهج لدور الاقتصاد الوطني المنتج في بناء الدولة الوطنية المنتجة المنيعة، هو جوهر قانون التبعية، فما هي التحولات التاريخية التي تفرض القفز عن هذا القانون؟.

هذا البكاء على العزلة هو في الجوهر نتيجة ، وليس سبباً، نتيجة النهج الذي تسير عليه، منذ تأسيس الإمارة إلى اليوم، القيادة السياسية والقيادة الاقتصادية، نهج التبعية، وغياب مبدأ الاعتماد على الذات، الذي يعني تنمية قوى الإنتاج الوطني، وبناء الدولة المنتجة والمجتمع المنتج المعافى، الدولة القادرة على مجابهة كافة المخططات التي تحاك ضدها، ضد الوطن وضد الأمة .
الاعتماد على الذات، لا يعني ولا بأي شكل، تحميل الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة: عمالاً وفلاحين وصغار الكسبة وصغار الموظفين ، ومربي المواشي وصغار المزارعين والفقراء والمعوزين، عبء الأزمة التي ينتجها باستمرار وبشكل دوري هذا النهج ، وليس كما تفهمه وتصوره قوى التبعية في الحكم وفي صفوف النخب، وتطلق عليه زيفاً وعن سابق إصرار”نهج الاعتماد على الذات”، بل إن هذا الإصرار على السير في هذا النهج هو الذي يقود حتما للفوضى.

لم يعد ينطلي على شعبنا مثل هذه الترهات، ولم يعد شعبنا الأردني يتحمل مثل هذا النهج
.
يبدو أن البلد يتجه نحو الفوضى، ولا تمتلك القيادة السياسية ولا القيادة الاقتصادية ولا القيادة الأمنية، أي مشروع لمجابهة هذه الفوضى التي تأتي في سياق الفوضى الخلاقة الأمريكية، وفي سياق ترتيبات ” صفقة العصر” .

انتبهوا يا أبناء الأردن:
لا يجب أن يتحمل مجتمعنا، وخاصة الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة، عبء الدور الوظيفي، الذي تقوم به هذه الدولة الريعية التابعة ، لصالح مشروع المركز الرأسمالي العالمي ، وعلى الضد من مصالح شعبنا وأمتنا.
يجب رفض ومقاومة الابتزاز الذي يمارسه هذا المحور: العربي المعتدل – الصهيوني – الأمريكي من الخارج، وقوى التبعية في الحكم وفي السوق وفي صفوف النخب من الداخل، على مجتمعنا.

ليس لديكم وطن آخر، وليس لديكم مستقبل خارج هذا الوطن.
لا تركنوا إلى قدرة هذه القيادة على حماية وطنكم، لأن نهجها هو الذي أوصل البلد إلى هذه الحالة البائسة.
لا تنجروا إلى مخطط الفوضى، وحافظوا على وحدتكم، وحدة كافة أبناء هذا البلد بلا تمييز، لأن المخطط يستهدف الجميع بلا تمييز.
من يقترف جريمة التمييز بين أبناء هذا البلد، على أسس طائفية، عشائرية، إقليمية، مناطقية، بوعي أو بغير وعي ، يخدم مخطط الفوضى وتفكيك الدولة وتفتيت المجتمع.
التمييز خيانة، ويجب تجريمها قانونياً وثقافياً واجتماعياً، هي جريمة موصوفة وليست وجهة نظر.

في المحصلة، ما زال التوافق المحلي والإقليمي والدولي، بخصوص أمن الأردن قائماً، وهذا “البكاء على العزلة” لا يخدم سوى ابتزاز مجتمعنا الأردني، وخاصة الشرائح الوطنية الكادحة والمنتجة، لإرغامها على دفع أثمان الدور الوظيفي ، الذي تقوم به مجموعة التبعية، لصالح المركز الرأسمالي العالمي.

ما تزال مهمة بناء حركة تحرر وطني وعربي، هي المهمة الرئيس لمجابهة مشروع ” صفعة العصر” وكافة مشاريع المركز الرأسمالي العالمي ، المعادية لشعبنا الأردني وأمتنا العربية.

” كلكم للوطن والوطن لكم”

قد يعجبك ايضا