قراءة في المقابلة التلفزيونية مع الحريري في الرياض ! / د. بهيج سكاكيني

د. بهيج سكاكيني

 




المقابلة التلفزيونية التي أجراها الحريري من الرياض مع بولا يعقوبيان من تلفزيون تيار المستقبل وبطاقم سعودي كامل من التصوير الى الإخراج والمونتاج كان الغرض منها تبيان للرأي العام اللبناني على وجه الخصوص ان الحريري حر طليق وكل ما نشر من اخبار من انه تحت الإقامة الجبرية وممنوع من مغادرة الأراضي السعودية الى لبنان أو غيرها من الدول ليس صحيحا. وكان الأفضل ان لا تعقد هذه المقابلة لان من تتبعها يرى بوضوح أنها أكدت ان الحريري محتجز وأنه لا ينطق الا بما أرادته السعودية وإن كانت بلهجة هادئة وبلغة وتعابير غير داعشية مثل قطع الايادي …الخ.

الحريري بدأ وكأنه تحت تأثير مخدرات أو إنسان قد حرم من النوم لعدة أيام وتعابير وجهه كانت تدلل على بؤس وإرهاق وتعب بالإضافة غابت عنه الطلة المعهودة في المظهر والملبس المشهور بها. وكان بين الحين والأخر ينظر الى الجوانب وكأن هناك من يلقنه أو يحاسبه على الكلام الذي ينطق به. لا تعبير في وجهه سوى تعبير من يجلس على طاولة تحقيق بالإضافة الى كل ذلك اختفى أي مظهر من مظاهر الذي من الممكن ان يدلل على انه في مكتبه او في قصره والسؤال المطروح أين أجريت هذه المقابلة يا هل ترى مع الصحفية المؤيدة لكل المواقف السعودية فيما يتعلق في لبنان؟؟؟

الحريري يدعي ان استقالته أتت على خلفية أن لبنان لم ينأى بنفسه عما يدور في سوريا. وطبعا المقصود هو دخول حزب الله الى سوريا لمحاربة الإرهابيين. ما نريد ان نذكر السيد الحريري بأن من لم ينأى بنفسه منذ البداية هو انت شخصيا وتيار المستقبل بأكمله فقد كنتم السباقين في هذا ومنذ بداية الازمة. وكنتم قد ارسلتم من ينوب عنكم الى غرفة العمليات في تركيا على الحدود السورية وقمتم مشكورين بدفع الملايين من الأوراق الخضراء لشراء وتأمين “البطانيات!!!” و”علب حليب النيدو!!!” لـ “الشعب السوري!!!” عندما كانت امبراطوريتك بصحة وعافية وقبل ان يحل عليك الغضب السعودي عليك. واللي يبدو إنك أصبت بالزهايمر وانتقلت اليك العدوى اليك من “مضيفك” الم تقل إنك لن تعود الى بيروت الا من مطار دمشق؟؟؟ ما نود تأكيده هنا ان تدخلكم في سوريا ومنذ بداية الاحداث لم يكن بالتنسيق أو بإذن من الحكومة السورية وأنكم نصبتم أنفسكم ومنذ البداية المدافعين عن المجموعات الإرهابية وضمنتم لهم الحضن الدافىء والبيئة الحاضنة حتى في ربوع بيروت ووفرتم لهم كل أنواع الدعم السياسي بحكم أنهم “المعارضة المعتدلة” وما ظاهرة الشيخ الأسير وكلابه من الإرهابيين الا دلالة على هذا الدعم التي قام تياركم المعهود لهذه المجموعات ولن ينسى لكم الشعب اللبناني قبل السوري دعمكم للمجموعات الإرهابية في عرسال وجرودها والتي أدت في نهاية المطاف الى خطف واستشهاد عدد من الجنود اللبنانيين. والتباهي والتبجح بتدخلك في سوريا واعتبار هذا “وسام شرف على صدري” ما هو الا وسام الخسة والتآمر على تدمير دولة عربية وطنية والمشاركة في قتل مئات الالاف من الأبرياء من أطفال ونساء في سوريا.

من الواضح وعلى ما يبدو أن هنالك بعض التراجع في التصرفات السعودية الهوجاء والغير مسؤولة والذي ارادت ان تعبر عنه من خلال السماح للحريري بإجراء المقابلة الصحفية الفاشلة مع تلفزيون المستقبل. ونحن هنا لا نريد ان نناقش ما ورد فيه في الشكل والمضمون والذي عبرنا عن بعض ذلك في الفقرات التي سبقت والتي دللت على انها كانت مقابلة محكومة ومراقبة بشكل شديد. ولكن نريد ان نشير الى بعض الأسباب التي دعت السعودية الى “رفع” بعض الضغوطات عن الحريري أو على الأقل إعطاء الانطباع أنها بصدد ذلك لإنهاء الازمة.

أولا:- موقف اللبنانيين جميعا بكافة تياراتهم السياسي والطائفية والمذهبية وخلفهم كل الشعب اللبناني وبغض النظر عن تأييدهم للحريري وخطه السياسي ام لا فجميعهم وقفوا وقفة رجل واحد وطالبوا بعودة رئيس وزراءهم فورا لان احتجازه اعتبر تعدي على كرامة لبنان وعلى سيادته وعدم احترام للشعب اللبناني بأكمله من حيث ممارسته حقه الديمقراطي في خياراته السياسية.

ثانيا:- الموقف الصلب والمبدئي والثابت الذي تمسك به رئيس الجمهورية الجنرال عون وادارته للمعركة الوطنية والسياسية والدبلوماسية على المستوى الإقليمي والعالمي والتي تميزت بالهدوء والحكمة البالغة في التعاطي مع هذه الازمة. ومما لا شك فيه أن هذا أكسبه احتراما واسعا ضمن جميع الفرقاء اللبنانيين وأثبت من خلال ادارته لهذه الازمة انه رئيس قادر ومتميز وممثل لكل الشعب اللبناني. وهذا الموقف المبدئي أسقط أيضا كل الرهانات على إحداث اية شروخ في المجتمع اللبناني الذي قد يفسح المجال لدخول لقوى الظلام من ثغرات في هذا المجتمع الذي تماسك ووقف خلف الرئاسة الشرعية وأيد الخطوات التي اتخذت لحل الازمة. بالإضافة الى ذلك ونتيجة فشل الوساطات الإقليمية والدولية فقد أبلغ الرئيس عون وبصرامة دبلوماسي الدول الغربية والعربية انه سينتظر أسبوع فقط وفي حالة عدم إيجاد أجوبة من السعودية حول مصير الحريري وعودته الى لبنان فإنه سيقوم برفع القضية الى مجلس الامن الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة والمحافل الدولية.

ثالثا:- الموقف المتشدد للطائفة السنية في لبنان حيال اختطاف ممثلها الأكبر في الحكومة اللبنانية حيث رأت الطائفة الكريمة ان ما قامت فيه السعودية هو تعدي عليها وتعدي على من يمثلها في لبنان. وربما تصريح وزير الداخلية نهاد مشنوق “” نحن لسنا قطيع غنم ولا قطعة أرض تنتقل ملكيتها من شخص إلى أخر …في لبنان الأمور تحصل بالانتخابات وليس المبايعات (مثل السعودية)“. جاء ليعبر عن غضب القيادات السنية التي رات ان القيادة السعودية التي تدعي أنها “المناصر والحامي” لهل قد ضربتها بخنجر من

الخلف، كما انه جاء ليمثل الغضب العارم وحالة الغليان في الشارع السني الذي لم تعد قياداته ضمان التحكم به والسيطرة عليه وكانت كل الدلائل تشير الى ان الطائفة الكريمة ستدعو الى الخروج الى الشارع تأييدا للحريري وضد القيادة السعودية. ولو ترك الامر الى هذه الدرجة كان من الممكن أن يمثل هذا طلاقا كاثوليكيا بين سنة لبنان والسعودية.

رابعا:- لا شك ان الخطاب الذي القاه السيد حسن نصرالله مباشرة بعد عملية اختطاف الحريري قد ساهم مساهمة كبيرة وهامة في طمأنة اللبنانيون والشارع اللبناني من حملات التهويل الذي كانت بعض الأطراف التي تصطاد في المياه العكر وكتبة السلاطين والصحافة الامريكية للمحافظين الجدد ترويجها وبث الرعب والخوف لدى الشعب اللبناني لما قد يحدثه بيان استقالة الحريري والغضب السعودي من ارتدادات على الساحة اللبنانية والإقليمية. ولقد لعب الخطاب الهادئ وما جاء فيه دورا محوريا في اسقاط المخطط الذي كان يأمل في إحداث الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة في لبنان. ويجدر ان ننوه هنا الى ان دعوة السعودية والامارات والبحرين بالإضافة الى الكويت لكل مواطنيهم بمغادرة لبنان وفورا كان من شأنه ترويع الشعب اللبناني بأن هنالك حدث جلل قادم لا محالة الى الساحة اللبنانية. بالإضافة الى ذلك كانت احدى الأهداف هي ضرب الاستقرار الاقتصادي والليرة اللبنانية وتشجيع سحب الأرصدة من البنوك اللبنانية ولكن كل هذا لم يحصل لتماسك الشعب اللبناني وعدم الاستجابة لحملة زرع الرعب والخوف في نفوس اللبنانيين.

خامسا:- الفشل السعودي في استدعاء عائلة الحريري الى الرياض ومبايعة بهاء الحريري لرئاسة الوزراء في لبنان بدلا من أخيه الشيخ سعد وقد رفضت العائلة قبول هذه الدعوة ورفضت عملية الاستبدال هذه ورأت فيها إهانة لهذه العائلة كما هي إهانة لكرامة لبنان.

سادسا:- الرفض الإقليمي والدولي للخطوة التي أخذتها السعودية واعتبارها نوع من القرصنة واعتداء على سيادة لبنان وفتح الطريق الى زعزعة الاستقرار اللبناني وضرب التوازن الموجود على الساحة اللبنانية. ولقد قامت كل من مصر والأردن والرئيس عباس في محاولة لثني الأمير محمد بن سلمان ولي العهد عما قام به حيال الحريري دون جدوى. وكذلك قامت كل من بريطانيا وفرنسا في محاولة للتدخل ومعرفة مصير الحريري دون جدوى ولم يسمح لهم بمقابلة الحريري شخصيا وحتى عندما قوبل من قبل السفير الفرنسي كان هنالك في نفس الغرفة ستة من عناصر الامن والمخابرات السعودية. وعندما وصلت الاحتجاجات الإقليمية والدولية الى أوجها دون الحصول على نتيجة وإصرار القيادة السعودية على الكذبة الإعلامية التي حاولت ترويجها من ان الحريري ليس تحت الإقامة الجبرية وعلى انه حر طليق كان لا بد من تدخل الإدارة الامريكية التي بقيت متفرجة الى حد كبير على الاحداث لا بل وأبدت في البداية الدعم لما كان يقوم به الأمير محمد بن سلمان والقول على لسان الرئيس ترامب انه يثق بالقيادة السعودية وبما تقوم به وخاصة في نطاق مصادرة أموال الأثرياء السعوديون علما بأنه سيحصل على نصيبه من هذه المليارات المصادرة.

ولكن صمود الداخل اللبناني وتكاتف جميع مكوناته خلف الرئيس عون ورئيس الوزراء الحريري الى جانب قطع الطريق على الفتنة المذهبية والتحريض على حزب الله الى جانب الرفض الأوروبي لما حدث بالنسبة للحريري شكل ضغطا على الطرف الأمريكي. ومن الضروري ان ندرك ان المحافظين الجدد في الإدارة الامريكية الى جانب أطراف إقليمية وخاصة السعودية كانت تسعى لزلزلة الاستقرار اللبناني ولكنها فشلت في ذلك. ومن هنا تحركت الإدارة الامريكية للضغط على الأمير محمد بن سلمان لكي يخفف من حدة المواقف التي اتخذها في السعودية وخاصة فيما يخص الحريري وسمعنا تصريحات من الخارجية الامريكية حول ضمان الاستقرار في لبنان. وكان من الملفت للنظر الغاء الزيارة المرتقبة للوزير السعودي سبهان لواشنطن وهو الذي تسلم تأجيج الموقف منذ البداية والذي ترجم بما تلفظ به من تهديدات علنية بإشعال الساحة اللبنانية.

وأشارت بعض المصادر الغربية ان تصرفات الأمير قد تعدت الكثير من الخطوط الحمر المرسومة له من قبل الإدارة الامريكية. ويذكر البعض ان الأمير تجاوز الخارجية الامريكية وكذلك أجهزة المخابرات وخاصة سي أي إيه والبنتاغون أيضا واقتصرت كل اتصالاته مع صهر ترامب كوشنير رئيس مستشاريه الصهيوني بامتياز. وكان ولي العهد السعودي يعتقد انه قد حصل على التفويض بعمل كل ما يريده بالتنسيق مع المحافظين الجدد في الإدارة الامريكية وخارجها.

لكل هذه الأسباب مجتمعة وربما يكون أكثر من ذلك يبدو ان السعودية بدأت بالنزول عن الشجرة تدريجيا بما يخص الموقف من الرئيس الحريري او هكذا يبدو. ولا شك ان الأيام القليلة القادمة ستكشف إذا ما كان هذا فعلا هو الموقف السعودي ام انها تفعل ذلك للتخفيف من الضغوط التي تتعرض اليها. وسنرى إذا ما كانت السعودية ستسمح للحريري بالعودة الى لبنان وتحت أية شروط وربما إذا ما عاد الى لبنان كما صرح في المقابلة التلفزيونية ستتضح الأمور لأنها ما زالت ضبابية ويكتنفها الغموض لغاية الان والكثير مما قيل وما زال لا يعدو كونه تكهنات وافتراضيات ولكن الشيء المؤكد هو ان الحريري قد اختطف وأنه ما زال تحت الإقامة الجبرية وليس حرا في تحركاته كما يدعي الطرف السعودي.

وفي النهاية نود ان نؤكد انه على الرغم من التراجع الظاهري لمخطط تفجير الوضع في لبنان من الداخل وفشل المخطط في إثارة الفتنة المذهبية كوسيلة لضرب الاستقرار في لبنان كجزء من محاربة حزب الله فإن هذا المخطط ما زال قائما وعلى لبنان وأجهزته الأمنية خاصة الحذر من خطوة قد تكون قادمة. مخطط تلعب فيه داعش والقاعدة اللعبة القذرة في الداخل اللبناني بعد ان فشلت هذه المخططات في الكثير من البؤر في الإقليم.

قد يعجبك ايضا