الأولوية لإعادة بناء المجتمع والإنسان الفلسطني / د. عبد الستار قاسم

د. عبد الستار قاسم ( فلسطين ) الأربعاء 18/10/2017 م …




الأمم لا تنهض إلا بالإنسان الحر الواثق من نفسه وبنفسه والمتميز بأخلاق سامية لأنه هو الذي يستطيع تقييم الأمور بصورة علمية هادئة ووفق رؤية متكاملة بعيدة النظر ومن ثم إدارتها وفق معايير مهنية تضع المصلحة العامة وإقامة العدل دائما نصب عينيها. لقد حرصت الأمم المتقدمة والمتطورة على بناء الإنسان صاحب التفكير العلمي والحر لكي يكون ناشطا في مجتمعه ومساهما قويا في عملية التقدم والبناء، ومنحته الحب والدفء وحافظت عليه من الغبن والاستغلال والضعة والهوان، وحرصت على حقوقه ضد التمييز والاستبداد والملاحقات. أما الأمم التي فشلت في تقدير الإنسان واحترامه والمحافظة على كرامته مثل الأمة العربية فباءت عبر السنوات بالفشل والذل والخنوع وضياع الهدف وغياب التخطيط القويم والنهوض. الإنسان هو أساس البناء، وإذا غاب غاب البناء ومواجهة التحديات.

نحن في الساحة الفلسطينية نعاني من التفتت الاجتماعي والانهيار الأخلاقي ما يؤدي إلى غياب قيم العمل الجماعي والتعاون المتبادل، وإلى تجذير علاقات مجتمعية تقوم على الشك المتبادل دون الثقة المتبادلة. وإذا سادت علاقات الشك المتبادل في أي مجتمع فإن قدرة ذلك المجتمع على مواجهة التحديات وتحقيق الإنجازات تصبح مشلولة. ونحن نعاني من ثلاث أزمات خانقة وقاتلة وهي أزمة الشرعية وأزمة الهوية وأزمة التوزيع التي تعني غياب العدل وسيادة الظلم. نحن نعاني من أخلاق الوساطات والمحسوبيات والعنصرية في التعامل مع الجمهور بحيث أن هذا يرث وهذا لا يرث، وهذا يُمنح وهذا يُمنع. هناك تمييز فاحش بين المواطنين، وهذا جرم كبير.

والمجتمع تسوده أمراض اجتماعية كثيرة الآن وتزداد حدتها مع الأيام مثل انتشار المخدرات، وظاهرة الطوشات بين العائلات، وظواهر مصاحبة لانتشار سلاح الزعران الذي يمارس الإرهاب ضد الناس ويُستعمل لتحصيل الخاوات والابتزاز والقتل أحيانا، وكذلك ظاهرة انتهاك الحرمات سواء على مستوى الممتلكات أو الأعراض وانتهاك القوانين بخاصة من قبل المسؤولين. هذه ظواهر مجتمعية تخريبية تؤدي إلى تفكك المجتمع وتنتهي إلى الضعف والهوان. هذا ناهيك عن غياب الحرص على الوضع الاقتصادي الذي يحول الناس إلى متوسلين ومتسولين ويدفعهم نحو المزيد من العجز والكسل والاعتماد على الآخرين بخاصة الأعداء والباحثين عن نفوذ في فلسطين.

وعلى المستوى الفردي، هناك تدهور في المستوى الأخلاقي، إذ جرى تدمير المنظومة القيمية الوطنية الفلسطينية علبى مدى السنوات، وتم الهجوم على المنظومة القيمية الأخلاقية عموما بحيث تقلص الاحترام بين الناس وأخذت تسود العنجهية والفهلوية والاستهتنار بالمصالح العامة. المستوى التعليمي في الجامعات والمدارس أصيب بخلل كبير، ومستوى المسؤولية تجاه المجتمع هبط بصورة خطيرة، وسادت قيم الفهلوة والزعرنة والاستهتار إلى حد يثير الرعب ويدعو إلى الاستنفار. ولا مفر أمامنا إلا تطوير برامج تعليمية وتربوية وثقافية وإعلامية وسياسية لإعادة اللحمة الأخلاقية للفرد ليصبح فاعلا مفيدا لمجتمعه.

وعلى مستوى الفصائل، مطلوب منها أن تتخلى عن عنصريتها وفئويتها وعصبويتها وقبليتها واستهتارها بالمصالح الوطنية. مطلوب منها تطوير قيم الانضباط واحترام الناس والتوقف عن التلاعب بالمصالح العامة لصالح المصالح الخاصة. لقد نقلت الفصائل استهتارها بالمصالح العامة إلى الأفراد إلى حد أن تراجع الهمّ الوطني في النفوس لصالح الهموم الخاصة. ولهذا مطلوب منا جميعا تطوير ميثاق وطني فلسطيني يرسم طريقا تعيد للمجتمع تماسكه وتكافله وتضامنه، وللفرد تماسكه الأخلاقي وينمي فيه التفكير الحر والعلمي لكي يكسب الثقة بنفسه وبمن حوله عساه يستعيد قيم العمل معا. الإنسان الهابط لن ينتج عنه سوى الهبوط.

حصلت مصالحة ومن المفروض أن تتطور إلى وحدة وطنية فلسطينية. ومجمل ما سمعناه حتى الآن من ترتيبات تتعلق بعلاقات فصائلية وليس ببناء مجتمعي وإنساني. والعلاقات الفصائلية لن تستقيم إلا ببناء أخلاقي مجتمعي راسخ يقوم على منظومة قيمية صلبة تسيطر على سلوكيات وتصرفات القيادات أولا والجمهور ثانيا.

قد يعجبك ايضا