الآباء المؤسسون للشيوعية يقتحمون السينما … كارل ماركس الشاب يستعرض أفكاراً غيّرت العالم

 

الخميس 9/3/2017 م …

الأردن العربي – جِسيكا كيانغ

الآباء المؤسسون للشيوعية يقتحمون السينماكارل ماركس الشاب يستعرض أفكاراً غيّرت العالم

تشكل مشاهدة فيلم “كارل ماركس الشاب” للمخرج راؤول بَك، بكل ما فيه من طابعٍ بديع، وما تضمنه من تمثيل متقن، ونية مخلصة في تنفيذه، أمرا ذا مذاقٍ حلو ومر في آن واحد، لاسيما وأننا نشاهده وقد علمنا ما الذي ستؤول إليه الأحداث اللاحقة له تاريخياً.

ولا تمثل مشاهدة العمل أمرا عسيرا. فذكاء المخرج وقدرته على تقديم فيلمٍ سينمائي محكم من العوامل التي لم تدع الفيلم يصبح مجرد نقاشاتٍ سياسية غامضة، وأضفت الكثير من الحيوية على موضوع عتيقٍ من نوعه، يشبه مخطوطةً ثمينة باتت مشبعة بالرطوبة والعفن من طول تخزينها.

فقد قدم الفيلم أفكاره على نحوٍ يسهل فهمه، بل وأضفى عليها أحيانا، وبشكل علمي، طابعا مثيرا كذلك، واضعا إياها في سياقها (بإخلاصٍ حرفيٍ إلى حد مفرط، عبر وضع عناوين فرعية تخبرنا مرارا وتكرارا بالمكان الذي تدور فيه الأحداث، وبتوقيتها بالشهر والعام أيضاً).

رغم ذلك، فربما يجد أي شخص لديه معرفةٌ معقولة بالتطورات التاريخية التي أعقبت الأحداث التي رواها الفيلم، أن قدرته على الاستمتاع بالتصاعد الانفعالي للقصة قد ضعفت قليلاً.

فليس من الضروري أن تُنحي باللائمة على ماركس شخصياً في الفظائع التي ارتكبتها الشيوعية في القرن العشرين، لكي تجد أن من العسير عليك أن تتحمس – دون مشكلات أو غضاضة – للحظات التي واكبت ميلاد الكتيب الذي شارك هذا الرجل في تأليفه، وشكّل أحد الأصول الفكرية الأولى الأكثر تأثيرا لهذه الأيديولوجية.

فـ”البيان الشيوعي” الذي كُتب عام 1848على يد ماركس (الذي يجسد شخصيته في الفيلم الألماني أوغوست دييل) وفردريش إنغلز (يؤدي دوره الممثل الألماني شتيفان كونارسكه) شكل كتيبا استعرض الأفكار الأساسية التي سيقضي ماركس باقي سنوات عمره في إضافة مزيد من التفاصيل والمعلومات إليها من خلال كتاب “رأس المال”، الذي يمثل تحفته التي لم تكتمل أبدا.

رغم ذلك، لا يتطرق العمل الملحمي الذي أخرجه “بَك” إلى ذلك الكتاب الأخير، إذ أن العمل يصل إلى ذروته مع طباعة “البيان الشيوعي”، في ما يبدو أشبه بإطلاق المدفعية نيرانها بشكل متزامن واحتفالي، ابتهاجاً بانتصار ثورة لم تكن قد اندلعت بعد عندما طُبع هذا الكتيب.

وبفضل النطاق الزمني المحدود الذي تركز عليه الأحداث؛ كان بوسع المخرج “بَك” وباسكال بونيتسر الذي ساعده في كتابة السيناريو، استغلال مدة الفيلم التي بلغت ساعتين، أو أقل من ذلك بقليل، للإسهاب في تناول الاقتتال والانشقاقات الداخلية التي لازمت العصبة الشيوعية الوليدة.

كما سمحت لهما بأن يقدما ماركس في صورة شاب قوي وجذاب، ومفعمٍ بالنشاط والحيوية، بخلاف صورته المحفورة في الوعي العام والتي تُظهره – باللونين الأبيض والأسود – كسياسي مخضرم ذي شارب كث.

تقديم فيلم

ذكاء مخرج الفيلم، راؤول بَك، وقدرته على تقديم فيلمٍ سينمائي محكم، من بين العوامل التي لم تترك الفيلم ليصبح مجرد نقاشاتٍ سياسية غامضة

من خلال فيلم “كارل ماركس الشاب” ومسلسل “البابا اليافع” – الذي يتناول حياة أحد باباوات الفاتيكان – يمكننا استنباط أننا صرنا بصدد توجه جديد، تُستخدم فيه مفردة “شاب” أو “يافع” كناية – في الأساس – عن كلمة مثل “مثير” أو “ذي جاذبية جنسية”.

وفي هذا الإطار، فإن “كارل ماركس المثير” – على الأقل كما جسد شخصيته الممثل دييل الذي لا يفتقر إلى الوسامة – لا يشكل تعارضاً مع هذا التوجه، رغم أنه يبدو كذلك للوهلة الأولى.

في حقيقة الأمر، تتمثل أحد مكامن القوة غير المتوقعة في الفيلم في قصتي الحب اللتين يتطرق إليهما. القصة الأولى تدور بين ماركس وزوجته جيني (التي تؤدي دورها فيكي كريبس التي شاركت في فيلم `كولونيا`)? تلك السيدة صاحبة الخط اللطيف في الأحداث، مع حس دعابتها الحاضر الذي جعل الرجال المحيطين بها – في كثيرٍ من الأوقات – ينجذبون إليها.

أما قصة الحب الثانية، فتجمع إنغلز وخليلته “ماري برنز” (التي تجسد شخصيتها هانا ستييل التي شاركت من قبل في المسلسل التليفزيوني البريطاني `وولف هول`)? وهي فتاة أيرلندية صهباء صريحة في حديثها.

وتظهر هذه الشخصية للمرة الأولى – ضمن الأحداث – وهي تُفصل من عملها في مصنعٍ يملكه والد إنغلز بمدينة مانشستر. وتُقدم هذه السيدة باعتبار أنها تحمل في داخلها قدراً من الطباع الثورية المتهورة.

وبغض النظر عن الفوارق الطبقية المثيرة للاهتمام الكامنة في علاقتيّ الحب هاتين؛ لا توجد أسسٌ تاريخية وفيرة وقاطعة تثبت التفاصيل والحواشي التي أضافها الفيلم في هذا الصدد. لكن إضافة شخصيتيّن نسائيتيّن ذكيتيّن رُسمت ملامحهما بدقة وإحكام كما حدث في العمل، يشكل أمراً مُرحباً به، حتى وإن كانت غالبية التفاصيل الخاصة بهما من نسج الخيال.

ولكن كما هو الحال في أي عملٍ يتناول الآباء المؤسسين للشيوعية؛ تكمن القصة الرومانسية الحقيقية في تلك الصداقة القوية التي تجمع بين ماركس – الفقير والمنفي طيلة عمره تقريباً – و”إنغلز″ ذاك البرجوازي الثائر الذي شاركه كتابة “البيان الشيوعي”، والذي يؤازر صديقه بإخلاص، من خلال تقديم الدعم المالي له في أغلب الأحيان.

ويضفي “بَك” على فيلمه الحافل بالأحداث وبالجُمَل الحوارية؛ سمات تشتمل عليها الأعمال السينمائية التي تقوم على أساس وجود شخصيتين متناقضتين إلى حد كبير.

نظرات مشاكسة

فـ”ماركس″ و”إنغلز″ يتبادلان نظرات مُشاكسة أشبه بتلك التي يتبادلها تلاميذ المدارس، وذلك خلال انتظارهما لصدور قرارٍ بشأن إلحاقهما برابطة العدالة (التي ينضمان إليها ثم يحولانها إلى جماعة ثورية لاحقاً).

كما انهما يعربدان وهما ثملان ويفقدان الوعي في شقة ماركس بباريس. وتتبدى هذه السمات أيضاً حتى في ذلك المشهد الذي يتسم بطابع هزلي، والذي يتفاديان فيه الاعتقال من خلال تعقب مُطارديهما وليس العكس.

جسد الممثل الألماني أوغوست دييل شخصية ماركس، والممثل شتيفان كونارسكه دور صديقه فردريش إنغلز.

وتبدو لحظاتٌ مثل هذه في العمل أشبه بمعالجة بليدة وفجة لمشاهد تحمل سمات أفلام المخرج غاي ريتشي، على نحوٍ ربما يجعلها تؤلف فيلما يمكن أن نُطلق عليه اسم “تحريات ماركس وإنغلز” أو “ماركس وإنغلز : مُطاردا مصاصي الدماء”.

ورغم أن هناك من ينزع بفطرته إلى معارضة ازدراء المعتقدات الموروثة والمؤسسات التقليدية، فإن جزءا منك ربما قد يتمنى ولو سرا – خلال مشاهدتك لـ”كارل ماركس الشاب” – أن يصطبغ الفـــــــيلم بطابعٍ أكثر تمرداً وثورية، على كل ما هو موروثٌ وتقليدي. لكن راؤول بَك – هذا المخرج القادم من هاييتي – كان في مِزاجٍ أكثر هدوءا واحتراما لمثل هذه الأمور في فيلمه هذا، وذلك على الرغم من أنه هو نفسه الذي أخرج العمل الوثائقي المفعم بالإثارة والتحريض (لستُ الزنجي الخاص بك) المأخوذ عن مخطوطة لم تكتمل للكاتب الأمريكي من أصل أفريقي جيمس بالدوين. وتوّجت مسيرة “بَك” الفنية التي بدأت قبل ثلاثة عقود بترشيحه لنيل جائزة الأوسكار. واختلف أسلوب المخرج في “كارل ماركس الشاب” كذلك عن نهجه في فيلم “لومومبا”، الذي مثّل تأريخاً مؤثراً وحماسياً وربما تحريضياً لصعود نجم هذا الزعيم الكونغولي، ومقتله بوحشية في نهاية المطاف.

فيلمه هذه المرة لم يغرق في التفاصيل الشكلية التي تُضيّق أفق العديد من الأعمال الدرامية التاريخية. إذ أن عمله الذي تدور أحداثه في منتصف القرن التاسع عشر يكتسي بطابعٍ عام مبهج، وإن كان عتيقاً، لكنه ليس محصنا تماما في الوقت ذاته من الوقوع في بعض الأخطاء التي تشوب أعمالا تاريخية مثله.

صراعات

فالفيلم يحرص على السرد الأمين للانشقاقات والصراعات الداخلية، التي ميزت مسيرة صعود ماركس إلى القمة. هناك تصورٌ ما يجري بثه بين ثنايا الفيلم، يشير إلى أن قدرة ماركس على إلحاق الهزيمة بخصومه السياسيين واحداً تلو الآخر، تعود إلى تميزه على أقرانه، وذلك وفقاً لنظرية الانتقاء الطبيعي التي وضعها العالم تشارلز داروين.

لكن العمل يضيع قليلاً في التفاصيل، فيما يتعلق بقدرته على التركيز على نقاط بعينها، فضلاً عن أن علاقته بالأحداث المعاصرة تتسم بالبلادة.

ويمثل ذلك مشكلةً بالنسبة للفيلم. فمن شأن أي تفسيرٍ ذكي للإطاحة – عبر تبني إيديولوجية ما – بحفنة الأثرياء ذوي النفوذ وأصحاب مقاليد السلطة، نيابة عن الجماهير من أبناء الطبقة العاملة، أن يكون له استخدامات وتطبيقات خطيرة على الساحة السياسية في عصرنا الراهن، وذلك في وقت ربما يمثل توظيف خطاب اليسار الثوري الأسلوب الوحيد الأكثر فعالية في يد الساسة الغوغائيين الموجودين حالياً لخدمة أهدافهم، رغم أن هذه الأهداف تكون – في أغلب الأحيان – على النقيض تماماً من أهداف اليساريين الثوريين.

ولا تقتصر المشكلات التي يعاني منها الفيلم على أن التفاصيل التاريخية الكثيرة التي يحفل بها تطغى على الصورة الكلية التي يجدر بنا استخلاصها منه، ولكنها تمتد إلى أن مسار التحولات الدرامية التي تطرأ على بطله خلال الأحداث، وهو المسار الذي يُقدم على نحوٍ يتسم بالتبسيط، يجعل عقد مقارنة بين شخصيته وأي شخصية أخرى في العمل، أمراً غير مطروحٍ للنقاش.الممثلان أوغوست دييل (يسارا) وشتيفان كونارسكه خلال حضورهما مهرجان برلين السينمائي حيث عُرض الفيلم.

فخصوم ماركس بين اليساريين يُصورون – مقارنةً به – على أنهم متبجحون ومتسلقون ومتزلفون ومحبون للجدل، وأشخاصٌ خبت شهرتهم، أو مثاليون ثملون عديمو النفع.لو أن هؤلاء لا يزالون على قيد الحياة حتى اليوم، لكان قد أُطلِق عليهم الوصف الذي يُستخدم للإشارة على نحو سلبي إلى من يخلطون بين التوجهات الليبرالية والرؤى اليسارية الاشتراكية، عن تصور مفاده بأن لا فارق بين التيارين.

ويقدم لنا الفيلم الهزيمة التي مُنيّ بها أولئك الأشخاص على يد بطلنا الجذاب صاحب الشخصية الكاريزمية، باعتبارها خيراً محضاً.

ثمة محاولة متأخرة في الفيلم للموائمة، عندما يتضمن في مرة وحيدة لقطات وثائقية تبدأ في الظهور على الشاشة على خلفية أسماء المشاركين فيه، بمصاحبة موسيقى أغنية للمغني الأمريكي بوب ديلان.وفي هذه اللقطات نرى حركاتٍ ثورية وشخصيات سياسية تنتمي إلى مراحل تاريخية لاحقة للمرحلة التي تدور فيها أحداث العمل.

مشاهد الاحتجاجات

هنا قد تجد نفسك تحدق بإمعان في الشاشة، بينما تتوالى مشاهد الاحتجاجات التي خرجت ضد حرب فيتنام، تليها لقطاتٌ تُظهِر العلاقة الوثيقة التي جمعت الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر.

وربما تفكر في تلك اللحظات إذا كان لدى المخرج “بَك” الوقت الكافي – ناهيك عن الرغبة – في أن ينهي عمله بصورة للرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، وما الذي يمكن أن يعنيه ذلك حال حدوثه.

على أي حال، لا يُقْدِمُ المخرج على ذلك، بل ينهي الفيلم بصورة عامة لدولاراتٍ أمريكية تلتهمها النيران، وهو ما يخبرك حقاً بكل ما تريد معرفته عن “كارل ماركس الشاب”؛ كفيلم مُحكم الصنع، وجيد المستوى، وتعليمي بلا أدنى شك.

لكنك لا تستطيع مقاومة الشعورٍ بأنك إزاء فرصة أُهدرت لإثارة المشاعر، وتحفيزها، وربما التحريض عبر هذا العمل السينمائي.

عن الزمان اللندنية

قد يعجبك ايضا