وداعاً يا رفيق خالد… أيها الناسك الشيوعي

 

ماهر أبي نادر ( لبنان ) الأربعاء 1/3/2017 م …

وداعاً يا رفيق خالد… أيها الناسك الشيوعي

فجأة ومن دون سابق إنذار تسلل الرفيق خالد سليمان مغادراً عالمنا تماماً كما عاش فيه، بصمت وهدوء وبعيداً عن الاجتماعيات والشؤون اليومية. ولأنه عاش هكذا فمن الصعب على أحد أن يكتب عنه حتى ممن عايشوه عن كثب، أقرب الناس إليه، أخوته وأقاربه مثلاً، لم يعرفوا تاريخه النضالي، أولاده يعرفون النذر القليل عنه ودهشوا عندما سمعوا نعي المكتب السياسي للحزب الشيوعي له. فمن هو هذا المناضل الصامت؟ للاجابة عن هذا السؤال كان لا بد من رحلة بحث بين العديد من الرفاق لتجميع بعض الفتات من المعلومات عنه.

ولد خالد سليمان في بلدة بدنايل في البقاع الاوسط في كانون الاول عام 1948 ولكنه عاش طفولته في بلدة رياق التي كان يعمل والده في مطارها العسكري مهندساً لميكانيك الطيران في الجيش اللبناني. وفي اواخر الستينيات من القرن الماضي انتقلت العائلة الى بيروت لتعيش في حي السبيل في طريق الجديدة وليتابع خالد دراسته الى جانب اخويه عاصم وفادي في ثانوية البر والاحسان الرسمية ولينتقل بعدها الى كلية العلوم في الجامعة اللبنانية لدراسة مادة الرياضيات وليتخرج منها بتفوق باجازة تعليمية قبيل بدء الحرب الاهلية وليبدأ بتدريس هذه المادة في احدى الثانويات الرسمية.

تعرف خالد على الحزب الشيوعي وانتسب إلى صفوفه عندما كان طالباً في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، ومع بداية الحرب الأهلية كان خالد في طليعة الرفاق الذين حملوا السلاح في المحاور العسكرية في بيروت دفاعا عن وحدة لبنان وعروبته وتطوره الديمقراطي وعن الثورة الفلسطينية. وفي بداية العام 1976 أرسل خالد مع رفاق آخرين في بعثة عسكرية الى احدى الاكاديميات العسكرية السوفياتية حيث خضع لدورة عسكرية عليا، يقول أحد الرفاق الذين رافقوه في الدورة العسكرية انه كان خلالها لامعا ودقيقا ولديه مهنية عالية في الرماية المدفعية التي أبدع فيها إلى درجة ادهشت مدربيه السوفيات، ليعود بعدها الى لبنان ويتولى تدريب هذا الاختصاص للكوادر العسكرية في الحزب الشيوعي، وساهم لاحقاً الى جانب رفاق اخرين في إنتاج كتاب عن الرماية المدفعية.

تولى الرفيق خالد بعد ذلك مسؤولية الإدارة العسكرية والمالية المركزية للحزب وأصبح أيضاً عضواً في اللجنة المركزية بامتياز حضور اجتماعات المكتب السياسية المخصصة لمناقشة موازنة الحزب وشؤونه المالية والإدارية والتنظيمية. ومع هذه المسؤولية كان خالد بحسب أحد رفاقه يوصل ليله بنهاره وبصمت لا يشبهه صمت وعصامية عالية وصدق واخلاص ووفاء لحزبه لا يضاهيه أحد فيه.

يقول أحد الذين عملوا معه لبضعة سنوات أنه بالإمكان اختصار الرفيق خالد بلقب واحد، أبو الهول، فهو قليل الكلام وان تكلم فأنه يفعل ذلك بأقل قدر من الكلمات ولكنه في الوقت نفسه آلة مدهشة في العمل، فعلى مدى سنوات عمله في الادارة المركزية والعسكرية للحزب الشيوعي لم يكن يترك قرشاً يضيع أو يهدر، فهو بحسب أحد رفاقه “يحلب النملة” من اجل تعزيز مالية الحزب وحماية ممتلكاته، ويلاحق ادق التفاصيل بتأني ويقول رفيق آخر “خالد!!! حلال المشاكل”، لا تعصى عليه مشكلة من دون أن يجد لها حلاً.

وعلى الرغم من القرابة التي تجمعنا فأني اول ما تعرفت عليه كان في صيف العام 1976 في احدى المدارس العسكرية للحزب في بلدة المشرف الشوفية وكان مدرباً عسكرياً متخصصاً في المتفجرات والمدفعية الصاروخية، لم يشعر تلامذته بالفارق بينهم وبينه سوى الفارق المعرفي المذهل الذي يتمتع به أما في باقي جوانب الحياة والعمل العسكري فكان مثله مثل اي رفيق في المأكل والملبس والمنامة من دون أي امتياز.

في العام 1981 كانت قيادة الحزب الشيوعي تتوقع عدواناً عسكرياً إسرائيلياً على لبنان فاتخذت قراراً بانشاء جهاز حزبي سري يتولى العمل العسكري ضد قوات الاحتلال إذا ما حصل العدوان، وكلف الرفيق خالد بإعداد الأمور الإدارية والمالية واللوجستية لهذا الجهاز. وصدقت توقعات الحزب ووقع العدوان الإسرائيلي في حزيران من العام 1982 وكان خالد على رأس الإدارة العسكرية والمالية المركزية للحزب خلال العدوان وقاد عمله في بيروت المحاصرة ليسطر إلى جانب رفاقه في الحزب الشيوعي وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والجيش العربي السوري واحدة من ملاحم الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. رأيته مرات عدة خلال حصار بيروت، لم تكن الابتسامة تفارق محياه، ولم يكن التفاؤل يفارقه أبداً وكان واثقا بأن الصمود سيفوت على إسرائيل تحقيق كامل أهدافها. ومع احتلال بيروت بدأ عمل الجهاز الذي أنشأه الحزب قبل عام من الغزو تحت اسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وكانت كل مقومات العمل العسكري السري جاهزة بهندسة عالية من الرفيق خالد، ولم يكتف بذلك بل أيضاً ساهم في العديد من عمليات الاستطلاع التي مهدت لعمليات عسكرية بطولية ضد قوات الاحتلال في بيروت. وقد رأى خالد في المقاومة ضد الاحتلال حينها ضوءاً كبيراً ليس فقط للبنان بل ايضا لحركة المقاومة في فلسطين وكان يقول لنا أن مقاومتنا هنا سيكون لها تأثيرها في فلسطين وفي دول عربية اخرى.

بعدها انكفأ الرفيق خالد وعاد إلى عمله مربياً ومدرساً لمادة الرياضيات في ثانوية حارة حريك الرسمية وغيرها من المدارس الرسمية وأنشأ دكاناً صغيراً للسمانة في منطقة ساقية الجنزير في بيروت ليربي ولديه. وبقي منذ ذلك الحين صامتاً يحمل في طيات قلبه تاريخاً نضالياً مشرقاً إلى أن وافته المنية في 13 شباط الجاري جراء مضاعفات مرضي السكري والضغط اللذين كان يعاني منهما.

وداعاً يا رفيق خالد، ولك كل التحية من رفاقك وكل من عرفك أيها المناضل الصامت إلى حد النسك.

قد يعجبك ايضا