ثقافة الهبل- الاستهبال في فهم الحياة / جميل السلحوت

جميل السلحوت ( فلسطين ) الأربعاء 1/2/2017 م …

قبل ربع قرن وكنت في الثانية والأربعين من عمري، مرّ بي أحد أبناء قريتي، رجل ذو لحية طويلة كثّة يرتدي ثوبا “دشداشا” محدودب الكتفين، يغطي رأسه بكوفيّة وعقال، وفي يده مسبحة 99 خرزة، صافحني بلهجة واهنة كرجل زاد عمره على المئة عام، فهدّته السّنون، انتبه الرّجل أنّني لم أعرفه، فقال لي عاتبا: يبدو أنّك لم تعرفني… أنا فلان.

تذكّرت الرّجل فهو يصغرني بأربع سنوات، أي كان عمره يومئذ 38 عاما. فسألته عن عمله؟ فأجاب: ” الله يخليلك اولادك، اولادي بشتغلوا، وبصرفوا عالبيت، وحنا بألف نعمة، والحمد لله أنا مرتاح من الدّار للمسجد، ومن المسجد للبيت”. فسألته:هل أفهم أنّك متقاعد وأنت في هذا العمر؟ هل تعاني من أمراض تقعدك؟ ولماذا كتفاك محدودبان؟ فأجاب: أنا والحمد لله بألف خير، صحّتي جيّدة، وأنا متفرّغ للعبادة. فسألته مرّة أخرى: هل أفهم من كلامك أنّك زهدت بالدّنيا وتنتظر عزرائيل ليخطف روحك؟ فأجاب: الدّنيا غير مأسوف عليها. ودعا الرّجل لي بالهداية، وكأنّني انسان ضالّ!

هذا الرّجل-ومثله كثيرون- لفت انتباهي، فأشفقت عليه، وعلى فهمه الخاطئ للحياة، وعدت إلى نصوص دينيّة، لأرى موقف الدّين من الحياة الدّنيا والحياة الآخرة، يقول تعالى: “هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” أي أنّ الله خلق لكم الأرض لتسعوا فيها طلبا للرزّق، من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها من أبواب الرّزق. ويقول الحديث النبويّ الشّريف:” إِن قَامَت السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فَإِن استَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغرِسَهَا؛ فَليَغرِسها”، وفي هذا دعوة وحثّ على العمل والانتاج حتّى آخر لحظة في حياة الانسان. وفي قول آخر لعبدالله بن عمرو بن العاص وبعض الرّواة يعتبره حديثا نبويّا جاء فيه:” “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، أي هناك توفيق بين عمل الدّنيا والآخرة.

ووردت أحاديث كثيرة بهذا الخصوص منها:” ويقول حديث آخر:”كَانَ دَاوُدُ عليهِ السَّلامُ لا يَأْكُل إِلاَّ مِن عَملِ يَدِهِ” وحديث “كَانَ زَكَرِيَّا عليه السَّلامُ نجَّارا” وحديث “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاما خَيْرا مِن أَنَ يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ”. فما بال بعض “المسلمين” يبيعون الدّنيا، ولا يفهمون معنى الحياة؟ مع أنّ الدّين لا يدعو لذلك، طبعا والفهم الخاطئ للدّين هو واحد من أسباب عزوف البعض جهلا عن الحياة، ويساهم في ذلك أئمّة المساجد الذين في غالبيّتهم لا يتحدّثون في مواعظهم وخطبهم إلا عن النّار والعذاب، وكأنّ النّار خلقت لتعذيب المسلمين، وأن لا ثواب للمحسنين منهم.

**فضائيات الجهل والهبل العربي

لا أعرف عدد الفضائيّات المتخصّصة ببثّ “ثقافة الهبل” -إن جازت التّسمية- باللغة العربيّة، لكنّها بالعشرات إن لم تكن بالمئات، ولم أسمع عن دولة واحدة منعت هذه الفضائيّات من أراضيها، أو حجبتها بتشفيرها كي لا يراها مواطنوها، تماما مثلما لم أسمع أنّ أقمارا فضائيّة عربيّة مثل “أراب سات أو نايل سات”قد رفضت السّماح لواحدة من هذه الفضائيّات بالبثّ عبرها، وغالبيّة هذه الفضائيّات المتخصّصة ببثّ الجهل والهبل تتّخذ من الدّين عباءة لها، دون أن نسمع عن جهة دينيّة مرموقة كالأزهر وهيئة علماء المسلمين، ومن يسمّونهم بـ “العلماء” من اصدار فتاوي ترفع الغطاء الدّينيّ عن هكذا فضائيّات، مع أنّها سبق وأصدرت ولا تزال فتاوي “للمتأسلمين الجدد” بقتل شعوبهم وتدمير أوطانهم، وفتاوي عجيبة غريبة مثل “جهاد النّكاح” و”ارضاع الكبير” و”إعادة الرّق” وتدمير الأثار ودور العبادة لغير المسلمين، والمقامات الاسلاميّة وغيرها.

واللافت أنّ فضائيّات “الجهل والهبل” يتصدّر الرّدود فيها رجال في غالبيّتهم يرتدون الجبّة والعمامة، ويطلقون اللحى ويحلقون الشّوارب- زيادة في التّقوى والورع- ويحملون ألقابا كبيرة مثل:”الدّكتور العلامة” –زيادة في خداع بسطاء العامّة-. فيفسّرون الأحلام بطريقة مضحكة ومحزنة حتّى البكاء على حالنا، ويصفون “أدوية” لمختلف الأمراض بما فيها المستعصية كالسّرطان مثلا، وسأعطي عددا من الأمثلة ممّا شاهدته متعمّدا على فضائيّات “الهبل وتكريس الجهل”: ذات يوم اتّصلت سيّدة تسأل أحد المشيخ من “مفسّري الأحلام” وقالت:”رأيت أبي المتوفّى في المنام –أستغفر الله العظيم- يعاشرني كما يعاشرني زوجي، فارتعبت من ذلك الحلم، فما تفسير ذلك جزاك الله خيرا؟” فأجابها الشّيخ وبسمة تعلو وجهه:” أبشري يا أختاه، وهنيئا لك، فهذا الحلم دليل على أنّك بارّة بوالدك، وهو راض تماما عنك، لأنّ الوصال في الحلم يعني الرّضا!”

واتّصلت إحداهنّ على الدّكتور العالم العلامة تسأله عن علاج لسقوط الشّبكيّة في عينيها، فأجابها بأنّ العلاج سهل، لكنّ الأطباء لا يعرفونه لبعدهم عن الدّين، ووصف لها العلاج بأن تحضر اثني عشر لتر ماء في وعاء، وأن تقرأ عليها ثلاث سور من القرآن ذكرها، وأن تشرب كأسا من الماء المقروء عليه ثلاث مرّات في اليوم، وبإذن الله ستشفى! والحديث يطول في هكذا أمور، وبإمكان أيّ إنسان أن يشاهد “هذا الهبل” على مدار 24 ساعة يوميّا. فما تفسير ذلك؟

قد يعجبك ايضا