ضربة استباقية إسرائيلية ضدّ حزب الله / د.عبد الستار قاسم

 

د.عبد الستار قاسم* ( فلسطين ) الثلاثاء 10/1/2017 م …

*د. عبد الستار قاسم، أكاديمي ومفكر فلسطيني، كتب ٢٥ كتاباً في السياسة والتاريخ كما نشرت له عشرات المقالات والدراسات في الصحف والدوريات العربية...

صرّح أحد كبار ضباط الجيش الإسرائيلي أن إسرائيل تستعد لتوجيه ضربة عسكرية استباقية لحزب الله، وأن إسرائيل لن تنتظر اليوم الأول من الحرب. وأشار الضابط إلى أن حزب الله يشكل خطراً استراتيجياَ على إسرائيل، ويتفّق في ذلك مع قناعات قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

الضربة الإستباقية أحد أعمدة النظرية الأمنية الإسرائيلية منذ عام 1948، والتي تهشّمت جدواها إلى حد كبير في حروب إسرائيل الأخيرة على حزب الله والمقاومة الفلسطينية في غزّة. وهي تعني أن على إسرائيل أن تهاجم أعداءها عسكرياً قبل أن تتعاظم قواهم العسكرية ويصبحوا قادرين على مهاجمة إسرائيل. أو على رأي المثل العربي “نأكلهم على الغداء قبل أن يأكلونا على طعام العشاء.” وقد شكّل هذا المبدأ جزءاً من كل أمني متكامل يشمل ضرورة إبقاء الحرب على أرض العدو بعيداً عن التجمّعات السكانية اليهودية، والاحتفاظ بقوة عسكرية كافية للتغلّب على الجيوش العربية فرادى ومجتمعة، وحسم الحرب في أقصر وقت ممكن لصالح إسرائيل، وإقامة أجهزة أمنية متطوّرة قادرة على اختراق مختلف المؤسسات العربية. وواضح من هذه المبادئ أن النظرية الأمنية الإسرائيلية قد تم تطويرها لتتناسب مع معايير الحروب بين جيوش نظامية، ومن دون أن يكون بالحسبان حروب العصابات أو الجماعات غير النظامية. ولهذا فوجئت إسرائيل في الحرب على لبنان عام 2006، ولم تنفعها نظريتها الأمنية ولا قدراتها العسكرية الضخمة والمتطوّرة.

تهشّمت نظرية إسرائيل الأمنية على أبواب جنوب لبنان وشمال غزّة. صحيح أنها احتفظت بقوة عسكرية تفوق تحدي الجيوش النظامية العربية إن وجد، لكنها لم تستطع التغلب على التكتيكات العسكرية التي طوّرتها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية. ركزت المقاومة العربية على نقطتين أساسيتين وهما: تحييد قوة سلاحي البر والجو الإسرائيلييين بقدر الإمكان، ونقل الحرب إلى داخل فلسطين المحتلة/48. لم يكن من السهل تحييد سلاح الجو الإسرائيلي وسلاح الدبابات، وحفر الأنفاق تطلّب جهوداً مضنية ومتواصلة ومكلفة حتى تبقى قوات المقاومة وأسلحتها بمنأى عن صواريخ وقنابل إسرائيل الفتّاكة. اضطرت المقاومة إلى الحفر تحت الأرض والتخندق وحماية نفسها لكي توقع بالعدو خسائر ليست بالحسبان. وفعلاً فوجئت إسرائيل في حرب عام 2006 أن طائراتها لم تستطع تدمير ترسانة حزب الله الصاروخية، وبقيت الصواريخ تنطلق بكثافة نحو شمال فلسطين، وفوجئت أيضاً أن سلاحها البري كان يتقدّم شمالاً ولكن من دون أن يغيب مقاتلو حزب الله أو تفتر مقاومتهم، إذ كانوا يهاجمون القوات الإسرائيلية من الخلف. وتلقّنت الدبابات الإسرائيلية درساً قاسياً في وادي الحجير عندما تم تدمير العشرات منها بصواريخ مخصّصة لاقتناص الدبابات والعربات المدرّعة. جزء كبير من قوة إسرائيل الضاربة باتت محيّدة وفعلها القتالي تقلص إلى حد كبير، ولم تعد التجمعات السكانية اليهودية بمنأى عن الحروب، ولم تعد الحرب تدور فقط على أرض العدو، كما أن مخابراتها لم تعد قادرة على جمع المعلومات التفصيلية عن قوة المقاومة وأساليبها القتالية.

لم تختلف التجربة الحربية الإسرائيلية في غزّة. على مدى عشرات الأيام لم يتمكّن الجيش الإسرائيلي من الزحف داخل غزّة لأكثر من مائة متر، وكان دخوله جحيماً مشتعلاً في وجهه أشعله المقاومون الذين يخرجون من تحت الأرض بصلابة وقوة وبتنظيم لم تعهده إسرائيل عن العرب. لقد أمطر المقاومون الصهاينة بالرصاص والصواريخ واضطروا الجيش إلى التراجع بسرعة مدهشة متخلياً عن الزحف البري.

لم تتوقّف صواريخ المقاومة في جنوب لبنان وشمال قطاع غزّة عن الانطلاق نحو التجمّعات السكانية اليهودية، ولم تستطع الطائرات النيل من مرابضها تحت الأرض. ولهذا توجّهت إسرائيل إلى قتل الناس المدنيين وتهديم القرى والمدن والعمارات. أيقن قادة إسرائيل العسكريين أن حروبهم فاشلة فصبوا سوداويتهم على الناس وقتلوا وجرحوا الآلاف سواء في الجنوب اللبناني أو قطاع غزّة. وأخذ بعد ذلك يتباهى الصهاينة وأعوانهم من العرب ويتغنّون بإنجازات الجيش الذي قتل المدنيين ودمّر بعض البنى التحتية والوحدات السكنية. وقد كان في ذلك ما يؤكّد أن حروب إسرائيل لم تعد نزهاً أو احتفالات انتصارات. لقد ولّى زمن الهزائم إلا إذا كانت الحرب ضد جيش نظامي عربي.

أيقنت إسرائيل أنها باتت تحت تهديد استراتيجي تفرضه المقاومة، وكان عليها أن تعيد تقييم نظريتها الأمنية وتعدلها بطريقة تتناسب مع أساليب أعدائها القتالية الجديدة. ولهذا أقرّت في تقديراتها الاستراتيجية الأخيرة أن حزب الله يشكّل التهديد الاستراتيجي الأكبر لها، وجاءت حماس في المرتبة الثالثة بعد إيران. وهذا تقدير واقعي يقرأ التطوّرات الميدانية القتالية جيداً، ولا يحاول الهروب من الحقيقة. ولهذا ركّزت إسرائيل في السنوات الأخيرة على دراسة الأساليب والوسائل القتالية التي يجب تطويرها من أجل تفادي تجاربها الفاشلة في الحروب السابقة. ركّزت إسرائيل على تطوير تقنيات يمكن أن تتغلّب على تكتيكات المقاومة ومنها: تطوير قدراتها وأساليبها الاستطلاعية والتجسسية لتحسين مستوى المعرفة بمواقع العدو، تطوير مجسّات خاصة بكشف الأنفاق وعلى مستوى تقني عالٍ، وتدريب كلاب على التعرف على الأنفاق والدخول إليها وهي تحمل متفجرات، وتطوير إنسان آلي يقوم مقام الجندي في اقتحام الأنفاق وتفجيرها، وربما أيضاً للاشتباك مع المقاتلين. وإسرائيل مستمرة على مدى سنوات بتدريب وحدات قتالية على فنون حرب العصابات ومواجهة تكتيكات المقاومة، وهي تدرّب المواطنين على كيفية التصرّف عند اقتحام المقاومين للمدن والمستوطنات، الخ.

من ناحية المقاومة، عمدت إلى إجراء تغييرات جذرية على تصاميم الأنفاق بحيث يتم تفادي عمل المجسّات وتفادي الصواريخ الخارقة المتطوّرة التي عملت إسرائيل وأمريكا على تطويرها لاختراق الجبال والتحصينات التحت أرضية. وعكفت المقاومة على تطوير صواريخها من حيث الحمولة التفجيرية والمدى ودقّة الإصابة، وعملت على تدريب وحدات قتاليبة لاقتحام التجمّعات السكانية، وحزب الله اكتسب خبرة واسعة في هذا المجال في الحرب على سوريا.

ولهذا صرّح الضابط الإسرائيلي الكبير بأن إسرائيل تعدّ لحرب استباقية على حزب الله، وتقديري أن هذا التصريح لا يحمل الكثير من الذكاء لأن الحرب الاستباقية تصلح ضدّ جيوش نظامية ولا تصلح إلا بنسبة ضئيلة ضدّ المقاومة العربية بالتحديد. ماذا لو قام الطيران الإسرائيلي بالهجوم على حزب الله، وتبيّن بعد ساعة أن الطيران قد قصف الأهداف الخطأ بخاصة أن العديد منها مموّه وغير حقيقي.؟ وماذا يمكن أن يحصل إذا كان جنود حزب الله قد دخلوا المطلة ومعالوت وربما نهاريا قبل أن تكون الطائرات الإسرائيلية قد عادت إلى قواعدها؟ وهل من الممكن أن تعود الطائرات سالمة هذه المرة؟ الضربة الاستباقية تتطلّب رصداً مسبقاً للأهداف ومعلومات دقيقة عنها، وتتطلّب شلّ قدرة العدو على الرّد أو الحركة على الأرض. وهل تضمن إسرائيل أن جبهة الجولان ليست جاهزة بعد لتكون شريكاً هذه المرة في التصدي؟ ولهذا على الضابط الإسرائيلي أن يُعيد حساباته. لو كانت إسرائيل متأكّدة من معلوماتها الاستخبارية عن مواقع المقاومة وقدراتها وأساليبها لما تأخّرت في شنّ الحرب. هي ما زالت حتى الآن تخشى الحرب العمياء وشبهها.

ومن ناحية المقاومة، إذا كانت المقاومة متأكدة من النصر فيجب عليها ألا تنتظر اليوم الأول من الحرب.

قد يعجبك ايضا