السودان.. حكاية وطن استثنائي

آية ابو الحاج ( الأردن ) السبت 19/11/2016 م …

 
الحقيقة كالنور لا تُخفى لكن نحن مَن نُغمض أعيينا، والجمال كنز لكننا نلتهي عنه. كتبت في زيارة السودان تجربة غنية التفاصيل بعيدة عمّا ترونه في الإعلام يحوي أسراراً جميلة بلا نِزاع تُراثه العريق الغني بالتفاصيل يروي الدهشة والسعادة الثقافة والبساطة. فالخرزة في ثوب المرأة تُغيّر معنى الحدث ، والعمامة على رأس الرجل حكاية لها هدف.
 
الحضارة في السودان مُمتدّة بعمُق الحضارة الفرعونية

الحضارة في السودان مُمتدّة بعمُق الحضارة الفرعونية
 المعنى
الثقافة والحضارة والتُراث مُصطلحات  فضفافة جداً كثوبٍ يضمّ في داخله أمّاً وأطفالها  ، عميقة جداً كبحر يضمّ آلاف الكائنات ، مُتنوّعة جداً كبستان فيه ما تشتهيه الأنفس ، عتيقة جداً كمخطوطة بلونها البُنيّ وجِدَت صدفة ، عظيمة جداً كرجل قاد قومه ضدّ مُستعمِرٍ ما وخاصة جداً كسر تحفّظه بينك وبين نفسك.

الحضارة في السودان مُمتدّة بعمُق الحضارة الفرعونية ففيها من الأهرامات ما يزيد عن 220 هَرَماً  أما التُراث في السودان فغني جداً باللباس المعروف بالثوب والجلابية، والطعام ك” الأقاشي والعصيدة والدكوة “،والبهار ك “الويكة” ،والعصائر كالعرديب (التمر الهندي في عُرفنا) والقنقليز أو التبلدي (من أشهى العصائر التي تُشرَب على ظمأ وخاصة لمَن عَشِق لذعة الحموضة )، الموسيقى السودانية الرقيقة ،العرس السوداني حكاية مُسلّية فالتفاصيل التي تعمّق الروابط بين البشر وتنشر البهجة بين الحضور -ولا نتحدّث عمن بالغ منهم فالجمال في البساطة -وكل ذلك في إنسان الطيبة والكَرَم وحُسن الضيافة هي عنوانه.

الإنسان

رأيته فألهَمني صافحته فغمَرني كنت ضيفته فأكرَمني.. الإنسان في السودان

رأيته فألهَمني صافحته فغمَرني كنت ضيفته فأكرَمني.. الإنسان في السودان
أتدرون ما الذي يصنع الإنسان، أن تكون عين الله ترعاه في كل زمان فيُرزقه فن الحياة و حب الخلق وقلب فنان يرى جمال تفاصيل أي مكان والسحر في عينيه لا في الألوان،يهم، يُبادر ، يعزم ، يُصابر ، يُطوّر ، يُخطّط ، يُقرّر ، يملك حكمة الميزان. رأيته فألهَمني صافحته فغمَرني كنت ضيفته فأكرَمني وطلب مني علماً فعلّمني هو ذاك الإنسان الذي قابلته في السودان.

طاقة غير مُنتهية من العطاء والاندفاع والحماس، جمال لا يمكن حصره في تفصيلة ما طرائق في جلب السعادة وتفنّن في حياة الحياة ،الحب لهم وفيهم ومنهم لا شبيه له فالروابط بينهم نكهتها خاصة وفيها سرّ عجيب  والإنجاز منهم عظيم ويصنع الفرق دائماً. شباب يواصلون الليل بالنهار ليجعلوا بلدهم لتكون على خريطة العالم شيئاً يُقدّر


النيل

النيل: النهر العظيم نهر من الجنّة يُقسَم إلى إثنين أزرق وأبيض ثم يلتقيان

النيل: النهر العظيم نهر من الجنّة يُقسَم إلى إثنين أزرق وأبيض ثم يلتقيان
لا بدّ من أن تأخذ نفساً”عميقاً” قبل أن تُكمل القراءة  فهذا النهر العظيم نهر من الجنّة يُقسَم إلى إثنين أزرق وأبيض ثم يلتقيان. جولة مسائية في أمواجه أو سيراً صباحياً على ضفافه كفيلة بصنع مُعجزات لفكرك؛  فالشُعراء نَظَموا ، والرُواة كتبوا ، والعُشّاق تلاقوا وغيرهم أبدعوا وفضفضوا. وهنا لا يسعني الا أن أردّد ما قاله شاعر عظيم:

” عُد بي إلى النيل لا تسأل عن التعبِ
الشوق طيّ ضلوعي ليس باللعبِ” فالنيل أطول  معزوفة تروي حكايا بني البشر 


المبنى

شندي..ولاية شمال شرقي السودان

شندي..ولاية شمال شرقي السودان
 في طريقنا من الخرطوم إلى شندي “ولاية شمال شرقي السودان ” لفت نظري بناء له صفة معمارية مُميّزة بطراز قديم ذلك الحجر الأقرب إلى الأماكن الأثرية بلونه الأصفر، مبنى على شكل مُستطيل بجانبه مبنى آخر أقل ارتفاعاً وأصغر حجماً على شكل قبّة..
شَرَحَت لي صديقتي وقتها بلهجتها اللطيفة تفاصيل المكان فقالت: “دا مسيد” فعرفت منها أن هذا المكان عبارة عن مسجد بجانبه غرفة صغيرة أخرى مُقسّمه تُسمّى خلوة؛ قديماً كان لإطعام الطعام وتعليم الفتيان، وأضافت ” الخلوة نارها ما بتنطفي ” فهي مفتوحة على مدار اليوم والليلة تتم فيها التربية والتعليم وأشياء أخرى جميلة.
واللطيف أيضاً أنهم يتعلّمون القرآن على لوح خشبي تُكتَب عليه الآيات ويقوم المُتعلّم بترديدها إلى أن يحفظها ووقتها يغسل الألواح بماء طاهر يُسمّى المحايا نعم هو (آيباد من نوع مختلف).
بت أتخيّل المكان، مُعلّم ومجموعة أطفال يتدارسون القرآن بصوت ندي، وهناك آخرون تتقاطر المياه من أيديهم فرحاً وقد أنجزوا تعلّم وحفظ شيء جديد، ورجل مأمور للمكان يُرحّب بالضيوف الذين قدموا ليأكلوا شيئاً ما، وآخرون جاؤوا ليستشيروا في موضوع ما أو مشكلة يواجهونها … وآخر منزوٍ على نفسه في طرف الغرفة يتفكّر شعرته مكاناً يجمع فيه كل أنواع العطاء ويحفّه الجلال والسكينة. لا أعلم ما يُسمّى هذا المكان الآن وعندنا … لكنني شعرت أنه يجمع بين الفندق والمدرسة والعيادة النفسية و SPA وأيضا المسجد.  قالو لي أن “الخلوة نارا ما بتنطفي ” نارا فيزيائية للدفء والإضاءة، ونارا معنوية؛ طاقة للعمل ونورا في الفكر.

اللهجة

اللهجة مفهوم مُبسّط لاتّساع العالم

اللهجة مفهوم مُبسّط لاتّساع العالم
للهجة مفهوم مُبسّط للغة ، مفهوم مُبسّط لاتّساع العالم ، مفهوم مُصغّر لجمال الاختلاف  يعكس عمق ثقافة ما، يُميّز صاحبه ويُعطيه علامة فارقة كالجذور الممتدة بعمق الوطن، أظن أن مَن يُتقن اللهجات هو شخص يُصنّف على أنه مُبدع جداً، دماغه قادر على تصوّر الكلمة ذاتها بأشكال عديدة وعلى التنقّل بينها بيُسر وسهولة،  تخيلوا كلمة ما مثل ( كتير) هي بالمصري أوي، بالسوداني شديد، بالخليجي مرة أو وايد، بالتونسي برشا، بالجزائري بالزّاف وفي كل لهجة كلمة ما في أول يوم في السودان عندما كنا في الساحة الخضراء (وهو مكان مفتوح تتناثر فيه الكراسي فيجتمع فيه مَن شاء: لرحلة ،لاجتماع ،لتنزّه ، لاحتفال وسمّوها كذلك لأنها مُغطاة بالنجيل الأخضر وممتدّة ).
هناك في هذا المكان اللطيف أخدنا درساً عفوياً في اللهجة السودانية فبداية كان علي أن أركّز لأفهم أو أن أطلب منهم أن يتحدّثوا ببطء لأستوعب ….فأخرجت ورقة وقلماً وكتبت بعضاً من المُصطلحات التي كانوا يستخدمونها أثناء الحديث … اللهجة السودانية لطيفة جداً بسيطة جداً وخفيفة جداً تشعر أن صاحبها يُخرِج حروفه برقّة من مكان بعيد قريب عدا بعض الكلمات التي لفظها يحتاج أن تكون ضليعاً بالمخارج لتنطقها. فمثلاً 
يقولون 
إعملي رايحة = طنش
طيارة :خطير بمعنى كويس كتير 
ماسورة : خراط او عريط (الشخص الذي يَعِد ولا يفي ) 
عليك الله : بالله عليك
حناك : لسانه حلو وبعرف من أين تؤكل الكتف 
الرصة :الخطة 
شنو :شو 
داير : بدي /أريد 
كعب :سيىء
متين :متى
هسي : هلا 
مبالغة : جميل جداً 
الجبنة :القهوة 
كديسة : بسّة/قطة 
حبوبة : جدّة /تيتا
سي جا مي (تنطق سجمي): Oh my God  الزيت يا فردة : دلالة على الأعجاب بشيء
قرمصيص : ثوب ما للعروس (مثال عالكلمات المعقدة) يُقال أن اللهجة السودانية أقرب ما تكون للغة العربية الفصيحة ، ويُقال أيضاً إنها مزيج مُميّز من ثقافة السودان التي ضمّت عرباً وأفارقه زنوجاً ، والتي ضمّت حضارات مُتتالية من فرعونية حتى الاستعمارات الحديثة التي حلّت على السودان. وبعد كل ذاك علينا بالإنصاف فهو الحدّ الفاصل بين الإفراط والتفريط وبين السّلب والإيجاب أن تُري الحقيقة أن تكون على مسافة واحدة مما لك ومما عليك حدّثتكم عن جمال السودان وأهله ليس لأنّه جنّة الله على الأرض وليس لأنّه بلد التطوّر والخدمات المُتقدّمة، فمن يدخل السودان يعرف أنه بلد متواضِع جداً من حيث الخدمات فور نزوله من الطائرة -وليس لأنّه بلا نزاعات ولا بطالة ولا فقر …وقد شاهدت ذلك فعلاً، نعم كل ذلك موجود؛ لكن مَن حدّثنا عنه بإنصاف؟ مَن أخبرنا بالمُقابل عن سحر الطبيعة وجمال الثّقافة وغِنى الثّروات وكَرَم الشّعب ؟! مَن سلّط الضّوء على الخير كما سلّطه على الشر ؟!مَن فتح النّافذة على البستان كما فتحها على الصّرف الصحي ؟!مَن أدرك الواقع فعمل على تحسينه.

بعد عام على زيارتي الأولى للسودان وعلى الاحتكاك المُباشَر والتواصل المُستمر مع أهلها والقراءة والبحث عن أوضاعها أجد أنها تستحق أكثر مما هي عليه، ظَلمَها الإعلام وشوّهتها السياسة ما عرفنا عنها لا الحروب والفقر والفرقة. فالعالم العظيم المُدهش قد يُضيّقه الإعلام بعدسة تُرينا ما تُريد …أما أنا فقرّرت أن أشتري عدستي أحرّكها بيدي للمكان الذي أرغب أن أرى جماله، فلا زلت أستغرب من أولئك الذين يرون العالم بحدود عالمهم.
لكل منا دور، ليس محصوراً بالمكان الذي نولد فيه أو الزمان الذي نعيش فيه، فهذا العالم العظيم أقرب إلينا منا الآن
نستطيع أن نترك بصمة في أي مكان، في أي حدث، أن نصنع فرقاً؛ فما ستكون بصمتنا باتجاه السودان؛ · كم من مصوّر وصانِع أفلام بيننا يتنقّل من بلد إلى بلد ليجد موقع تصوير مختلفاً أو فكرة يبني عليها مشهداً، أقول له زُر السودان؟ السودان الغني بالعادات والتقاليد والتفاصيل الصغيرة التي تصلُح لأفلام عالمية تجني الجوائز والملايين · كم من ريادي يرغب بسوق مفتوح يستثمر به الأموال أقول له فكّر بالسودان فرأس المال ليس له وطن فأينما يُثمِر يُغرَس. ·لكل رسّام وعازف ومُدّرب وصحافي ومُدوّن يبحث عن جديد أقول التفت إلى السودان واستثمر جماله وطاقات شبابه ·كم من مُبادرات ومؤتمرات تُعقَد هنا وهناك …ما رأيكم أن تكون هذا العام في السودان.
لكل منا أقول …هل فكّرت يوماً أن تفتح عينيك على السودان، أن تزور السودان ؟؟  أقبِل ولا تخف
أما أنا فالسودان بالنسبة لي ” مُذهلة … كل شي فيها طبيعي…… ومش طبيعي ……. أجمل من الأخيلة

قد يعجبك ايضا