المثقف بين السياسيين والسياسي بين المثقفين. هكذا عرف نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة، الذي انطفأ أمس عن 94 عاماً، وفي جعبته تاريخ نضالي وفكري طويل، بدأ في العراق، وجال به في دول العالم، قبل أن يغفو نهائياً في شقته المتواضعة في مار الياس في بيروت. ولد كريم مروة في بلدة حاريص الجنوبية. والده رجل الدين الشيخ أحمد مروة الذي أخذ منه الناحية الدينية في صغره، فختم القرآن عن عمر الثمانية في كتّاب القرية. في أواخر عام 1947، أرسله والده إلى بغداد لمتابعة دراسته الثانوية برعاية ابنه الشهيد حسين مروة. هناك، تعرّف إلى عدد كبير من المثقفين العراقيين؛ في مقدّمهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري.

كان حسين مروة ملهماً لجيله وعائلته. بعدما خلع الأخير عمامته وتوجّه نحو الفكر الماركسي، تبعه كريم، وخصوصاً بعد مشاركته في الانتفاضة في العراق عام 1948 ضد المعاهدة الأنغلو عراقية التي كانت تنصّ على السماح للجيوش البريطانية بدخول العراق خلال أي حرب أو اشتباك مع إيران، وسمحت بأن يمدّ العراق هذه الجيوش بكل التسهيلات والمساعدات في أراضيه ومياهه وأجوائه، وبات أحد الشيوعيين العراقيين.

في فترة شبابه، تحوّل نحو القومية العربية، وخصوصاً بعد مطالعته مجلات «الهلال» و«الرسالة» و«الكاتب المصري» و«الطريق»، وانغماسه في كتابات جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وجرجي زيدان، وعباس محمود العقاد وغيرهم من الكتّاب العرب.
لم يكن يصنّف نفسه قومياً عربياً بما كان سائداً يومها، ما قرّبه أكثر من الشيوعيين، وخصوصاً بين أساتذته وأصدقائه. بنى قوميته على وطنيته اللبنانية ومشاعره القومية العربية. كانت فلسطين في وجدانه، بدايةً لقرب قريته إلى الشمال الفلسطيني والعلاقة الوطيدة التي جمعت أهالي القرى اللبنانية الجنوبية بالعائلات والمدن الفلسطينية.
وفي أعقاب الحرب العربية في فلسطين لمنع قرار التقسيم، والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية، توجّه نحو الاشتراكية، كاحتجاج على الهزيمة وضياع فلسطين، إلى جانب انبهاره بالاتحاد السوفياتي والإنجازات التي حقّقها في الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.

عاد الى لبنان ودخل الى الجامعة اللبنانية عام 1952، في فرع الأدب، وبقي فيها لعام واحد. قبل انتسابه الى الحزب الشيوعي، انتخب نائباً لرئيس الرابطة الطلابية بصفته شيوعياً. وفي عام 1953، تقدم بقرار من الحزب للامتحان النهائي في الجامعة ليتوجه بعدها إلى مدينة بودابست، من أجل تمثيل الشبيبة العربية في قيادة «اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي». مثّل حركة «السلم اللبنانية» في قيادة «مجلس السلم العالمي» في فيينا عام 1962، وزار دولاً عدة، وشارك في مؤتمرات وندوات تعرّف خلالها الى مثقفين من دولٍ كثيرة، والتقى العديد من قادة الدول والأحزاب من كلّ الاتجاهات.
استدعاه الأمين العام السابق للحزب نقولا الشاوي ليكون عضواً قيادياً في الحزب عام 1964، بعد انفصال الحزبين اللبناني والسوري. في عام 1966، تشكّل مكتب سياسي ولجنة مركزية في الحزب، وكان مروة الى جانب جورج حاوي، أصغر الأعضاء القياديين في مقابل ما يعرف بالحرس القديم، وهم: نقولا الشاوي، حسن قريطم، أرتين مادويان وصوايا صوايا. أمر أنتج خلافات بين التيارَين المحافظ والتجديدي الذي كان يطالب بفصل القرار الحزبي عن الاتحاد السوفياتي. انتهى الصراع بفرض قرار التجديديّين في المؤتمر، الذي انعقد في صيف عام 1986، في الوثائق الجديدة التي أقرّها المؤتمر، ووضع صبغة جديدة لاشتراكيّتهم، تتّسم بالديموقراطية وبالقيم الإنسانية التي تُعبّر عنها الاشتراكية. بقي كريم مروة عضواً قيادياً في الحزب الشيوعي بين عام 1966 و1999، وانتخب نائباً للأمين العام في المؤتمر الوطني الخامس عام 1987. تعرّض عام 1985 لمحاولة اغتيال في ظل موجة الاغتيالات التي طاولت قادة ومفكرين شيوعيين من قبل ما يسمى بالقوى الظلامية. عاد عام 1990، ليكون المشرف على جريدة «النداء»، بعد المشاكل التي كانت تعانيها الصحيفة والحزب على حد سواء. اعترض يومها بسبب تقدمه في العمر، فعمل على تأمين تمويل للجريدة من رجل الأعمال جميل سعيد. كما استغل علاقته بهيئة إدارة «طيران الشرق الأوسط»، وخصوصاً مع سليم سلام ويوسف لحود، وعقد اتفاقاً بوضع إعلانات للشركة في المجلة مقابل توزيع الجريدة في كل رحلات طيران «الشرق الأوسط» مثل سواها من الصحف، فوافقوا على ذلك.

توجّه نحو الاشتراكية كاحتجاج على الهزيمة وضياع فلسطين

في تلك الفترة، طلب منه حاوي تحضير الوثيقة النهائية للمؤتمر السادس، وتوجه مع الراحل جورج بطل الى دمشق لإعداد الوثيقة، وعملوا عليها طوال أربعة أيام، وأقرت في المؤتمر مع بعض التعديلات. استقال نهائياً من الحزب عام 1999، محافظاً على يساريته، وتابع نشاطه الفكري والسياسي، فعمل على نقد للتجربة الاشتراكية، على الرغم من كونه يومها نائب الأمين العام للحزب، وحاول الحفاظ على استقلاليته. قدم خلاصة هذا النقد في كتاب «حوارات» الذي صدر عام 1990، وناقش أربعين مثقفاً عربياً.
أدّى كريم مروة دوراً بارزاً في الصحافة، حيث عمل في تحرير جريدة «النور» التابعة للحزب الشيوعي في سوريا في أواخر الخمسينيات، قبل انفصال الحزب بين لبنان وسوريا. وعندما وقعت الانتفاضة في بيروت عام 1958، عاد إلى لبنان وشارك في الأعمال العسكرية، وكان مسؤولاً عن مستودعات الأسلحة في بيروت.
كان أحد مؤسسي جريدة «النداء» التي كانت ناطقة باسم «حزب النداء القومي» في ثلاثينيات القرن الماضي، وانتقلت ملكيتها في الأربعينيات الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ليعود الحزب الشيوعي ويشتريها مطلع عام 1959. يومها استدعى الأمين السابق للحزب الشهيد فرج الله الحلو، الى جانب مجموعة من الشيوعيين للانضمام إلى هيئة تحرير الصحيفة، وأصدروا العدد الأول في 21 كانون الثاني (يناير) عام 1959. واكب مروة النجاحات والصعوبات التي عاشتها الصحيفة طوال نصف قرن من الزمن، وبقي نائب رئيس التحرير حتى عام 1966. قدم إسهامات فكرية ونظرية وقرابة أربعين كتاباً، منها «الحزب الشيوعي اللبناني: سياسته وأهدافه» وزّع مع جريدة المحرر اللبنانية (1969)، و«ماذا بعد حرب تشرين؟» (1974)، و«جدل الصراع مع إسرائيل وجدل السلام معها» (1994)، و«الوطن الصعب والدولة المستحيلة – حوار بين كريم مروة وكريم بقرادوني» (1996)، و«من ذاكرتي الفلسطينية» (1998)، و«الفكر العربي وتحولات العصر» (2006)، و«أزمة النظام العربي وإشكاليات النهضة» (2006)، و«الشيوعيون الأربعة الكبار» (2008).