تحية لجنوب إفريقيا / د. محيي الدين عميمور

د. محيي الدين عميمور ( الجزائر ) – الإثنين 1/1/2024 م …

كنت تناولت أكثر من مرة مواقف الشمال النصراني- العبراني من قضايانا الوطنية وذكّرت، بالأمثلة التاريخية، سلسلة الأعمال الإجرامية للقوم هناك ضد شعوب الجنوب، بل أحيانا ضد أبناء جلدتهم نفسها، وكان من ملامحها إعدام “جان دارك ” حرقا قبل إعدام “سليمان الحلبي” باستعمال “الخازوق”، وبين هذا وذاك شنق جثة “كرومويل” بعد أن “شبع موتا”.




ولا حديث عن محاكم التفتيش الإسبانية ومآسي الجمعة 13 ومذابح البروتستنانت الفرنسية، فكلها قضايا معروفة، وتؤكد أن “سوسة” العنف والتوحش موجودة في نفوس القوم، تغطيها قشرة التصرفات الإنسانية التي يفرضها التغني بالشعارات الحضارية.
لكن التوقف عند هذه المعطيات المؤكدة تاريخيا يمكن أن يقودنا إلى خطأ تاريخي أكثر خطورة، لأن هناك وجها آخرَ للعملة يجب ألا يغيب عنّا إدراكه وحسن التعامل معه.
فلقد كان للجماهير الأوربية والأمريكية بوجه خاص فضل كبير في وضع حدّ نهائي لحرب الفيتنام، حيث كانت التظاهرات الشعبية مصدر صداع دائم للقيادات الأمريكية السياسية التي تشكل جبل الثلج العائم لشركات الأسلحة ولوبيات النفط وتجمعات الحقد الأبيض.
وكان دور جماهير الشعب الفرنسي حاسما في إقناع القيادة الفرنسية بأن “الجزائر الفرنسية” قد أصبحت نكتة سمجة يدفع ثمنها أبناؤهم، وربما كان أكبر نجاح للثورة الجزائرية أنها نجحت في تأليب شرائح فرنسية مؤثرة ضد سياسة الإليزيه والكي دورسيه.
وهكذا كانت تظاهرات الشعوب في الشمال واحدا من أهم أسلحة الجنوب في محاربة الاستعمار بما فرضته من ضغوط على الساسة وأصحاب القرار.
وهنا تبدو روعة الإنجاز الذي حققه “طوفان الأقصى”، برغم الثمن الرهيب الذي دفعه ويدفعه أبناء فلسطين، ولا أركز على غزة وحدها رغم أنها دفعت الثمن الأفدح، لكن القضية الرئيسية هي فلسطين، هي كل فلسطين، وأفضل هنا ألاّ أخوض فيما يمكن أن يُعتبر غمزا ولمزا في رفات “أوسلو”.
من جهة أخرى، أتصور أن التظاهرات الشعبية في الوطن العربي يمكن أن تحمل أكثر من معنًى ودلالة، انطلاقا من تحديد “المؤسسة” الدافعة لها والمُحركة لعناصرها، وهنا يكمن الاختلاف الجوهري مع تظاهرات الشمال.
وتجاهل هذه الحقيقة يمكن أن يكون مصدرا لخديعة ضبابية قد تصبح أحيانا دعما غير مباشر للإجرام الصهيوني.
بوضوح أكثر، يمكن اعتبار التظاهرات الشعبية أمرا جديرا بالتقدير إذا كانت “مبادرات” تتمكن من أن تفرض على القيادات الوطنية اتخاذ مواقف تتطلبها تطورات الأحداث وإزدياد خطورتها.
أما إذا كانت من نوعية “أوسعتهم سبّا وأودوا بالأبل”، أو كانت تجمعات “مُفبركة” مدفوعة من مواقع سلطوية تكون ستارا لتهرب القيادات من القيام بمسؤولياتها الوطنية، أو لكي “يُقال من ذا قالها”، فلا يمكن أن تحظى بنفس التقدير الذي تحظى به تظاهرات شعوب الشمال ضد حكوماتها، لمجرد أن التظاهر ليس هدفا في حدّ ذاته وإنما هو وسيلة من وسائل تحقيق الهدف المطلوب، وهو إيقاف العدوان الهمجي علي أشقائنا في ربوع الأقصى.
وهذا يعني أن أي تظاهرات لا تحقق ذلك الهدف يجب أن تعتبر إدانة لأنظمة الحكم التي تؤكد، بسلبيتها، أنها لا تحترم صرخات شعبها وأنّات أبنائها ودماء شهدائها.
ومن هنا تصبح أنظمة حكم معينة أجدر بالإدانة من حكام لندن وواشنطون وباريس، وتصبح “جنوب إفريقيا” أكثر عروبة ممن صدعونا طوال السنين الماضية بصرخات “أمجاد يا عرب أمجاد”.

قد يعجبك ايضا