شلال الحكايات في غزة: روايـات الــنــسـاء / فيحاء عبد الهادي

فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) – الأربعاء 27/12/2023 م …

تتجوّل الحكايات في غزة؛ مدنها ومخيماتها؛ أزقتها، وأحيائها، وأبراجها، ومستشفياتها، ومراكزها الصحية، ومدارسها، وجوامعها، وكنائسها، ووحداتها السكنية، وبناياتها التاريخية، ومؤسساتها التربوية والتنموية والثقافية والاجتماعية والصحية.  




تمشي الحكايات بين الناس حافية القدمين، مشعّثة الشعر، ممزّقة الملابس؛ لتحكي ما لديها، أو بعض ما لديها، أو بعض بعضه؛ مما يلتقطه الإعلام ويسلّط الضوء عليه، ومما يظلّ في الصدور؛ مخفياً ومسكوتاً عنه.
يحكي الرجال والنساء؛ أطفالهم وشبابهم وكهولهم وشيوخهم؛ يحكون بصمتهم حيناً، وبألسنتهم حيناً، وبعيونهم، وآذانهم، وأيديهم، وأقدامهم، ورؤوسهم أحياناً.
وحين تحكي النساء؛ تنفتح عوالم وعوالم أمامنا وأمام العالم؛ هي المرأة التي تحمل همّها وهمّ أفراد عائلتها، وهمّ وطنها في آن.
هي المرأة التي تحتاج العيش في العالم الواقعي؛ لتعرف وتحدِّد كيف يمكنها أن تواجه ما يحدث من خراب ودمار وأوضاع كارثية أمامها وخلفها؛ حرب الإبادة، والتطهير العرقي، والمجازر الوحشية، وتحتاج العالم الغرائبي، والعالم الخيالي؛ كي تطمئن أطفالها ما أمكن «هذه ألعاب نارية»، وتداوي جروحهم وآلامهم واضطراباتهم الليلية، وصدماتهم النفسية؛ بعد فقدان أفراد عائلتهم جميعاً، أو أحد أفراد العائلة، أو فقدان كتبهم، وألعابهم، وأقلامهم، وعلب ألوانهم، وقرطاسيتهم، وصورهم، وذكرياتهم، وحيواناتهم الأليفة، تحتاجه لتجعلهم يحتملون ما لا يحتمل، وما لا يطاق، من نقص الطعام وانقطاع المياه والكهرباء والدواء والوقود والملابس الدافئة، وشروط الحياة الإنسانية كافة.
*****
خرج/نزح العديد من سكان شمال غزة إلى الجنوب؟ لم يبقوا في بيوتهم؟ لماذا أُخرجوا؟ وكيف؟
ما أشبه اليوم بالأمس! سؤال يحيلنا إلى آخر، طالما ردَّده بعض الفلسطينيين والعرب عاتباً أو متسائلاً ومستفسراً، بعد تهجير الفلسطينيين العام 1948.
جاءت روايات من هُجِّرن ومن هُجِّروا لتجيب عن بعض هذه التساؤلات بوضوح:
«جيرانّا كلها انقصفت، وكل اللي في دارهم استشهدوا 25 نفر، لقينا جثة الولد من اولادهم ع الطابق الخامس في دارنا، ع الشباك، اليهود يِتِّصلوا بأسطوانة: اطلعوا ع الجنوب، ممنوع تظلوا في الشمال. رحلة نزوحنا؟ موت أحمر، زَيّ يوم الحشر، يوم تاريخي ما بيِنتَساش، زَيّ التغريبة الفلسطينية الثانية وأمَرّ، رحلة ما بَنساها في حياتي قيمة ما أنا حَيِّة».  
تحدث النساء والرجال عن قذائف الطيران الحربي، والقذائف المدفعية، والقنابل الدخانية والفسفورية، التي كانت تطلق على البيوت والمدارس والمستشفيات ودور العبادة والدفاع المدني، وتحدّثوا عن الشهداء «شاهدنا أجسادهم تتطاير حولنا»، وعن الجرحى والمفقودين والمختطفين، تحدّثوا عن القصف المتواصل للبيوت والمنشآت، وعن نسف البيوت والأبراج السكنية أمام أعينهم، دون تمييز أو تحذير، كما تحدّثوا عن المجازر الوحشية؛ تلك التي شهدوا بعضها بأمّ أعينهم، وتلك التي سمعوا بحدوثها.
تحدثوا عن الإعدامات الميدانية، وعن مكالمات الموت الهاتفية، الصادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي كانت تدعوهم للخروج من بيوتهم فوراً، وتنذرهم بالموت في حال البقاء.
«كنا ضدّ، بِدناش نِتهَجَّر زيّ الـ 48 بس ما قدِرناش نِتحَمّل، كان كل يوم أحزمة نارية وصواريخ ووضع مخيف جداً».
*****
وحين روت النساء؛ حضرت تفاصيل لا ترويها سوى النساء؛ مستلزمات النظافة الشخصية، وأهمها الفوط الصحية التي تحتاجها المرأة شهرياً، والتي يسبب نقصها أمراضاً خطرة مثل سرطان عنق الرحم، بالإضافة إلى نقص الطعام والمياه والدواء وحليب الأطفال والتطعيمات والخدمات الوقائية – مما تحتاجه الحوامل، والأطفال الرضّع، وكبار السنّ، والأطفال، وذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى الكلى والسكر والسرطان – وبعض الخصوصية.
هذه المعاناة التي حملتها المرأة الفلسطينية في غزة تحت جلدها؛ طبيبة، وإعلامية، وممرضة، وصحافية، ومسعفة ميدانية، وربة بيت، ووالدة، وجدة، وشقيقة، وطفلة؛ قبل التهجير، وفي البلد التي هجِّرت إليها، في محاولة للوصول إلى حلول تساهم في صمود عائلتها وتماسكها، وتبقيها على قيد الحياة.
حين لم تجد الغاز استخدمت الحطب «بنُطبُخ ع الحطب وبنِخبِز ع الحطب، وكلّه بياخد وقت مضاعف، والمَيّة غالية بثمن الذهب، ما بتِصَل مياه البلدية، والكهربا حكاية؛ لما بتِنقِطِع بنِشحن بطاريات، بنشبك فيها مصابيح خافتة تسمى لِدات، وبنشبك عليها راوتر للنت، وبعض البيوت عندها خلايا شمسية لتوليد الكهربا بتعطي الجيران، أو بتشحن البطاريات للجيران. وبعض الناس بتروح ع مراكز الأونروا والمراكز الصحية»، وحين انقطعت الكهرباء؛ غسلت بيدها في الطشت، وحين لم تجد طعاماً للطهي؛ استخدمت الحشائش، والمعلبات حين تتوفّر، وحين لم تجد الفوط الصحية؛ استخدمت ما تيسّر من أغطية الأسرّة، والملابس، وتناولت حبوب منع الحمل لتأخير الدورة الشهرية.
*****
تبدأ النساء رواياتهن بالقول: «الحمد لله على كل شيء»، ويختمنها بالقول: «شعب بِتأقلَم وبِكافِح».
وأقول: شعب عظيم مثل شعبنا؛ يعاني ويصمد ويقاوم؛ لن يقبل سوى بالنصر.

قد يعجبك ايضا