إعادة هيكلة الإقتصاد العالمي – عرض كتاب “الإقتصاد العالمي سنة 2024” / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 14/11/2023 م …




صَدَر كتاب “الإقتصاد العالمي سنة 2024” عن دار النّشر الفرنسية ( La Découverte ) في أيلول/سبتمبر 2023، وهو عمل جماعي – بإشراف إيزابيل بنسيدون وجيزابيل كوبي-سوبيران – يُمثّل التحليل السنوي للاتجاهات المستقبلية الرئيسية التي يُعِدُّها مركز الدراسات الاستشرافية والمعلومات الدولية (CEPII)

ينطلق الكتاب من وضع الإقتصاد العالمي الذي “يواجه صدمات كبيرة بسبب أزمة الطاقة والحرب على الأراضي الأوروبية، وارتفاع نسبة التضخم والسياسات النقدية المُتَشَدِّدَة والاضطرابات المالية…” ما أدّى إلى انخفاض نسبة نمو الإقتصاد العالمي من 6,1% سنة 2021 إلى 3,4% سنة 2022، وتجدر الملاحظة إن الكتاب يهتم بشكل خاص بوضع الدّول الغنية، وخصوصًا الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومنطقة اليورو، وتبقى المعلومات والتحليلات شحيحة بخصوص دُول “المُحيط” (أو “الأَطْراف”) ولذلك يمكن تصنيف الكتاب ضمن الفكر المَرْكَزاني الأوروبي ( Eurocentrism ) وتكمن أهمية الكتاب في حجم المعلومات التي يوردها…

اتّسمت فترة 2022 و 2023 بارتفاع الضغوط التضخمية – التي لم تكن ناتجة عن زيادة النشاط الإقتصادي وتراكم الإنتاج – وارتفاع أسعار المستهلكين بنسبة 40% في منطقة اليورو، ما أدّى إلى انكماش الإستهلاك، فيما زادت أرباح المصارف والشركات العابرة للقارات، رغم التّوتّرات التي شهدها القطاع المالي بعد سنة 2021، والتي أدت إلى إفلاس العديد من المصارف الإقليمية الأمريكية وإفلاس “كريدي سويس”، ثاني أكبر مصرف سويسري، وترافقت هذه “التوترات المصرفية” مع الزيادات الحادة في أسعار الفائدة التي أقَرّها مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ومع أزمة حادّة في قطاع العقارات – في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وكذلك في الصين – وهو القطاع الذي تسبّب انهياره في أزمة 2008/2009

أما البلدان الفقيرة فإنها تتحمل نتائج تبعية اقتصادها ل”المَرْكز” (أمريكا الشمالية وأوروبا)، وأدّت الزيادات المستمرة في أسعار الفائدة وارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملات المحلية ( وهو إجراء يفرضه صندوق النقد الدّولي) إلى زيادة حجم ديونها وتَخَلّف ما لا يقل عن تسع بلدان عن تسديد ديونها السيادية بين سنتَيْ 2020 و 2023،

من التغييرات الحاصلة في هيكلة اقتصاد الدّول الغنية، التّخلِّي التّدريجي لنموذج النمو بواسطة الرّفع الإصطناعي للطّلب بواسطة تيسير الإقراض العقاري الذي يُحَفِّزُ قطاع الإنشاء والبناء والإعمار، أو بواسطة تضخّم قطاع الخَدَمات، واستبداله بإعادة التصنيع “لإعادة بناء النسيج الإنتاجي” غير إن هذه الخطّة عسيرة التّحقيق في ظل العَوْلَمَة النّيوليبرالية التي “صَدّرت” جُلّ الصناعات المُلَوِّثَة والتي تتطلّب حجمًا كبيرًا من العَمالة، إلى بلدان “الأطْراف” وخصوصًا إلى آسيا التي أصبحت مُنافسًا جِدِّيًّا لأمريكا الشمالية وأوروبا، في إطار المنظومة الرأسمالية العالمية، وهذا جُزْء من عمليات إعادة تشكيل الإقتصاد العالمي الذي أرادات الولايات المتحدة التّحكّم به من خلال إطلاق شعار “لن يكون القرن الواحد والعشرون سوى أمريكيا”، غير إن للصين مُخطّطاتها وأهدافها التي تتعارض مع الأهداف الأمريكية، رغم القوة العسكرية الأمريكية الغاشمة، ورغم هيمنة الدّولار على سوق المواد الخام وعلى المبادلات التجارية والتحويلات المالية الدّولية…

شكّلت الأزمة المالية والأزمة الصحية سنة 2020 (وباء كوفيد – 19) وتعطيل حركة التجارة الدّولية خلال فترة الإغلاق الإقتصادي، والحرب في أوكرانيا، محفزات لإعادة تشكيل الإقتصاد العالمي، بدفع من الولايات المتحدة – التي لا تستشير حلفاءها عندما يتعلق الأمر بمصالح شركاتها ومصارفها ــ التي ضخّت مبالغ ضخمة من المال العام في خزائن المصارف والشركات الخاصة الكُبْرى، منذ 2008، وترافقت تلك الإعانات الضخمة مع العديد من التدابير الحمائية التي فرضتها فيما بعد على دول العالم خلال لقاء الحُلفاء بواشنطن (نيسان/ابريل 2023) الذي عُرِفَ ب”وفاق واشنطن – 2″ في إشارة إلى “وفاق واشنطن” سنة 1989 الذي تدارس تقاسم النّفوذ، قبل أقل من خمسة أشهر من انهيار جدار برلين، بين أمريكا الشمالية وأوروبا من خلال إعادة هيكلة منظمة التجارة العالمية وتوسيع حلف شمال الأطلسي وفَرْض النيوليبرالية ضمن عالم وحيد القُطْب، وحَشَدت الإمبريالية الأمريكية، خلال لقاء نيسان/ابريل 2023، حُلفاءها على أُسس عقائدية وعسكرية واستبدلت “سيادة الأسواق الحُرّة” بالحمائية المُقَنَّعَة وعَسْكَرَة السياسة الخارجية، وإطلاق سلسلة من الحُروب، من العراق سنة 1991 إلى أوكرانيا 2022، مرورًا بأفغانستان واحتلال العراق وتخريب وتفتيت ليبيا وسوريا واليمن والصومال…

استخدمت الولايات المتحدة الأزمات التي غالبا ما تَفْتَعِلُها “لغاية في نفس يعقوب” لإعادة تشكيل العالم، ففي مجال الطاقة، فَرَضت على “حُلَفائها” في الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي مُقاطعة الغاز الروسي عالي الجودة ورخيص الثمن، وشراء الغاز الصّخري الأمريكي الرّديء وعالي الثمن، بسعر يُعادل خمسة أضعاف الثمن الذي تُسَدّده الشركات الأمريكية، وأدّى الحرب التي أشعلتها استفزازات حلف شمال الأطلسي إلى مُضاربة أعضاء حلف شمال الأطلسي بالحبوب، ما جعل عواقب الحرب في أوكرانيا تتجاوز حدود الاتحاد الأوروبي، لتصل إلى إعادة تشكيل حركة التجارة العالمية للمحروقات والحبوب وعلف الحيوانات والأسمدة والمعادن، واستفادت الصين والهند من شراء المحروقات الروسية الرخيصة وإعادة تصديرها إلى أوروبا والعالم، فيما اشترت دول الإتحاد الأوروبي القمح والحبوب الأوكرانية بأسعار منخفضة لإعادة بيعها إلى إفريقيا بزيادة 200% واتهام روسيا بتجويع سُكّان البلدان الفقيرة، وضخّت الدّول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي مبالغ طائلة لتسليح أوكرانيا، بهدف الإستحواذ على الأراضي الخصبة والمعادن والشركات الأوكرانية، لأن أوكرانيا لن تتمكّن من تسديد مبالغ القُروض التي لم تتسلّمها نقدًا بل أسلحة تُحارب بها روسيا…

شدّدت الولايات المتحدة الحصار على الصّين بهدف إضعاف القدرة الصناعية الصينية في القطاعات الأساسية مثل أشباه الموصلات والتكنولوجيا المتطورة، وأعلنت الولايات المتحدة “حماية الصناعات النّاشئة” ضمن ما أطلقت عليها “الثورة الصناعية الجديدة” لكبح تطور اقتصاد الصين وروسيا، لأن الإمبريالية الأمريكية ترفض المنافسة (وهي من الأُسُس المُعْلَنَة للإقتصاد الرأسمالي) وتعمل على حل التناقضات باستخدام القُوّة العسكرية كُلّما كان ذلك مُمكنًا، غير إن هذا الحل غير مضمون العواقب في جنوب آسيا والمحيط الهادئ رغم كثرة القواعد العسكرية الأمريكية…

يُلِحُّ باحثون من نفس المؤسسة البحثية – مركز الدراسات الاستشرافية والمعلومات الدولية (CEPII) – على دَوْر سياسات “مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري” في زيادة الهيمنة الأمريكية التي استخدمت، ولا تزال، “حقوق الإنسان” و”الشفافية” و”الحَوْكَمَة” وحتى “احترام حقوق المرأة والطّفل” لإقصاء بلدان عديدة من أسواقها وأسواق حلفائها ( كندا وأستراليا وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية…) وتهاجم بلدانًا أخرى بذريعة “تهديد الأمن القومي الأمريكي”، وتمكنت الولايات المتحدة بذلك من عَسْكَرَةِ حركة التّجارة الدّولية لتأمين إمدادات الشركات الأمريكية،ووضع حواجز تجارية على إنتاج الصين في مجالات الطاقة النظيفة (الألواح الشمسية) والإتصالات (شركة هواوي والجيل الخامس – G5 ) والبطاريات الكهربائية التي تتطلب تصنيع معدن الليثيوم الموجود في بوليفيا أو الكونغو وغيرهما، وتهدف الولايات المتحدة إعادة تشكيل معالم السياسات الصناعية والتجارية، في إطارالتنافس الصيني الأميركي، ورفض التّعَدُّدِيّة، وأصبحت الولايات المتحدة، رائدة النيوليبرالية، تتدخّل (عبر الإحتياطي الفيدرالي) في حركة تدفقات رأس المال وأسعار الصرف، من خلال زيادة أو خفض مؤشر أسعار الفائدة في إطار عمليات إعادة التشكيل للمنظومة الموروثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والمعروفة باسم اتفاقيات بريتن وودز…

زادت هذه السياسات التي تفرضها الولايات المتحدة (وحلفاؤها) من صعوبات بلدان “الجنوب” لأنها لم تقطع مع المنظومة الرأسمالية، لكنها لا تمتلك الأدوات والإمكانيات التي تستطيع الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حشدها، ولم تستثمر في مجالات الزراعة والبحث العلمي والنّقل وتطوير الإبتكار من خلال المواد الأولية والموارد المحلية الخ

قد يعجبك ايضا