الجسد الفلسطيني في مواجهة الإبادة.. من الموت إلى القيامة / بثينة الزغلامي

بثينة الزغلامي ( تونس ) – الأحد 12/11/2023 م …




“حيوانات بشرية”. هكذا وصف غالانت سكان غزة لاستباحة أجسادهم وإبادتهم، لكن الجسد الفلسطيني المسلوب والمضطهد والمقاتل في آن عصي على الاختفاء. شاركونا هذه القراءة في الجسد الفلسطيني.

أعاد العدوان الإسرائيلي على غزة الى الأذهان طرح ثنائية الجسد والحرب تحت الاحتلال، والمفاهيم النفسية والاجتماعية المتعلقة بالابادة الجماعية والتطهير العرقي و”قتل المنازل” والمقاومة والتضحية. ولذلك نجد اليوم أنه لا بدّ من تفكيك وإعادة النقاش في المفاهيم المتداولة، وهي غربية، عن الجسد والأرض والاستباحة.

تذهب الباحثة الفرنسية مود جولي في بحثها “الجسد /الحرب – المخيلات والأيديولوجيات والتدميرات”، إلى أن هذه العلاقات في العنوان تبدو أساسية في “مأدبة الحرب”، لأنها تدور حول الجسد لإعادة تفسير ظاهرة العنف الجماعية المسلطة عليه. فهناك عتبة أولى وهي ما أطلقت عليه اسم “ذخيرة العدوان” (فيديوهات الضحايا – الصور التي توثق للعنف والقسوة – الشهادات الحية – الأشياء المتروكة)، وهي كل ما يدخل في الفضاء الحيوي الذي يتحرك فيه الجسد المنتَهَك. وتظهر لنا المشاهد المروعة أجساداً مشوهة ومعادة التركيب بعيداً من الهيئة الإنسانية الطبيعية، كأنما أعاد فرانكشتاين جمعها.

أي هناك تدنيس لفيزيولوجيا الكائنات البشرية. وهناك أجساد مقموعة تجاوزت الحيز المؤسساتي المرعب الذي تحدث عنه ميشال فوكو. فقد حولت سلطة الاحتلال غزة إلى سجن عقابي كبير، تتوفر فيه كل عناصر السادية، ولم يعد هناك حديث عن الشر في معناه الأخلاقي، بل تحول إلى سلوك مقنن لدولة الاحتلال.

تبدو غزة اليوم غير بعيدة من هذه التمثلات القديمة. فالأشلاء المجمعة في أكياس بلاستيكية أو المبتورة والدامية والمتفحمة، هي أجساد غير خاضعة للسياق الجمالي النفعي الغربي الذي يرى فيها مظاهر جنة أرضية وجب تحصينها بالتجميل والعناية الصحية، وتسييجها بالمباهج الأرضية، كما تسوّق لها صورة إعلانات الجمال والرفاه في عالم خال من الاحتلال والاستخدام القاتم لأعنف آلات التدمير، بداية من الدبابات وصولاً إلى القنابل الفوسفورية المحرمة دولياً. مما يعني أنّ الجسد حضور ووعي بما يحدث، وهو شاهد يجب التخلص منه. هناك أجساد فائضة عن حاجة الصورة المنتقاة للرفاه وايتيقا (فلسفة أخلاق) الوجود من منظور الاحتلال.

وفي صلب الجسد/الحرب توجد “مساحة” لشخصية المدني الضحية الذي تحول إلى جبهة قتال، ويشكك الطبيب الفرنسي فريديريك بيلين في العلاقة بين التدمير الضروري للمدنيين حسب منطق دولة الحرب، والذي يوصف بالأهداف السهلة، وبين سعيها لتطوير استراتيجيات عسكرية فتاكة ذات مهمة “وقائية”. من هنا، يمكن طرح ماهية الأسلحة المستخدمة واعتبار الجسد/الضحية مختبراً حياً لإثبات تفوقها.

الجسد المستباح إذاً، من هذه الزاوية، مفتاح لفهم كيفية إدارة السلاح على أرض الواقع. وهو يطرح من زاوية أخرى  عبثية إبادة المدنيين ومصير الجثث بعد القتل وكيفية التعاطي معها، وهذا يعري تكييف الاحتلال لمعنى الضحية عبر مخزون تبريري تاريخي مبني على إسقاطات ماضوية في أرض مغايرة كان يقودها عدو  بعيد.

تحضر بروباغندا الرعب عبر تشتيت الأجساد في مناطق تبدو محمية كالمستشفيات ومؤسسات الإغاثة والمدارس وأماكن العبادة  بالأساس، لكنها تظل في مرمى نيران الأسلحة الاسرائيلية، ويبدو التشتيت الذهني أحد ركائز التدمير النفسي. فرمي المناشير بقصد تهجير السكان يبدو أمراً في غاية الغرابة ويذكرنا بالحروب الكونية الأولى والثانية والتي شملت كامل أوروبا، وكانت تهدف إلى شل حركة التنقل وعدم التصدي للقوى الساعية إلى الهيمنة على غيرها.   

عن “الحيوانات البشرية” و”الحداد المستحيل”

التركيز على الأطفال والنساء من خلال القصف الذي يبدو في ظاهره عشوائياً، يهدف قطعاً إلى نسف عناصر الهوية العائلية والمستقبلية للضحايا وللأرض. أرض بلا بشر يحفظون ذاكرتها، هي أرض بلا مستقبل. في هذا السياق تتكرر مشاهد لأمهات ثكالى وأطفال يتامى وأخوة مفقودين. الأمر الذي دفع بآباء وأمهات إلى كتابة أسماء وتواريخ ميلاد أطفالهم على أيدي أبنائهم، حتى يتم التعرف عليهم بعد الغارات واعتبارهم مشاريع شهداء محتملين في أي لحظة.

 

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجنازات، التي تحولت إلى أهداف للقصف الصهيوني بغية إذلال الضحايا ودفعهم نحو “الحداد المستحيل”، وهي عبارة للباحثة مود جولي، حيث يتم استبعاد الموتى من اللّحمة الاجتماعية. أو كما تقول الباحثة مارلين لوفيير بتحويل الضحايا المجهولين إلى أشخاص “بلا أثر”، أي غير موجودين في سجل الموتى أو الأحياء.

في تصريح مثير للاستهجان شبّه وزير حرب حكومة الاحتلال يوآف غالانت سكان غزة بــ “الحيوانات البشرية”، وقال إنه يجب معاملتهم وفقاً لذلك. إذا عدنا إلى الجذور الفلسفية لهذا الكلام العنصري، فإننا يمكن أن نعتمد بحث الفيلسوفة الفرنسية فلورانس بورغات “منطق إضفاء الشرعية على العنف – الحيوانية مقابل الانسانية”، حيث تتحدث عن تشبيه الانسان بالحيوان، وترى أن هناك استدلالاً يدور حول القطبين المتناقضين للانسانية والحيوانية.

إذ يتم تعريف أحدهما بأنه عكس الآخر،  وتكمن الفكرة التوجيهية في ملاحظة أن “الحيونة” خارج الواقع الحيواني لفئات محددة من الانسان والحيوان، يشكل عملية حرمان من التمتع بالحقوق واستحالة الوصول إلى شكل من أشكال الاعتراف الذي يسمح لأحد ما أن يتم التعامل معه كغاية وليس كوسيلة.

 

وفي هذا السياق نشير إلى أن اعتبار الفلسطينيين أشياء أو كائنات أقل منزلة في سلّم المخلوقات، يرسّخ منطق العنف المدروس ضدهم ويجعله قابلاً للتطبيق في مرحلة ثانية، مما يعني وجود خطاب سياسي قائم على نسف أخلاق الحرب والسلام معاً، أي الغاء الآخر في المنطق الصهيوني واعتباره غير جدير بأن يصل إلى الندية وهذا منتهى درجات العنف والوضاعة والإجرام.

 

منطق “حيونة الانسان” ينفي ما ذهب إليه علم النفس البيئي وعلم النفس عموماً، الذي يعرّف الهوية بأنها وعي الفرد بذاتيته ويتم ذلك عبر التعرف على المجموعة البشرية التي ينتمي إليها. فهو يصبح فرداً بإدراكه لما هو فريد في شخصيته، أي فرديته. ويقول عالم الاجتماع الفرنسي فنسنت دو كوليجاك بأن الهوية تعرف من خلال عضوية كل فرد لديه عائلة وطبقة اجتماعية وشعب وأمة ينتمي إليها.

فالذات الجمعية موجودة قبل الشخص والهوية الاجتماعية وهي عنصر تثبيت للفرد في محيطه الجماعي، وهو ما يراه بول ريكور في قوله إن الهوية السردية هي التأسيسية للذات، بمعنى أن الفرد مجموعة حكايات ومواقف لا تتحقق إلا بوجود مجموعة.

الإبادة الجماعية.. لماذا؟  

من المفارقات أن رافائيل ليمكين هو من صاغ مصطلح الإبادة الجماعية، بعد أن أعلن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل في آب/أغسطس عام 1943 في خطاب إذاعي، أن أوروبا التي ترزح تحت خطر النازية أمام جريمة مجهولة. الأمر الذي جعل المحامي البولندي يكتب مقالاً بعنوان “حكم المحور في أوروبا المحتلة والحاجة إلى مفهوم جديد للقتل الجماعي”، والذي يعني تدمير أمة أو مجموعة عرقية.

ومن أهداف هذه الإبادة الجماعية القائمة على خطة مسبقة، تفكيك المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية واللغة والدين والمشاعر القومية والحياة الاقتصادية، فضلاً عن قمع الأمن الشخصي والحرية والكرامة للأشخاص الذين ينتمون إلى هذه المجموعات.

يبدو الأمر اليوم كأنه استعادة تاريخية ارتدادية لما تقوم به قوات الاحتلال في غزة، حيث استخدمت ألف طن من المتفجرات يومياً وبلغ عدد الشهداء أكثر من 11 ألف شهيد، وتم استهداف نحو 110 المؤسسات الرعاية الصحية أصبح عدداً كبيراً من بينها خارج الخدمة. كما تم تدمير 31 مسجداً وألحق أضراراً بالغة بــ 3 كنائس، إضافة إلى تكثيف القصف على المباني التي تضم الجرحى، مما دعا المدير العام لمنظمة “أطباء بلا حدود” إلى القول بأن ما قامت به قوات الاحتلال في غزة “هجوم على الرعاية الطبية وهجوم على الإنسانية”.

سياسة “قتل المنازل” في غزة 

في كتابه “السياسات حول المنزل”، يتحدث الانثروبولوجي الهولندي جان ويليام  دوفينك عن أهمية الوجود في المنزل، والشعور الإيجابي الذي يخلقه لدى الانسان مقارنة بتكثيف صور المنفى والشتات وضغط الزمان والمكان والترحال في الحياة المعاصرة.

وهو يعتمد على علماء النفس البيئي الذين أكدوا، حسب رأيه، على أهمية الألفة من وجهة نظرهم التي تحلل الظواهر.

فالمنزل يُنظر اليه كمساحة آمنة سواء أكان في صيغة ملاذ أو مأوى، ويحفز المكان لدى الانسان الشعور بالمودة والايجابية ومن خلاله يحافظ الناس على التقارب، وهو عامل مساعد لتقوية الارتباطات الاجتماعية.

ويشير الكاتب إلى أنّ بيار بورديو يعترف بأهمية الألفة الذي يحدثها شعور المرء “كأنه في بيته”، وهو بالنسبة للانسان مثل لباس أو ثوب مألوف لديه. ويتساءل لماذا يعتبر الوطن منزلاً وتكثر الافكار الشائعة حول التربة والنبات والجذور والأرض وتدمج في اللغة اليومية؟ وهناك كثير من الاستعارات تلغي الحواجز بين الأنا وبين العالم الخارجي، بل إنها تندمج معه كلياً. فالعديد من الاستعارات المكانية تظهر استعارات القرابة (الوطن، الأم، الوطن الأم، وطن الوطن). وهنا تظهر فكرة المواطنة الأصلية والمقحم أو المحتلّ. فالسكان الأصليون جميعهم ساهموا في تجذير الثقافة في التربة وهو مصطلح مشتق من الأصل الاغريقي لمصطلح الثقافة للزراعة، ومفادها نحن نستطيع أن نكون في أمان لأننا متجذرون.

 يمثل الكلام السابق تهديداً للهويات ذات الصبغة العنصرية التي تسعى إلى إلغاء فكرة المنزل من خلال خلق أرض متحركة، أي قابلة للتهجير وإفراغها من مكوناتها البشرية والطبيعية، والقضاء على المعالم التي تمثل دعامة شرعيتها التاريخية  والانسانية. هكذا تسعى قوات الاحتلال إلى استخدام التدمير الممنهج، وبحسب بعض وكالات الأنباء فقد دمرت “إسرائيل” عقب عملية “طوفان الأقصى” أكثر من 40 ألف وحدة سكنية وأكثر من 220 ألف منزل، إضافة إلى الأسواق والمدارس والمنشآت ذات الصبغة الخدماتية العمرانية. 

الإلياذة الفلسطينية.. “أخيل الصهيوني” لا يريد للبطل أن يُدفن   

في الأبيات الأخيرة من “الالياذة” لهوميروس، عندما انتهت الصراعات بين خيول طروادة وأخيون، تمكن أخيل من هزيمة البطل هيكتور من أجل الانتقام لمقتل صديقه باترولوكس.

توسلت الآلهة إلى أخيل لإعادة جسد البطل، لكنه منع عنه الدفن. لكن الآلهة تتدخل وتحافظ على جسده سليماً طوال فترة احتجازه. من خلال هذه الملحمة تسير الأمور إلى الوضع المحدد لجسد المحارب. فهو أحياناً أسطوري وطوراً ممجد ومقدس، وهو في قلب سلسلة من التوترات. فالدفن مجد مستحق. قد تكون الأسطورة في  رمزيتها خلاصة متجددة عبر الأجيال والسياقات، فدائماً ما يُرمز الى المقتول في الحرب على أنه أيقونة وجب تكريمها وإعادتها إلى الأرض باعتبارها مصدر وغاية المقاومة.

لكن في الأسطورة الفلسطينية المعاصرة القائمة على أنقاض احتلال وصف بأنه الأكثر  عنصرية وتسلطية وشمولية في القرن الـت 21، يعاني أهالي شهداء الغارات على قطاع غزة من قلة الأكفان وامتلاء المدافن وقِدَم بعضها وعدم صلاحية بعضها الآخر، وصعوبة الوصول إلى المدافن المحاذية لخطوط النار.

كما يعاني الشهداء من قسوة تحويل جثامينهم إلى أرقام ووضعهم في قبور جماعية قد يصعب التعرف عليهم بعد انتهاء الحرب، خاصة وأن عائلات بأكملها قد أبيدت. 

الشهيد الفلسطيني.. الموت التحام بالأرض الأم   

رغم أنه يمكن استبدال جسد المقاوم بآلة حربية في الحروب المسلحة المتطورة، إلا أنه في حرب غير متكافئة عسكرياً، يتحول الجسد إلى أداة لشن هجمات استشهادية، ويصبح في هذا السياق السلاح الأكثر نجاعة لتحقيق الهدف.

وإن كان استشهاد المقاوم وعدم وجود أثره جسدياً يجعل الحداد مستحيلاً، فإنه يتحول إلى قيمة متماهية مع نصر مؤجل، ويصبح المجهول/المعروف من دون واسطة شعائرية تقليدية لإتمام طقوس الموت.

بذلك تتحول الأكفان من طبيعتها الوعظية كأداة للتذكير بزوال الحياة إلى أداة لتجديد العهد الجماعي غير المعلن، من خلال تغطية الشهيد، أو ما بقي من أشلائه، أو إعلان حضوره الروحي برمز موحد هو الراية الوطنية.

في مقاله” الشهيد الشاهد المثالي على المثل التأسيسية”، يبحث جيرار بونييه، وهو طبيب وأكاديمي فرنسي مختص في العلاج النفسي، في التركيبة النفسية للشهيد.

ويؤكد أن الشهيد يشير عبر التحامه بالموت إلى الأم المثالية التي تجسد المثل الأكثر تأسيساً وحيوية. الأم التي تقدس حياة الطفل وتمنحها ثمنها، وهي أيضاً ترمز إلى الأرض والإقليم والجذور في التراب. وبذلك يصبح الجسد قرباناً للأرض الأم، وللتراب المقدس، معطوف على وعد أخروي ببقاء الجسد حياً والفوز بالجنة.

 

قد يعجبك ايضا