تونس – محاولة توصيف الوضع الحالي / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 26/9/2023 م …

 كان هذا النّص في الأصل جزءًا من نص نَشَرْتُهُ سابقًا بعنوان “تونس، اقتصاد تابع”، وقسّمته إلى قسمَيْن تجنبًا للإطالة، ويُشكل كلا النّصّيْن – إلى جانب نص آخر من جُزْأَيْن يتضمن مقترحات حوار بين القوى التقدّمية –  مجموعة من الأدوات التي تهدف توفير البيانات الضرورية للمناضلين وللحركات والمنظمات والجمعيات الأهلية (وليس المنظمات المُسمّاة “غير حكومية” المُمَوَّلَة أجنبيا) واستخدامها لبلورة الوعي وتحديد المطالب الإقتصادية والإجتماعية…




*****

انخفض معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1,7% سنوياً خلال الفترة من 2011 إلى 2018 وفق تقرير البنك العالمي بنهاية تشرين الأول/اكتوبر 2022، بعنوان “تونس تشخيص منهجي للبلد”، وعلّل التقرير تراجع معدل النمو بانخفاض أداء جميع القطاعات الاقتصادية باستثناء قطاع الزراعة، بسبب “انخفاض معدل الاستثمار السنوي من 17,4% سنة 2000 كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 14,9% بين 2011 و2019، وانخفاض الإنتاج الصناعي وتراجع إيرادات السياحة، وكذلك بسبب قِلّة الإبتكار والرقابة المشددة على الأنشطة الاقتصادية”، ويهدف معدّو التقرير نَسْف ما تبقّى من دور الدّولة في ضبط بعض الأسعار وما تبقّى من الدّعم ومن الحماية الاجتماعية، ومن القطاع العام الذي يحدّ بشكل غير مباشر من ارتفاع مستويات الفقر والبطالة، ومن المعروف إن البنك العالمي وصندوق النّقد الدّولي يدّعِيان إن “تحرير الإقتصاد” يُشجّع القطاع الخاص على الإستثمار وخلق الوظائف، ويدعوان إلى عدم تدخّل الدّولة في الشأن الإقتصادي، بغير إقرار الحوافز الضريبية وتوزيع المال العام على الرأسماليين والأثرياء، غير إن تقرير البنك العالمي يُشير إلى المخاوف من “زيادة تدهور الوضع الاقتصادي والافتقار إلى خلق فرص عمل، ومن شعور المواطن التونسي بالإحباط الذي يُؤَدِّي إلى زيادة تنظيم الحركات الاحتجاجية”، ويدعو ممثل البنك العالمي بتونس (ألكسندر أروبيو) الحكومة التونسية إلى إقرار “استراتيجية جديدة خلال الفترة 2023 و2027، والإهتمام بالمناطق التي شهدت أضعف معدلات النمو على مدى العقد الأخير، دون زيادة الأعباء على الموازنة”…

أقرّت الحكومات التونسية المتعاقبة، منذ 1970 (حكومة الهادي نويرة) البرامج والمُخطّطات التي يفرضها صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، والنتيجة (بعد عقد من حكم ائتلاف يقوده الإخوان المسلمون، إثْر الإنتفاضة) ارتفع معدل البطالة ليصل إلى 17,4% سنة 2022 وارتفع معدل الفقر من 14% قبل انتشار جائحة كورونا – التي تسببت في انخفاض النمو الإقتصادي بنسبة 9,2% –  إلى 21% سنة 2022 وفق تقرير البنك الدولي الذي يستنتج “إن السياسة الاجتماعية مكلفة وفاشلة في معالجة القضايا الحقيقية”، ويشن التقرير حملة على المؤسسات العمومية التي تتميز (وفق تقرير البنك العالمي) “بضُعْف الأداء وغياب الحوكمة ( هل يعرف أحدكم/كُنّ ماهي الحَوْكَمَة؟) والشفافية والمساءلة وسيادة القانون ومكافحة الفساد…”، ولا يهدف البنك العالمي تطهير الحياة السياسية والإقتصادية في تونس (أو غيرها) من الفساد والرشوة، بل يهدف ترك الحرية المُطلقة لرأس المال الأجنبي والمحلي المتعاون معه، وهو ما تُدْرِجُهُ مؤسسات “بريتن وودز” في باب “برنامج الإصلاح الهيكلي” منذ ثمانينيات القرن العشرين، خلال فترة حكم النيوليبرالية في الولايات المتحدة (دونالد ريغن) وبريطانيا (مارغريت تاتشر) وهي البرامج التي أثارت ردود فعل جماهيرية غاضبة، منها “انتفاضة الخبز” (نهاية 1983 وبداية 1984) في تونس وفي المغرب ومصر والعديد من البلدان الإفريقية…

أعلن ممثل البنك العالمي في تونس (ألكسندر أروبيو) إجراء سلسلة من “المشاورات الفنية” مع الحكومة التونسية ومختلف الشركاء والمجتمع المدني، وتعني عبارة “المشاورات الفنية” اعتبار تقرير البنك العالمي وتوصياته “قاعدة أساسية لإطار الشراكة الجديد الذي سيمكن من تحديد دعم وإجراءات البنك الدولي على مدى السنوات الخمس المقبلة 2023 – 2027 “، أي إن البنك العالمي (في تناغم تام مع صندوق النقد الدّولي) يُحَدّد الخطوط الرئيسة الإستراتيجية للدّولة ويُطالبها بتطبيق “المرونة الاجتماعية والإصلاحات ودعم القطاع الخاص – خفض الضرائب، مثلا؟ – وبتوفير مناخ الأعمال والإستثمار، وإدارة الموارد الطبيعية وقضايا المناخ”، بدعم من “المجتمع المدني” لتأمين الهدوء…  

تتسم تقارير البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي بصبغة إيديولوجية، بهدف فَرْض قوانين الإقتصاد الليبرالي، في غياب القاعدة المادّية للتّطور الرأسمالي، ليبقى اقتصاد الدّول المُقْتَرِضة منهما اقتصادًا تابعًا يُصدّر بعض أصناف الإنتاج الزراعي والمواد الخام ( النفط أو الفوسفات والمعادن) أو المنسوجات والقطع الميكانيكية والإلكترونية التي تحتاجها أسواق الدّول الرأسمالية المتطورة، ويستورد المواد الأساسية والآلات والتكنولوجيا، ومجمل السّلع والخدمات ذات القيمة الزائدة المرتفعة، خلافًا للمواد الخام…

بعيدًا عن الأرقام والتقارير، وعلى مستوى الحياة اليومية، يعاني المواطن من الإرتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الغذائية التي يستهلكها المواطنون بشكل يومي، والتي تنتجها البلاد، كالبيض والخضراوات الطازجة والزيوت ولحم الضأن والبقر والدّواجن، وكذلك أسعار المواد المُصَنّعَة ومواد البناء وأسعار الملابس والأحذية ومواد التنظيف والخدمات، فضلاً عن أسعار السلع المُسْتَوْرَدَة مثل الحبوب ومشتقاتها والطاقة، وأدّى هذا الإرتفاع إلى تراجع “المقدرة الشرائية” بنسبة 3,1% خلال سنة 2022، ويتوقع أن تكون سنة 2023 أسوأ بفعل ارتفاع عجز الميزانية والميزان التجاري وتراجع سعر صرف الدينار وبفعل الجفاف الذي أضَرّ بقطاع الفلاحة…

كانت حكومة تونس تعول في بداية سنة 2023 على استرجاع نسق الأداء الاقتصادي لما قبل جائحة كورونا، ونمو إيرادات السياحة والزراعة، إلا أن التقارير المنشورة بنهاية شهر تموز/يوليو أو حتى منتصف آب/أغسطس 2023، تُشِير إلى تباطؤ الإستثمار وإلى تراجع أداء الصناعة وانخفاض إنتاج المناجم والطاقة وإلى انخفاض الاستهلاك، أما تراجع أداء القطاع الفلاحي فيعود إلى العوامل المناخية الاستثنائية، ما يُساهم في تردّي الوضع لأن صادرات المواد الفلاحية مثلت 12% من إجمالي صادرات البلاد، وبلغت إيراداتها نحو 2,2 مليار دولارا، سنة 2022، ومنذ الربع الأول من سنة 2023، يُعاني المواطنون من شح أو غياب بعض السلع الغذائية مثل الحليب والخبز، في ظل غياب أو نقص العملات الأجنبية الضرورية للتوريد، وفي ظل انخفاض محاصيل الحبوب بنسبة 22% مقارنة بالموسم السابق، حيث لم يتجاوز حجم محاصيل الحبوب المُجمّعة 2,7 مليون طنا، خلال موسم 2023

وانعكس أداء القطاع الفلاحي سلبياً على معدل نمو الاقتصاد خلال النصف الأول من سنة 2023، ويُتوقّع أن تمتدّ الأزمة إلى نهاية السنة على الأقل، أشار المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) في آب/أغسطس 2023، إلى مراجعته نسبة النمو الإقتصادي خلا الربع الأول من 2023 والتي أصدرها في أيار/مايو، وخفضها من 2,1% إلى 1,9%، بسبب تراجع إنتاج الفوسفات بنسبة 21% وتراجع التصدير بنسبة 5,4% بحسب المعهد الوطني، وشهدت صادرات قطاع الطاقة تراجعاً خلال النصف الأول من سنة 2023 بنسبة 31,5% في المئة تأثراً بانخفاض الإنتاج، وفق مرصد رقابة (مستقل)، كما انخفض إنتاج الصناعات المعملية والبناء والطاقة والمناجم وتقلص استخراج النفط والغاز الطبيعي بنسبة 2,6% بفعل ضعف الإستثمار وضعف نمو الطلب الداخلي نظرًا لانخفاض نفقات الإستهلاك، وبذلك لم يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي نسبة 1,2% خلال النصف الأول من سنة 2023 مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2022، وهي نسبة “مخيبة للآمال”، وفق محمد صالح سويلم المدير العام السابق للسياسة النقدية بالمصرف المركزي التونسي. أما الدّيْن العام الخارجي فقد تجاوز نسبته 80% من حجم الناتج المحلي الإجمالي سنة 2023، وينعكس هذا الوضع الإقتصادي على الغالبية الساحقة من المواطنين، لكن العديد من الإنعكاسات الخطيرة لا تظهر في تقارير البنك العالمي، بل من خلال المطالب النّقابية والحركات الجماهيرية وبيانات بعض المنظمات الأهلية التي تُظْهر تضرُّر فئات عديدة منها الأُجَراء وصغار الفلاحين والحرفيين والشباب والنساء، وبيانات متفرقة، ومن ضمنها ما يُؤَشِّرُ إلى زيادة عدد الأمّيّين بالبلاد.

 قُدِّرَ عدد الأميين في تونس، سنة 2022، بنحو مليونيْ مواطن، منهم مليون أُضِيفُوا خلال عقد حكم الإخوان المسلمين، لتبلغ نسبة الأميين 18% من العدد الإجمالي للسكان، وفق تصريح وزير الشؤون الاجتماعية بمجلس النواب (بداية آب/أغسطس 2023) وتُقَدّر الحاجيات المالية السنوية لمقاومة نحو عشرة ملايين دولارا، غير أن المخصصات المالية لمحو الأمية لم تتجاوز 4,3 ملايين دولارا سنة 2010 (معظمها مِنَح من منظمات دولية) وتراجعت إلى أقل من ثلاثة ملايين دولارا سنة 2020، بذريعة “ترشيد النفقات”، ولفتَتْ جمعيات ومنظمات نسائية الإنتباه، منذ سنة 2020، إلى ارتفاع نسبة الأمية لدى النساء، خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، وأشارت – بمناسبة اليوم العالمي للمرأة في الثامن من آذار/مارس 2021، إلى تنامي ظاهرة الأمية، وتزايد عدد المنقطعات عن الدراسة، وما ينجز عن ذلك من تداعيات وَخِيمَة على المجتمع، رغم تعميم التعليم في تونس، وخصوصًا في مرحلة التّعليم الأساسي، وكان وزير سابق للشؤون الاجتماعية (محمد الطرابلسي، آنذاك) قد صرّح، إن 25% من النساء التونسيات أميات، إضافة إلى أن أكثر من 60% من النساء الريفيات اللاتي انقَطَعْن  عن الدراسة مبكراً، وخصوصًا في أرياف الشمال الغربي، حيث تُقارب نسبة النّساء الأميات 50% من النساء، وتشير الإحصاءات الرسمية لوزارة التربية في تونس، أن ما بين 100 ألف و 120 ألف تلميذ ينقطعون عن التعليم سنوياً، وقد ترتدّ نسبة هامة منهم إلى الأُمّيّة في غياب مؤسسات تعليم الكبار ومؤسسات التدريب والتأهيل للمنقطعين مُبَكِّرًا عن التعليم، فضلا عن حالات الأمية المقنعة والمُتمثّلة في عدم امتلاك أكثر من 80% من تلاميذ نهاية التعليم الأساسي، الحد الأدنى من مهارات القراءة والكتابة والقواعد الأساسية للعلوم والرياضيات، وفق وزير التربية ورئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، وهو أمر له تداعيات سَلْبِيّة خطيرة على المجتمع وعلى بنية الاقتصاد الوطني، لأن الجمعيات والمؤسسات المشبوهة، منها منظمات الدّين السياسي التي تستقطب الأميين لتجنيدهم ضمن المنظمات الإرهابية التي خربت ليبيا وسوريا والعراق وغيرها…  

بالتوازي مع ارتفاع نسبة الأمية، ارتفعت نسبة الفقر  بحسب التقارير الرسمية  –  وهي إحدى التداعيات الخطيرة لارتفاع نسبة الأُمِّيّة – في ظل الأزمة الاقتصادية وارتفاع نسبة التضخم، ومُعاناة المواطنين من الارتفاع المشط للأسعار، بما في ذلك أسعار الإنتاج الزراعي الفَصْلِي المحلي (التين أربعة دولارا للكيلوغرالم اواحد ودولاران للكيلوغرام الواحد من العنب في فصل الصيف)، وأسعار الحليب والخبز ولوازم الدراسة والملابس وفواتير الماء والكهرباء ونفقات الرعاية الصّحّية، ما زاد من حدّة الفقر ومن عدد من يعيشون تحت خط الفقر.

تراجعت قيمة معدل الدخل المتوسط للفرد من حوالي 500 دينار تونسي عام 2010، أي ما يعادل 350 دولاراً شهرياً آنذاك، إلى حوالي 850 ديناراً، أو ما يعادل 275 دولارا، سنة 2022 ويعود هذا الإنخفاض إلى انهيار قيمة الدينار التونسي، ما زاد من نسبة الفقر، حيث أكد وزير الشؤون الاجتماعية (مالك الزاهي) خلال جلسة مع نواب في البرلمان (بداية شهر آب/أغسطس 2023 ) “تجاوز عدد التونسيين الواقعين تحت خط الفقر أربعة ملايين مواطن، فيما فاقت نسبة البطالة 20% وخصوصا من المتخرجين من التعليم العالي…”

في خضم هذه الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والمالية غير المسبوقة بالبلاد، تمت إقالة رئيسة الحكومة نجلاء بودن، التي لم تكن تحكم، بل كانت تأتمر بأوامر الرئيس الذي لم يتمكن من وضع حدّ لتدهور الوضع الإقتصادي الذي بلغ ذروته بأزمة فقدان الخبز وبعض السّلع الأساسية والأدوية، وتَوَقُّف إنجاز عدد من المشاريع أو تعطيلها، مثل مشاريع الطاقة المتجددة، إضافة إلى أزمة انقطاعات الكهرباء والماء التي تواصلت وسوف تتواصل مُدّةً ( حتى نهاية الخطة الحالية، سنة 2025، على الأقل) بعد تعيين رئيس الحكومة الجديد “أحمد الحَشّاني”، ما دامت البلاد لا تُنتج ما يكفي من القمح ومن الأدوية وما دامت الدّولة تنتظر التمويلات الخارجية، ليُحَدّدَ الدّائنون الإتجاهات الإقتصادية (وبالتالي السياسية ) للبلاد، بدل الإعتماد على الذّات وتحسين ظروف عيش الفئات التي وضعت حدًّا لحكم حزب الدّستور – منفردًا – من 1956 إلى 2010، ويجب أن يقترن الحديث عن السيادة والكرامة الوطنية بقرارات وأفعال لإنجازهما، وذلك بتوفير السلع الأساسية مثل الخبز والسكر والأرز والقهوة، وتوفير الشّغل والخدمات الصحية والماء والكهرباء والمسكن والنقل العمومي وتحسين جودة التعليم…

يمكن تلخيص الوضع في بضعة بيانات وأرقام ونِسَب، منها التبعية المفرطة تجاه الإتحاد الأوروبي (تحت مُسَمَّى اتفاقايت الشراكة) وارتفاع عدد الفارين من البلاد، سواء من خلال الهجرة النظامية (هجرة الخبرات وذوي المؤهلات، منهم الأطباء والمهندسين) وغير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسط، والإنخفاض المستمر لقيمة الدّينار ( دولار واحد = 3,3 دينارا)، مع استمرار الحاجة إلى التّوريد، وارتفاع الدّيون إلى أكثر من 80 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وضرورة تسديد 4,6 مليار دولارا (14 مليار دينارًا) من الدّيون الخارجية التي يحل أجل سدادها سنة 2023، وارتفاع نسبة البطالة الرسمية التي تجاوزت 15 بالمائة، وتؤدّي البطالة إلى تعزيز نسبة الفقر، كما فاقت نسبة التضخم 10 بالمائة وزادت حصة الإقتصاد المُوازي وعدد العاملين به والمحرومين من الحقوق الإقتصادية والإجتماعية…

بقي أن نُحَدّد – نحن التقدّميون والإشتراكيون – هل نكتفي ببعض الإصلاحات ضمن المنظومة الرأسمالية، أم نهدف تغيير بُنية الإقتصاد والمجتمع، وطبيعة العلاقات الإقتصادية والإجتماعية؟ 

قد يعجبك ايضا