تونس وشحّ الخبز / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأربعاء 23/8/2023 م …




الخبز رمز القوت اليومي

يُعْتَبَرُ الخُبْز غذاءً أساسيًّا في تونس (وبلدان أخرى) وهو مَدعوم من قِبل الدّولة، ولما حاولت الحكومة، خلال السنة المالية 1983/1984، إلغاء دعم أسعار الحبوب ومشتقاتها، ومُضاعفة أسعار الخبز والعجين (المَكَرُونَة)، كشرط للحصول على قرض من صندوق النقد الدّولي انطلقت مظاهرات عمّت البلاد، من 27 كانون الأول/ديسمبر 1983 إلى الثالث من كانون الثاني/يناير 1984، وأطلقت الشرطة والجيش النار على المتظاهرين، وأعلنت حالة الطّوارئ، واضطرت الحكومة إلى التراجع عن القرار، لما انطلقت انتفاضة 17/12/2010 – 14/01/2011 حمل العديد من المتظاهرين خبزة في أيديهم، تجسيدًا لشعار “العيش والحرية والكرامة”…

تُعتَبَرُ تونس بلادًا فلاحية، قادرة على إنتاج ما يكفيها من الأغذية الأساسية، غير أن التّوجهات السياسية، منذ الإستقلال الشّكْلِي سنة 1956، هَمّشت الإنتاج الفلاحي، وشجعت الزراعات الكُبرى التي تستنزف المياه والتُّربة والموارد الطبيعية، لِتُصَدِّرَ إنتاجها إلى أسواق أوروبا، بدل تلبية احتياجات السّوق المحلية، ولذلك تستورد تونس حوالي ثُلُثَيْ حاجتها من الحبوب التي ارتفع سعرها، خلال السنتيْن الماضيَتَيْن، بالتزامن مع شح العملات الأجنبية في تونس، حيث أصبحت الدّولة عاجزة عن تسديد ثمن السلع الأساسية المُستوردَة، ومنها الحبوب، وذكر موقع صحيفة “الشعب” التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء)، أن “ثَمَانِي بواخر محملة بالحبوب تنتظر منذ نحو أسبوعين في ميناء مدينة صفاقس، للحصول على ثمن الشحنات لتفريغها”.

تزامنت الأزمة المالية مع استمرار الجفاف الذي عرفته تونس والمغرب العربي للموسم الرابع على التوالي، ما أدّى إلى نقص كبير في السلع الغذائية ومن بينها الخُبز الذي يُباع بعضه بأسعار تدعمها الدّولة، ما جعل المواطنين يصطفون في طوابير طويلة أمام المخابز للحصول على الرغيف المدعوم، واتهم الرئيس قيس سعيد أصحاب المخابز الذين احتجوا بالإحتكار واختلاق الأزمات، قبل إقالة رئيس ديوان الحبوب، واعتقال الشرطة رئيس “الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز”،  بشُبْهَة “الاحتكار والمضاربة في السوق بمواد غذائية مدعمة وتبييض الأموال”، وتحميله مسؤولية أزمة نقص الخُبز، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء يوم الخميس 17 آب/أغسطس 2023…

تأثّر قطاع الفلاحة بالجفاف ما اضطر الدّولة لاستيراد كل احتياجات البلاد من الحبوب هذا العام 2023، وهو أحد أسباب الأزمة، حيث لم يبلغ محصول الحبوب 10% تقريبًا من حاجة البلاد، ويستوجب التّوريد احتياطيات كافية من العملة الأجنبية، وهو ما لا تستطيع الحكومة توفيره في ظل عجز الموازنة العامة والعجز التجاري. أما بالنسبة لقطاع الفلاحة فقد توفّرت عوامل عديدة زادت من معاناة صغار الفلاحين ومُرَبِّي المواشي، ومنها انخفاض قيمة الدّينار وشح العملة، لتوريد علف الحيوانات والبذور والأسمدة التي ارتفعت أسعارها، زادها الجفاف الذي عَمّق الأزمة الهيكلية لقطاع الفلاحة، وهي جزء من الأزمة الهيكلية للإقتصاد التونسي الذي يعتمد على تصدير السلع الخامة وعلى بعض الخدمات كالسياحة الرخيصة       

كانت تونس بلدًا فلاحيّا منذ قرطاج أو ما قبلها، وأدّى إهمال قطاع الفلاحة، منذ عقود إلى انخفاض إنتاج الحبوب والخضار والفواكه واللحوم والألبان ومشتقاتها، وأصبحت الدّولة تستورد نحو 60% من القمح من أوكرانيا وروسيا، وفق وزارة الفلاحة، وأدّى نقص العملة الأجنبية إلى رَفْض البواخر، منذ السنة الماضية (2022) تفريغ حمولتها من القمح قبل دفع ثمنها، ما ساهم في تفاقم أزمة الخبز في البلاد

لا تزال  تونس بلدًا زراعيا قادرًا على إنتاج ما يحتاجه، وقادرًا على إنجاز السيادة الغذائية، حيث تُمثل الأراضي المزروعة نحو عشرة ملايين هكتارًا أو ما يُعادل 62% من مساحة البلاد ومعظمها ملكيات عائلية صغيرة لا تتجاوز مساحة 75% منها العَشْر هكتارات وفق بيانات موقع وزارة الفلاحة، غير أن البلاد تُعاني من ندرة المياه، ومن جفاف مستمر للسّنة الرابعة على التّوالي، وشهدت السدود التونسية انخفاضًا كبيرًا في فانخفض حجم مخزون مياه السّدود إلى حوالي نسبة 27% من طاقة استيعابها، خلال شهر آذار/مارس 2023، أي قبل حلول فصل الصّيف حيث انخفض مخزون المياه بسُدّ “سيدي سالم”، أكبر سُدُود البلاد، إلى 17% فقط من طاقة استيعابه، ما يُنذِرُ بكارثة على المحاصيل الزراعية بما في ذلك الحبوب والخضراوات والفواكه، والذي انخفض من1,5 مليون طن خلال موسم 2020/2021 إلى 750 ألف طن خلال موسم 2021/2022 وإلى أقل من 250 ألف طن خلال موسم 2022/2023، بينما تستهلك البلاد حوالي 3,5 ملايين طنا من الحبوب سنويا، وأشارت تقديرات وزارة الفلاحة إلى انخفاض محاصيل الحبوب بنسبة 60% سنة 2023، مقارنة بمستوياتها المعتادة، ، ما يضطر الدّولة إلى تخصيص موارد هامة من العملات الأجنبية (الشحيحة أَصْلاً) لتوريد الحبوب التي ارتفعت أسعارها، خصوصًا منذ بداية الحرب في أوكرانيا (شباط/فبراير 2022) وللتذكير فإن تونس تستورد نصف حاجياتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا.

صنّفت منظمة الأغذية والزراعة ( الأمم المتحدة) البلاد ضمن الدول المُهَدَّدَة بندرة المياه، وقَدَّرَ التقرير السنوي للمصرف الأفريقي للتنمية الأضرار المرتبطة بتغير المناخ في تونس بنحو خمسة مليارات دولار، وبدأت السلطات، منذ منتصف آذار/مارس 2023، قطع مياه الشرب ليلا بمناطق العاصمة ومدن أخرى، في محاولة لخفض الاستهلاك، في خطوة أثارت غضبا واحتجاجا فَاقَمَهُ سوء الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية. كما أدّى ارتفاع درجات الحرارة والحرائق واحتكار المياه من قِبَل المزارع الكُبرى والفنادق والفيلات الفاخرة، إلى ارتفاع خسائر صغار المزارعين ومُرَبِّ المواشي، جراء ارتفاع سعر البذور والأسمدة وتراجع محاصيل الحبوب والخضار والغلال، ولم تتخذ الحكومات المتعاقبة إجراءات لمساعدة الفلاحين الصغار، وحمايتهم من الجفاف ومن ارتفاع أسعار البذور والأسمدة ومن الوُسَطاء والمُحتَكِرِين، أو إجراءات لترشيد استهلاك المياه في القطاع السياحي، أو الزراعات الكُبرى المُعَدِّ إنتاجها للتّصدير، وفقًا لوكالة رويترز 26 تموز/يوليو 2023

إن عدم توفّر الخبز يُؤَشِّرُ إلى خطورة الأزمة الإقتصادية، وهو مُقدّمة لما يمكن أن يحصل عند إنهاء الدعم، وهو أحد شروط الدّائنين، فالحكومة تحتاج عملة أجنبية لتوريد الغذاء والدّواء والطاقة والآلات والتجهيزات، وهي في حاجة لتغطية العجز في الميزانية وتسديد الدّيون المتراكمة، خُصُوصًا منذ 2011، وتأتي أزمة الخبز كتتويج لسلسلة من غياب أو شح العديد من المواد الأساسية كالطّحين والأرز والزيت والسّكّر والبُن والأدوية والبنزين، فضلاً عن ارتفاع أسعار الطاقة والأسمدة والبذور وعلف الحيوانات، وجميعها سلع مُستورَدَة، ما يجعل من العسير الحديث عن السيادة في بلد يستورد الغذاء، ويحاول النظام السياسي القائم الإندماج في النظام الرأسمالي العالمي، بدل القطع معه، وبدل العمل على تحقيق السيادة الغذائية والعدالة الاجتماعية، فقد شجّع النظام القائم في تونس، منذ سبعينيات القرن العشرين، زراعةَ المحاصيل الموجهة للتصدير مثل الفراولة، على حساب المواد الغذائية الأساسية. 

يشكو التونسيون من تضاؤل إمدادات الخبز الذي يُعَدُّ أساسيًّا في النظام الغذائي المحلِّي، لكن لا يتجاوز معدّل الإنتاج السنوي للقمح مليون طنًّا فيما تستهلك البلاد ما لا يقل عن ثلاثة ملايين طن، لتستورد نحو ستين أو سبعين بالمائة من حاجة السّكّان بمليارات الدولارات التي لم تتمكّن الحكومة من توفيرها، في ظل تزايد عجز الموازنة وارتفاع مدفوعات الدّيُون، وفي ظروف الجفاف الذي أدّى إلى انخفاض حجم محصول القمح المحلي بنسبة حوالي 60%، مما أدى إلى تفاقم أزمة الخبز.

يُكثر المُوالون للرئيس قيس سعيد، وبعضهم كان يُعلن قبل سنوات انتماءه لليسار، من الحديث عن السيادة، فأي سيادة وأي استقلالية في ظل العلاقات المتطورة مع الولايات المتحدة وفي ظل العلاقات العسكرية المتزايدة، منذ 2004، وهذه بعض الأمثلة التي أوردتها وسائل الإعلام الأمريكية، ومنها بناء مهندسين عسكريين أمريكيين ميادين الرماية ومنشأة تدريب على مكافحة العبوات الناسفة، ومشاركة القوات التونسية في التدريبات العسكرية التي تستضيفها القيادة الشمالية الأمريكية في وايومنغ،  ومشاركة الجيش التونسي في برنامج عسكري أمريكي يهدف ربط الجيوش الأجنبية بوحدات الحرس الوطني الإتحادي الأمريكي…

تراجعت المساعدات العسكرية الأمريكية لتونس بعد استيلاء قيس سعيد على السلطة في الخامس والعشرين من تموز/يوليو 2021، من 45 مليون دولارا إلى 14,5 مليون دولارا، لكنها ظلت قائمة، وطلبت وزارة الخارجية الأمريكية 45 مليون دولار للتمويل العسكري الخارجي لتونس لسنة 2024، ولا تحصل تونس على هذا المبلغ التّافه، لكن يُستَخْدم في شراء أسلحة أمريكية، وبرامج تدريب في برامج “مكافحة الإرهاب والمخدرات”، وعلّلت وزارة الخارجية الأمريكية طلبها بأن حكومة تونس قد تلجأ إلى روسيا أو الصين (منافسي وخصوم الولايات المتحدة) للحصول على هذا المبلغ، ولذا وجب قطع الطّريق أمام الصين وروسيا للتغلغل في تونس، وفق دراسة نشرها معهد بروكينغز (نيسان/ابريل 2023).

صنّفت الولايات المتحدة تونس، منذ سنة 2015، “حليفًا رئيسيًّا من خارج حلف شمال الأطلسي”، ما يعني زيادة التّدخّل العسكري الأمريكي في تونس، عبر أنظمة الأسلحة والتّدريب، بالتوازي مع “تمويل المجتمع المدني في تونس”، أي تمويل المنظمات الموصوفة “غير حكومية”، عبر برامج أمريكية صرفة مثل “ميبي” أو الوكالة الأمريكية للتنمية الدّولية أو المجتمع المفتوح وفريدوم هاوس ونيد وغيرها، واستغلت الولايات المتحدة الهجمات الإرهابية، بداية من سنة 2013 (سنة اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي) لتزيد من خحم ونوعية “التعاون العسكري”، وخصوصًا منذ سنة 2017، حيث تمركزت كتيبة من مُشاة البحرية الأمريكية بالقرب من الحدود التونسية الجزائرية بذريعة “مساعدة الجيش التونسي على محاربة إراهبِيِّي القاعدة”، وتريد الولايات المتحدة أن يتعاقد الجيش التونسي من الباطن (عقد مناولة) بصفة تونس “شريكًا استراتيجيا من خارج حلف شمال الأطلسي”، لمساعدة الجيش الأمريكي في تدريب جيوش إفريقيا جنوب الصحراء، وفق  معهد بروكينغز، وبذلك شاركت القوات الخاصة التونسية (آذار/مارس 2023) في مناورات عسكرية بقيادة الولايات المتحدة، تسمى “فلينتلوك”، في غانا وساحل العاج، إلى جانب جُيوش غانا والسنغال وجيبوتي والمغرب، وتستضيف تونس، صيف 2023، التدريبات العسكرية المُسمّاة “أسد إفريقيا”، وهي واحدة من أكبر المناورات العسكرية الأمريكية في قارة إفريقيا…

كيف يمكن إنجاز السيادة الاقتصادية في ظل هذه الأزمة الحادة؟

يتميز الوضع الحالي بضُعْف النمو (وغياب أي برنامج تنموي) الذي قد لا يتجاوز 2,5% وبزيادة عجز الميزانية والميزان التجاري وارتفاع نسبة التضخم الذي يتسبب في انخفاض قيمة الدّخل الحقيقي للمواطنين، ونقص واردات السياحة التي تعتمد على نموذج منخفض التكلفة (low cost ) يضر بموارد البلاد، وانخفاض حجم استخراج الفوسفات من 3,72 طن سنة 2021 إلى 3,56 طن سنة 2022 (8,3 طن سنة 2010)، ولا تزال الصناعات الميكانيكية محصورة في التعاقد من الباطن، وانخفض معدل الاستثمار بنسبة 23 % من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010 إلى 12 % سنة 2022، أما الرأسماليون المَحَلِّيُّون فمعظمهم يُمثل مصالح الشركات الأجنبية، ولا يستثمرون في القطاعات المنتجة بل يفضلون المضاربة والتجارة.

على مدى عشر سنوات ، كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مصدر تدفق بعض الأموال “لتعزيز الديمقراطية”، بإدارة ائتلاف بين الإخوان المسلمين وأتباع بورقيبة وبن علي وشريحة من رجال الأعمال الفاسدين، و”لدعم الإصلاحات”، وتمويل الانتخابات وكذلك المشاريع الاستثمارية في الطاقات “النظيفة” التي تستفيد منها الشركات الأوروبية، حَصْرِيًّا، كما سمحت هذه التدفقات المالية بتسديد رواتب وإقامة الخبراء الإستشاريين، والجمعيات الداعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان (المعروفة بالمنظمات غير الحكومية)، وفي ذات الوقت، ترفض حكومات ومصارف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وسويسرا إعادة المبالغ التي سرقها وهَرّبها أقارب زين العابدين بن علي (المقدرة بأكثر من خمسة مليارات دولار)، في حين تدهور الوضع الاجتماعي لغالبية المواطنين التونسيين وغرق البلد في الديون، ولذا لا يجب التعويل على الإمبريالية لحل مَشاكلنا، لأن الدّول الإمبريالية لم تساعد أبدًا أي دولة على تنمية القطاعات المنتجة وإنجاز  التصنيع أو تحقيق السيادة الغذائية أو على أن تصبح مستقلة ومزدهرة ومكتفية ذاتيًا، ولا تستثمر الدول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات سوى لضمان أو زيادة حجم مصالحها …

وردت المعلومات المتعلقة بالتعاون العسكري الأمريكي التونسي بالنسخة الإنغليزية لموقع ميدل إيست آي، بتاريخ 19 نيسان/ابريل 2023 (19 April 2023 –  Middle East Eye ) 

قد يعجبك ايضا