تونس – أي إِرْثٍ لانتفاضة 2010/2011؟ / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس )  – الخميس 17/8/2023 م …




بدأت الثورة ضد النظام الذي جسده زين العابدين بن علي وحزبه باحتجاجات محلية منذ عام 2008 (الحوض المنجمي ومظاهرات بن قردان، إلخ) لكن المظاهرات الجماهيرية انتشرت في جميع أنحاء تونس بين السّابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 والرّابع عشر من كانون الثاني/يناير 2011، وأدت هذه التظاهرات إلى استبدال بن علي برئيس وزرائه (محمد الغنوشي)، ثم من قبل قدامى القياديين في حزبه وحزب بورقيبة (فؤاد المبزع والباجي قايد السبسي) تحت إشراف الولايات المتحدة ممثلة بجيفري فيلتمان الذي كان في تونس من 14 إلى 17 كانون الثاني/يناير 2011 لتشكيل أول حكومة بعد بن علي، لمّا كان المتظاهرون يحتجون على البطالة وعنف الدولة بوليسية، وبعد أن فر الرئيس إلى المنفى، تشكّلت مجموعة كبيرة من الأحزاب السياسية الجديدة، للمشاركة في الإنتخابات الديمقراطية الأولى التي أدّت إلى انتخاب مجلس تأسيس ووضع دستور جديد، لكن الإنتخابات لم تُفْض إلى نظامٍ يُلَبِّي احتياجات غالبية السكان، ولم يُؤَدِّ الدُّستور الجديد ولا أي مجلس مُنْتَخَب إلى حل مسائل إعادة الهيكلة الاقتصادية الأساسية بشكل يُرْسِي دعائم العَدْل والإنصاف وإعادة توزيع الثروة، وما إلى ذلك…

إن إرساء نظام ليبرالي متعدد الأحزاب، مع تدفق سَيْلِ الأحزاب السياسية الجديدة، بعد 55 عامًا من الديكتاتورية، لم يحل القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وفي صف الفئات الشعبية والكادحة كانت هناك فترة من التعبئة الجماهيرية في المجتمع التونسي بين سَنَتَيْ 2011 و 2013، سنة اغتيال مناضِلَيْن قِيادِيّيْن من الجبهة الشّعبية (شكري بلعيد في شباط/فبراير ومحمد البراهمي في تموز/يوليو 2013)، ولم تتمكن أحزاب اليسار والجبهة من مواصلة التّعْبِئة من أجل بديل ديمقراطي وشعبي، في حين كان الوضع يسمح بطرح مطالب جذرية، سواء بشأن حرية التعبير، أو الحق في العمل والكرامة، وإعادة توزيع الموارد وتفكيك الهياكل الموروثة من سلطة بورقيبة وبن علي…

 لم تستجب الحكومات المتعاقبة – وكانت جميعها تحت هيمنة الإخوان المسلمين –  لأي من هذه المطالب، مما أدى إلى استمرار النظام الاجتماعي المُتّسم بالحَيْف الطبقي وعدم التكافؤ وظلت التفاوتات الطبقية قائمة، حيث حافظت نفس المجموعات ونفس العائلات الثرية على هيمنتها على معظم قطاعات الاقتصاد والقطاعات المالية (المصارف)، سواء بشكل مُباشر أو بصفتها وكيلة لرأس المال الأجنبي، ولم يتغير مكانة البلاد كمصدر ثانوي للعمالة الرخيصة والمواد الخام لأوروبا، فارتفعت معدلات البطالة وارتفعت أسعار السلع والخدمات وازداد حجم النّهب ما حَرَم الخدمات العمومية (التعليم والصحة والبحث العلمي…) والقطاعات الإنتاجية (الفلاحة والصناعة …) من الاستثمار الحكومي، واستمَرّت مضايقة الشباب العاطلين عن العمل في أحياء الطبقة العاملة، من قِبَل الشرطة التي عادت (بدعم من جهاز القضاء) إلى قمع الحريات ومضايقة العمل النقابي وتضييق حيّز التعبير الذي اكتسبه الصحفيون والفنانون  وغيرهم بعد الإنتفاضة…

ضَاعَفَ رُمُوزُ السلطةِ الحاليةِ التصريحات والإعلانات التي تهدف إلى صرف انتباه الجماهير التونسية عن المشاكل الحقيقية التي تواجه البلاد، منها الخلل الهيكلي وانهيار الاقتصاد الوطني واهتراء البنية التحتية والمرافق العامة الخدمية، ونقص الإمدادات من السلع الأساسية وارتفاع الأسعار ونسبة التضخم، وابتكرت السلطة السياسية خطابًا عنصريا ضد فُقراء إفريقيا العابرين نحو أوروبا، وكانت تلك فرصة لتصاعد عنف الشرطة ضد الجميع، في حين تعيش البلاد جفافًا استمر للسنة الرابعة على التوالي، ما أدّى إلى زيادة حجم حرائق الغابات، وارتفاع حجم البطالة والفقر والبؤس الاقتصادي الشامل، فيما تلعب تونس دورًا ثانويًّا، بل هامشيًّا، في النظام الاقتصادي العالمي…

خلال السنوات الأولى للديمقراطية النيابية، انخفض معدل النمو الاقتصادي للبلاد من 3,6% سنة 2012 إلى 2.9% سنة 2013 ، وفي ذلك الوقت وصلت نسبة التضخم إلى 5,6%، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأدوية والملابس والنقل والسكن، إلخ، كما انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 20% بين سنَتَيْ 2011 و 2013، وبلغت النسبة الرسميّة للبطالة 15,7% سنة 2013، وهي نسبة تقل عن الواقع بكثير، لأنها لم تُهْمِلُ العمال غير المستقرون والعاطلين الذين توقفوا عن التسجيل في “مكتب التوظيف” بعد سنوات من الجهود غير الناجحة، فضلا عن العاملين بالقطاع الموازي المحرومين من جميع الحقوق القانونية والإجتماعية، وفقًا للأمم المتحدة (اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، تموز/يوليو 2014 –  Economic Commission for Africa, July 2014 – )

انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومستوى المعيشة لمعظم التونسيين بعد سنة 2011، لا سيما مع انهيار قيمة الدينار التونسي اعتبارًا من سنة 2016، فلم يعد بإمكان غالبية العاملين بأجر وصغار المزارعين والأشخاص غير المستقرين البقاء على قيد الحياة دون الغرق في دوامة الديون الثقيلة، فكانت تلك مناسبة اختارها الرئيس الباجي قايد السبسي ( وهو من نتاج نظام بوقيبة وبن علي) وأغلبية النواب الإسلاميين للتصويت على العفو الممنوح للمسؤولين والرأسماليين التونسيين المتهمين بالتربح من الفساد، كما أقر الإخوان المسلمون الذين حكموا مصر والمغرب قوانين مماثلة تسمح للفاسدين بالإفلات من التتبّع القضائي ومن العقاب.

أدى تفكيك الخدمات العامة، بما فيها نظام الرّعاية الصحية، إلى ترتيب تونس ضمن الدّول التي حصلت على واحدة من أعلى حصص الوفيات (مقارنة بعدد السّكّان) في العالم خلال جائحة كوفيد -19، كما تمتلك تونس رقمًا قياسيًّا عالميًّا آخر، في مجال المُشاركة في لُعبة الدّيمقراطية التّمْثِيلية، حيث بلغت نسبة المشاركة في انتخابات أعضاء مجلس النواب في كانون الأول/ديسمبر 2022 نحو 11,2% وهو واحد من أدنى المعدلات المسجلة في العالم منذ سنة 1945، زلا يسمح القانون الإنتخابي الجديد للأحزاب بتقديم المرشحين أو تمويل حملاتهم الإنتخابية، ولم يُسمح للمرشحين بتلقي تمويل عام، وعلاوة على ذلك لن يكون للبرلمان سلطة كبيرة بموجب الدستور الجديد.

هل يمكن للميزانية العمومية (الهزيلة) تحقيق “العدالة الاقتصادية” التي وعد بها (بشكل غامض) الرئيس قيس سعيد؟ ووَعَدَ الرئيس كذلك بإرساء السيادة الوطنية ولكن بأي وسيلة؟ لقد وَعَدَ باسترداد الأموال المسروقة من قوت الشعب، لكنه التقى (بعد أيام قليلة من 25 تموز/يوليو 2021) بممثلي اتحاد أرباب العمل (اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية) وَوَعَدَ بحملةٍ على الفساد ولكن “من دون أي نية للإضرار بالأعمال التجارية “، ويحظى قيس سعيد بدعم شريحة من الرأسماليين المحليين الذين تم تهميشهم من قبل العولمة النيوليبرالية في عهد بن علي والذين يأملون في أن يسمح مشروع “السيادة الوطنية ” المَوْعُود بحصولهم على موقع أفضل في اقتصاد البلاد الخاضعة لمنافسة دولية قوية، كما عَيّن الرئيس أعضاء اللجنة الوطنية المسؤولة عن استرداد الممتلكات العامة المسروقة من خلال التهرب الضريبي والفساد، ولم تُقدّم هذه الهيئة “الرِّئاسية” حتى الآن (منتصف آب/أغسطس 2023) سوى عددًا قليلاً جدًا من الأصول المستردة، ويفتقر عملُها إلى الشفافية والإستقلالية، كما للرئيس أيضًا الحق في منح العفو للأفراد الذين ثبتت إدانتهم باختلاس الأموال إذا قاموا بإعادة الممتلكات المسروقة إلى الدولة.

هل تكون السيادة الوطنية متوافقة مع اتفاقيات “الشراكة” بين تونس (ودول المغرب العربي الأخرى أو مصر أو الأردن) والاتحاد الأوروبي؟

زار أعضاء “فريق أوروبا” أو –  Team Europe –  (مجموعة من ممثلي الاتحاد الأوروبي) تونس يوم 16 تموز/يوليو 2023 ووقعوا مذكرة تفاهم مع الرئيس التونسي، تقدم أوروبا بموجبها مبلغًا سخيفًا (105 مليون يورو) للنظام التونسي، على شكل معدات مثل القوارب وسيارات الجيب والكاميرات وطائرات المراقبة بدون طيار، لمنع المهاجرين – التونسيين أو الأجانب – من عبور البحر الأبيض المتوسط، وهكذا، وخلافً اتصريحات الرئيس، أصبحت النظام السياسي التونسي حارس حدود الاتحاد الأوروبي، لأن سياسة الاتحاد الأوروبي المناهضة للهجرة توفر شريان حياة للنظام التونسي الذي تتهمه منظمات حقوق الإنسان بعدم احترام الحريات الفردية والجماعية.

تتعارض السيادة الوطنية مع كذلك المديونية الخارجية التي ارتفع حجمها في تونس، لأن القروض مشروطة بخصخصة ما تَبَقَّى من المؤسسات والخدمات العامة، وبتخفيض قيمة العملة المحلية (الدينار)، وإلغاء دعم أسعار المنتجات والخدمات الأساسية، وما إلى ذلك.

نَدْرَة البدائل

مع مثل هذه الصورة القاتمة في تونس، ما هي الفرص المتاحة لشعب البلاد لمقاومة تراجع المكاسب الصغيرة لانتفاضة 2011؟ وما هي البدائل القابلة للإنجاز؟

لا تزال غالبية سكان البلاد تعاني من الظلم والبطالة والفقر وزيادة أسعار السلع وشُحّها في الأسوا، وتعاني من التضخم والقمع وما إلى ذلك، ما جعل الآلاف من الشباب والأكاديميين والعاطلين والأطباء والمهندسين وتقنِيِّي الكمبيوتر والمحاسبين وغيرهم من ذوي الكفاءة والخبرات والإختصاصات، الهجرةَ المنتظمة ( حيث تنتدبهم شركات أوروبا وأمريكا الشمالية بواسطة وُكلائها في تونس) أو غير النظامية، ووأحْصت الحكومة الإيطالية وصول ما لا يقل عن 16 ألف شخص إلى إيطاليا من الساحل التونسي خلال الربع الأول من سنة 2023، ولا يمثل هذا الرقم سوى المهاجرين المسجلين رسميًا عند الوصول، ولا يتضمن أولئك الذين تمكنوا من العبور إلى أوروبا ومن تَجَنُّب السلطات ومنظمات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية.

تميزت القوى الديمقراطية والتقدمية بتنظيم الإحتجاجات والتظاهرات للرّد على قرار حصل أو ممارسات (قَمع أو سجن…) حصلت، ولا بد من التخلي عن حالة رد الفعل التي جعلت اليسار منغلقًا على نفسه، والمرور إلى مرحلة الفعل الذي يتطلب اختيار العنوان وساحة الصراع والتوقيت، ويتطلب ذلك بناء جبهات نضالية تضم فئات اجتماعية قادرة على مواجهة الوضع السياسي والاقتصادي، وتتضمن الدفاع عن الحريات والإنجازات النادرة لانتفاضة 2011، إذ توجد قوى تُناضل منفردة، دفاعًا عن قضية ذات صبغة قطاعية أو إقليمية أو فِئَوِيّة، ولكن لا يوجد تنسيق بين هذه القوى المختلفة، ولذا يمكن بناء هذه الجبهات من خلال التنسيق بين النقابات العمالية ومجموعات الطلاب وصغار المزارعين الذين أظهروا قدرتهم على المقاومة، لأن الصراع الطبقي والإجتماعي والسياسي لا ولن يتوقّف أبدًا، لكنه يتخذ أشكالاً عديدة، ويمر بفتراد مدّ وجزر، أما التّحدِّي الأكبر فيتمثل في التّحول من حالة ردّ الفعل (الدّفاع) إلى حالة الفعل أي الإنتقال إلى حالة الهجوم بمطالب وأهداف واضحة …

قد يعجبك ايضا