أسست “معرض القاهرة الدولي للكتاب” وتعتبر أول امرأة مصرية رائدة في الأدب والسياسة.. من هي سهير القلماوي؟ وكيف شرّعت الطريق لكاتبات وناشطات مصريات وعربيات؟ / يوسف شرقاوي

يوسف شرقاوي ( فلسطين ) – الثلاثاء 25/7/2023 م …




تقف سهير القلماوي (1911 – 1997) كعلامة في الأدب والسياسية والنقد والإنجاز المصري، النسائي والنسوي منه، لا في الماضي وحسب، إنّما في الحاضر ومادّة يديها إلى المستقبل.

تمكّنت القلماوي، كأوّل امرأة في مصر، من كسر عدّة أرقام قياسيّة، إذ حققت عدداً هائلاً من الإنجازات الأكاديميّة في الوقت الذي عاشت فيه، يومَ كانت المرأة المصرية لا تزال تعاني التهميش على الأصعدة العلمية والأكاديمية والحياتية.

من جهة ثانية، يتوسط اسم سهير القلماوي اسمين آخرين زمنياً وتعليمياً، من المؤسسين والفاعلين في الحركة الثقافية والأدبية المصرية، هما عميد الأدب العربي طه حسين وجابر عصفور. تتلمذت على يد الأول، ودرّست الثاني الذي قدّم رسالتي الماجستير والدكتوراه “الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب” تحت إشرافها. إضافة إلى إلهامها عدداً من النساء المصريات والعرببات، لمنجزها الشامل، وكونها أصبحت كموسوعة معرفية وأدبية.

نموذج لــ “المرأة الجديدة”

عاشت سهير القلماوي، المولودة في 20 تموز/يوليو 1911، طوال حياتها في القاهرة. هناك، في البيت الذي نشأت فيه، وجدت مكتبة لأبيها، الطبيب في طنطا، فاستفادت منها. كما كان زمن نشأتها متزامناً مع تأثير السيدات المصريات، إذ نشطت آنذاك النسوية هدى الشعراوي، وبرزت الشخصية القومية صفية زغلول، وغيرهما من الناشطات النسويات، اللواتي ركّزن على نقل المناظرة النسوية إلى الشوارع لإنشاء حركة بعيدة المدى.

بعد تخرّجها من الكلية الأميركية للفتيات عام 1928، كرّست القلماوي نفسها لدراسة الطب، مثل والدها، في جامعة القاهرة. إلا أنها تلقّت الرفض، وكان السبب “أنها فتاة”. ما جعلها تعمل وفق تشجيع أبيها على التخصص في الأدب العربي، وكانت بذلك أول فتاة شابة ترتاد جامعة القاهرة وهي لا تتقن العربية. 

حرص والدها على أن يقرأ معها القرآن وكتب التفاسير، كما أحضر لها عدداً من المدرّسين ليشرحوا لها كل ما يتعلق باللغة العربية من قواعد وبلاغة وأدب، كما يقول رشاد كامل.

بعد ذلك، كانت سهير القلماوي واحدة من أول 4 فتيات يلتحقن بكلية الآداب في الجامعة المصرية عام 1929. كما كانت الطالبة الوحيدة في قسم اللغة العربية ومعها 13 طالباً هم كل الدفعة. 

عن ظروف التحاقها بالجامعة كتب إيهاب الملاح: “ذهب والدها الطبيب الشهير إلى طه حسين ليعينه على حلِّ مشكلة ابنته، ولكن طه حسين صرف نظر الطالبة عن كلية الطب، وأقنعها بالالتحاق بكلية الآداب، والدراسة في قسم اللغة العربية الذي كان أشهر أساتذتها. ويبدو أن شخصية طه حسين الساحرة جذبت الفتاة سهير القلماوي إليه، فتعلقت به، واتخذته أباً ثانياً، وأستاذاً، ومشرفاً، ورائداً، ومثلاً أعلى في الحياة، وأجلّها الأستاذ وأعجب بها، ووجد فيها نموذجاً للمرأة الجديدة التي كان المثقفون المصريون يحلمون بها منذ أن كتب قاسم أمين كتاب (المرأة الجديدة) ونشره سنة 1900 من مفتتح القرن الماضي”.

تفوّقت القلماوي على دفعتها وتخرّجت في الترتيب الأول، كما نشرت لها خلال دراستها مجلات عديدة مثل “اللطائف المصوّرة” و”العروسة والهلال” و”أبوللو” و”الرسالة”. إضافة إلى تعيينها من قبل طه حسين مساعدة رئيس تحرير مجلة جامعة القاهرة عام 1932، وكانت أول امرأة تحصل على تصريح بممارسة الصحافة في مصر.

في العام 1934 سيتم اختيار القلماوي، عند افتتاح الإذاعة المصرية، لإلقاء بعض الأحاديث كل ثلاثاء، والإشراف على بعض صفحات مجلة الراديو مقابل 150 قرشاً في الشهر، وكان هذا أول أجر تتلقاه في حياتها. كذلك سيختارها طه حسين للإشراف على صفحة الأدب وصفحة المرأة مجاناً، في “جريدة الوادي” التي اشتراها. أما أحمد أمين، حين عرض عليها كتابة 3 مقالات في “مجلة الرسالة” مقابل 5 جنيهات، فرفضت، لأنها كما قالت: “لا أريد أن أكتب بأجر إلا في ما بعد”.

من جديد، ستصبح سهير القلماوي أول امرأة مصرية تحصل على الماجستير، وكانت رسالتها عن أدب الخوارج في العصر الأموي، وقبل ذلك، كانت أول مُحاضِرة في جامعة القاهرة عام 1936.

ومرة أخرى، عام 1941، ستصبح أول امرأة تحصل على الجائزة الأولى من “مجمع اللغة العربية”، وأول امرأة تحصل على الدكتوراه، من خلال دراستها “ألف ليلة وليلة”، التي قدّم لها طه حسين بالقول: “هذه رسالة بارعة من رسائل الدكتوراه التي ميزتها كلية الآداب في جامعة القاهرة. وبراعتها تأتي من مؤلفتها أولاً، فهي السيدة سهير القلماوي، وما أظن الناس في حاجة إلى أن تعرّف إليهم سهير القلماوي، فهي قد عرّفت نفسها إليهم بــ “أحاديث جدتي”، وبما نشرت في الصحف من فصول، وبما تحدثت إليهم به في الراديو من مختلف الحديث”.

تستمر القلماوي، النموذج المثالي للمرأة المصرية الجديدة في مسيرتها، وتصبح رئيس قسم اللغة العربية من 1958 إلى 1967، حيث أصبحت في هذا العام أول امرأة ترأس “الهيئة المصرية العامة للكتاب”، ونشرت أول دواوين أحمد فؤاد نجم “صور من الحياة والسجن”، ولأكثر من 50 من الشبان الواعدين آنذاك، عبر إصدارها لسلاسل أدبية سمّتها “مؤلفات جديدة”.

كذلك، تؤسس أول معرض كتاب فى الشرق الأوسط هو “معرض القاهرة الدولي للكتاب” في العام نفسه. وتصبح رئيسة “الاتحاد النسوي المصري”، ورئيسة “الهيئة المصرية العامة للسينما والمسرح والموسيقى” عام 1967، ورئيسة “مجتمع ثقافة الطفل” عام 1968، ورئيسة هيئة الرقابة من 1982 إلى 1985. وقبل ذلك كانت قد أصبحت رئيسة أول اجتماع للفنون الشعبية عام 1961، وشكلت لجنة للإشراف على “جامعة الفتيات الفلسطينيات” للحديث عن اهتمامها بالقضية الفلسطينية.

“ادفني أحزانك في الكتابة”

قالت القلماوي عن مؤلفها الشهير “أحاديث جدتي” المنشور عام 1935: “كنت قد كتبت في جريدة الوادي عام 1935 قصة أدبية عن (أمة كريمة والحمام) فيها ذكريات أيام جدي، ولما توفي والدي نصحني أستاذي طه حسين أن أدفن أحزاني في الكتابة، وقال: لماذا لا تؤلفين قصصاً أخرى وتنشرينها كتاباً؟ وكان هذا كتاب “أحاديث جدتي”، يعبر عن عمق الفجوة بين جيلي ومن سبقه من أجيال. طبعت الكتاب على حسابي الخاص في لجنة التأليف والترجمة والنشر، وطبعت 4 آلاف نسخة. قال أستاذي.. أنتِ مجنونة، أنا طه حسين أطبع 3 آلاف! قلتُ: أنت مقروء لأنك أديب ممتاز، وأنا أديبة ممتازة، زائد أني امرأة، وهذا في حد ذاته طرافة تجذب القارئ. ولم يبع من الكتاب إلا 900 نسخة، وقامت الحرب، فاختفى من المخزن لأنّ غلافه كان مهماً لصناعة البلكونات، فهذا الورق المقوَّى لم يكن متوافراً في السوق وكان هو غلافي الأنيق”.

بعد هذا العمل، توالت المؤلفات، مثل “الشياطين تلهو”، “ثم غربت الشمس”، “في النقد الأدبي”، “المحاكاة في الأدب”، “العالم بين دفتي كتاب”… إضافة إلى العديد من الترجمات، ومنها: “قصص صينية لبيرل بك”، “عزيزتي اللويتا”، “رسالة أبون لأفلاطون”، وعشر مسرحيات لشكسبير، إضافة إلى عشرين كتاباً في مشروع الألف كتاب. ومن أبحاثها: “المرأة عند الطهطاوي”، و”أزمة الشعر”.

 الإسهام النقدي

أعادت “الهيئة المصرية العامة للكتاب” نشر طبعات جديدة من الأعمال الكاملة لسهير القلماوي، هي: “عن النقد الأدبي” و”نظرية الأدب، المحاكاة”.  

يضم الأول محاضراتها القيّمة عن النقد الأدبي من منظور مدرسة النقد الجديد، مركزةً على النص وجمالياته في مقابل المدارس والتيارات التي اهتمت بمضمونه ومغزاه الاجتماعي، فيما عالج الكتاب الثاني أقدم النظريات الأدبية والنقدية وهي نظرية “المحاكاة” الأرسطية الشهيرة.

وهي ترى أنّ الناقد لا يكون ناقداً بحق “إلا إذا كان ما يحسنه من التراث في وزن ما يحسنه من علوم العصر، وما يتقنه من معارف العرب لا يقل عما يتقنه من معارف غير العرب من علوم العصر ومناهج درسه الحديثة”.

“واصلي الكتابة يا نوال”

تأثير القلماوي طال عدة كاتبات وناشطات مصريات وعربيات أبرزهنّ نوال السعداوي التي كانت طفلة في المدرسة الابتدائية حين سمعت صوتها في الراديو. كتبت السعداوي عنها أكثر من مرة، ومن جملة ما كتبت هذه الذكرى: “في يوم دقَّ جرس التليفون في بيتي، جاءني الصوت القوي الممتلئ الذي سمعته في الراديو منذ 20 عاماً: أنا سهير القلماوي، قرأت روايتك (مذكرات طبيبة) في مجلة “روزا” وأعجبتني، واصلي الكتابة يا نوال”.

قامت سهير القلماوي بتمهيد الطريق وفتح البوابات للنساء المصريات، من أجل الدفاع عن حقهن في التعليم والتدريس والحقوق الأساسية في الحياة.

إلا أنه، رغم كل ذلك، الحركة الثقافية النسائية هامشية في مصر حتى اليوم، وفق قول السعداوي، إذ “يغلب عليها الرجال بحكم التاريخ والقوة السياسية، تغلب عليها الصراعات الحزبية، تميل إلى التضحية بقضية المرأة من أجل القضايا الأخرى؛ لهذا السبب اندثرت أعمال الكثيرات من الرائدات المصريات، في حياتهن وبعد موتهن”. وبالنسبة لها: “لا يزال تاريخ سهير القلماوي وأعمالها مجهولة عند الأجيال الجديدة في بلادنا، أخشى أن تندثر تماماً بوفاتها كما حدث لنساء غيرها”.

قد يعجبك ايضا