حارم السورية دمشق الصغرى ومعالمها الأثرية شاهدة على التاريخ

 




الأردن العربي –  الأحد 23/7/2023 م …

رغم ما يعانيه الشمال السوري اليوم من أزمات على صعيد المجتمع وعلى صعيد الجغرافيا؛ إلا أن مدنه وبلداته تصنف كمنارات تاريخية مشرقة، فجذور شمالي سوريا تمتد إلى عصور تاريخية قديمة وحقب تاريخية يشهد لها العالم برمته.
فكل الحضارات التي يشهد لها التاريخ والجغرافيا كان لها أثر وآثار كبيرة في الشمال السوري، فتنوعت الشعوب وتعددت معالم البناء من المدن إلى القلاع فالأسواق والمراكز الحيوية.
ورغم ما تعرضت لها مدن وبلدات الشمال السوري من غزوات وحروب وصراعات قادتها جيوش البشر، ورغم ما أحدثته الطبيعة من نكبات وزلزال؛ إلا أن الشمال السوري كان له دور مهم في كتابة التاريخ البشري وفي أحيان أخرى في صناعته.
وحارم الساحرة، ذات الينابيع العذبة، والبساتين الخضراء، الغنية بشتى أنواع الخضروات والفواكه، ما زالت معالمها الأثرية شاهداً على عراقة هذه المدينة وقلعتها الأثرية، ولها جذور ضاربة في عمق التاريخ.

طراز إسلامي

ترتفع حارم التابعة لمحافظة إدلب شمال غرب سوريا /138/م عن سطح البحر، ويعود تاريخها إلى الألف الأول قبل الميلاد، وبموجب البعثة الإيطالية، فإن قلعة حارم في أصلها تل اصطناعي، حيث قام الرومان بتحويله إلى قلعة صغيرة، ثم جاء بعدهم البيزنطيون وطوروها إلى حجم أكبر، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي وحررها من البيزنطيين، وأعاد بناءها على الشكل الحالي، وأعاد الملك الظاهر بيبرس تحصينها في العصر المملوكي، فهي ذات طراز إسلامي.
تعني حارم في اللغة السريانية والآرامية حارام أي الأرض الحرم، تشتهر بينابيعها العذبة النقية، التي تنبع من سفوح الجبال وأسفل القلعة، وتروي سكان المدينة وجميع الأراضي الزراعية المحيطة بها.

دمشق الصغرى

ذكرت حارم وقلعتها من قبل القاضي ابن شداد الذي كان مرافقاً لصلاح الدين الأيوبي في غزواته وحملاته العسكرية، والذي لقب حارم بـ«دمشق الصغرى» لغزارة مياه الينابيع فيها وخصوصاً نبع القلعة الذي يتجه للجامع الكبير ومن ثم للبساتين، التي تشتهر بتنوع الفواكه فيها وطعمها اللذيذ، عن باقي المناطق المحيطة بها.
ولعل أبرز ما يميز مدينة حارم الواقعة على سفح جبال حارم الغربية، هو قلعتها الأثرية، فتتوسط القلعة المدينة، وتقع على تل ترابي يشرف على معظم المناطق المحيطة بها، مساحتها تبلغ 6 هكتارات، تأخذ شكلا دورانيا، يحيط بالقلعة من الشمال الشرقي حائط كبير طوله 25 مترا وعرضه 8 أمتار. وتحتوي القلعة على أبراج مراقبة وغرف حراسة وسراديب سرية ومرامي للسهام على كافة مدارها، والذي أعطاها أهمية عسكرية، كونها منطقة مرتفعة عن محيطها، حسب ما قال فارس منصور لـ«القدس العربي» وهو أحد أبناء المدينة والمهتمين بتاريخها.

معالمها الأثرية

أبرز ما يميز قلعة حارم حسب ما ذكر المؤرخ فايز قوصرة في كتابه «حارم دمشق الصغرى» هو سوقها الأثري وسط المدينة، والذي بني في القرن التاسع عشر عندما أصبحت حارم منطقة تابعة لولاية حلب، كذلك بجوار السوق يوجد الجامع الكبير وسجن حارم، والحمام العتيق الذي يعود للعهد المملوكي.
كذلك ما يميز قلعة حارم هو الخندق المحفور بالصخر، كون حارم تقع في السفح الغربي للجبل الأعلى أحد جبال حارم، حيث توجد كتابات تظهر اسم القائد المملوكي الظاهر بيبرس ما يعني أنه قدم اليها لتحريرها من المغول.

ينابيع نقية

يقول فارس لـ«القدس العربي» تتميز حارم بكثرة الينابيع، وأبرزها وجود النبع في قلب القلعة، الذي جعلها مهداً لقيام الحضارات المختلفة فيها، وما يميزها عن باقي القلاع والحصون، أن فيها سوق وحمام، وسوقها مشابه للسوق الموجود في قلعة الحصن، إلا أنه يتميز بكثرة الدكاكين وبطوله، ما يؤكد أنها كانت ذات موقع اقتصادي وتجاري مهم جداً.
تحررت حارم وقلعتها بعد محاصرتها لفترة طويلة من قبل فصائل المعارضة، إلى أن انسحبت منها قوات النظام تحت جنح الظلام في عام 2012 فقد اتخذتها قوات النظام مربضاً للقاذفات الصاروخية والمدفعية، لقصف القرى والبلدات المجاورة.

أهمية القلعة

قلعة حارم هي التوأم لقلعة انطاكية في الأهمية والتخطيط والبناء العمراني، ويوجد وفق ما قاله فارس المنصور نفق للخيالة يربط قلعة حارم بقلعة أنطاكيا، الذي يساعدها على التبادل التجاري والغذائي، ما جعلها عصية على الحملات العسكرية على مدار التاريخ. ويقال إنه من أخذ قلعة انطاكيا ولم يأخذ قلعة حارم، لم يأخذ شيئا.
وكانت قلعة حارم محطة استراحة للمسافرين والتجار، ففيها الحمام العام وحمام الملك وحاشيته، وذلك لوفرة المياه في النبع الموجود في وسطها.
إضافة لأهميتها الاقتصادية والتجارية، فهي ذات موقع عسكري استراتيجي، إذ تقع بين جبال حارم شرقاً وسهل العمق غرباً، بحيث أصبحت مركز مراقبة، يُشاهد القادم اليها من كل الجهات، وما يميزها أيضاً عن باقي القلاح هو ارتفاعها الشاهق الذي يصل لـ70 مترا، فهي أعلى قلعة بالعالم وهي حقيقة لا يعلمها أغلب الباحثين في تاريخ حارم وقلعتها.
وكذلك موقعها الاستراتيجي الواقع بين حلب شرقاً وأنطاكيا غرباً، فلا يزال قسم من طريق الحرير القادم من الهند قائماً إلى الآن، بحجارته المرصوفة بعناية، شاهداً على عظمة تاريخ مدينة حارم وقلعتها.
كما تتشابه قلعة حارم مع قلعة حلب، نتيجة قيام الأيوبيين، بإعادة وترميم القلاع المدمرة وفق الطراز الإسلامي الأيوبي، لذلك نجد تشابها كبيرا بين القلاع التي كانت تحت سيطرة دولة الأيوبيين.
كما لم يغب الدور الديني الهام لقلعة حارم، حيث لعبت دوراً دينياً مهماً كمؤسسة دينية كبيرة في العهد البيزنطي تحت اسم دير حارم، الذي تحدث عنه مراراً المؤرخ السرياني يعقوب الرهاوي في مؤلفاته.
ويأمل المنصور أن تمنع السلطات أي شخص من أن يضرب ضربة معول فيها، من أجل الحفاظ عليها، لأنها شاهد على حقب زمنية مهمة، ولأهمية القلاع التاريخية والحضارية.

القلعة والمغول

يتابع محدثنا فارس بقوله، إنه وبعد سقوط قلعة حلب على يد المغول في التاسع من شهر صفر 658 ه عيَن هولاكو قائد المغول قائدا لقلعة حلب وهو فخر الدين المعروف بالساقي، ثم توجه المغول لقلعة حارم، وتم حصارها، واستعصت القلعة على المغول، وأخذ هولاكو يفاوض حاميتها، على أن يعطيهم الأمان ان سلموا القلعة بدون قتال، فرفضت الحامية التسليم، إلا بوجود والي حلب كصمام أمان لهم، فاستجاب هولاكو للطلب، فحضر فخر الدين وتم فتح أبواب القلعة ودخل المغول المدينة، إلا أنهم غدروا بالحامية وخانوا الوعد، فقتلوا فخر الدين ومعظم سكان قلعة حارم، ولم ينجُ من هذه المذبحة العظيمة سوى صانع سيوف أرمني، وكان ذلك في عام 1260 ميلادي في 658 هجري.

زلزال 6 فبراير

تأثرت معظم مناطق شمال غرب سوريا بزلزال 6 شباط/فبراير الذي تسبب بوفاة الآلاف من السوريين، ودمار كبير في المنازل والبنى التحتية ووفاة آلاف العوائل، وكان لمنطقة حارم نصيب من كارثة الزلزال، حيث سويت حارات كاملة بالأرض وكأنها مسحت عن الخريطة، بالإضافة لقرية بسنيا قرب المدينة، التي تدمرت بالكامل على رؤوس ساكنيها، وسقط فيها قرابة 400 حالة وفاة.
كما تأثرت قلعة حارم بشكل كبير بالزلزال، فتدمرت نسبة 50 في المئة من معالمها الأثرية، والتي باتت تفقد هويتها الحضارية شيئاً فشيئاً، وهو أمر يتحتم على كافة المعنيين الاهتمام به، كون هذه المدينة تمثل صرحا حضاريا عريقا للمنطقة، وفق ما يقول محدثنا فارس المنصور.
ويقول المنصور إن من أهم القادة في التاريخ الذين مروا بحارم، كان الاسكندر المقدوني، زنوبيا، معظم أباطرة الرومان، هولاكو، السلطان العثماني محمد الفاتح، أبو عبيدة بن الجراح، خالد بن الوليد، الظاهر بيبرس، أما في عصر حارم الحديث، فأهم العائلات التي استوطنت المدينة، هي آل منصور الذي يعود نسبهم لقبيلة النعيم، وآل برمدا الذين يعود نسبهم لأكراد تركيا، وبعدها توافدت العوائل من مختلف مناطق الريف المحيط بها، بسبب كثرة الأراضي الزراعية، وتوفر فرص العمل الزراعية فيها، والذي كان يحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة.
كتب الشُعراء في حارم القصائد والأشعار واصفين جمال طبيعتها، وسحر المكان الشاهق المتربع على عرش المنطقة. قال فيها الشاعر صلاح كيالي أبو النورس:
تسألني عن الخلد
وعن فوح له عائمُ
عن النسرين مغتبطاً
عن الجواري شذا هائمُ
وتسألني عن التاريخ
في أرجائها قائمُ
إذا حدث وأن أُطربنا
فنحن اليوم في حارمُ

وكتب الشاعر خالد الحجي في مدح حارم:
هل أنت زاهرة أم الزهراء هل أنت قرطبة أم الفيحاء
ما هذه الأرواح حولك حارم عبقت بها الأنحاء والأرجاء
فالأيكُ مبتسم كوجه صبية كادت تخار لحسنها الجوزاء

قد يعجبك ايضا