«تَزُولُ الْجِبَالُ وَلَا تَزُلْ، عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ، تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَغُضَّ بَصَرَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ»

(وصية الإمام علي بن أبي طالب لولده، وحامل رايته في الحرب، أبي القاسم محمد – سميّ النبي وصاحب كنيته)

إلى حمزة وخيري. بكيناكم كتامر.
… وهذا بعض ما رواه إبراهيم الأمين عن لقاء السيد نصرالله بإدوارد سعيد ومحمود درويش (اللذين طلبا لقاءه، كل على حِدَة) في أعقاب التحرير عام 2000: «… وظلّا يعبثان في الكلام معه كطفل يريد أن يسمع كبيراً من حوله يقول له ما يجعله ينام مطمئناً إلى غده. وكان سؤالهما الصدمة: وماذا بعد؟ لم يكن السيد حسن بخيلاً في شرح مقاصد نضاله ورفاقه… وكان يبتسم ويجيب بصوت هادئ وحاسم: سنُزيل “إسرائيل” من الوجود!» (1).

ما لم يقله إبراهيم، إنه وفيما كنا نتابع بدهشة وفرح عظيم مشاهد التحرير في أيار 2000، كان هذا السؤال بالذات على لسان كل فلسطيني وعربي وفي ذهنه وفي قلبه – لهذا كتبت أكثر من مرة، وبلا ملل، أن انتصار أيار أعاد الصراع العربي الصهيوني إلى المربع الأول، ووضع كل ما ظن العدو أنه إنجازات استراتيجية قد اكتملت وأنجِزَتْ ولا عودة عنها في موقع التشكيك، إن لم يكن قد أبطل مفاعيلها كلياً كما يفيد حال المقاومة وخطابها الجذري في حقبة ما بعد انتصار أيار. وأنه فيما كنّا نتابع صوت السيد القادم من بنت جبيل يومها («الخزي والهزيمة والذل والعار من الماضي. هذا الانتصار يؤسّس لحقبة تاريخية جديدة ويقفل الباب على حقبة تاريخية ماضية. دعوا اليأس وتسلّحوا بالأمل. دعوا الوهن جانباً واشحذوا الهمم والعزائم»)، كان كل فلسطيني يود ويتمنى، ليطمئن قلبه أكثر، لو يستطيع أن يسأل السؤال ذاته أيضاً للرجل الذي كان الجميع، ولا يزال، يؤمن أنه الوحيد الذي يمتلك الجواب، بل والوحيد أيضاً الذي يودّ الجميع أن يسمع الجواب منه بالذات، لا من غيره – ألم يكن هذا بالضبط ما فعله سعيد ودرويش؟ ما لم يقله إبراهيم أيضاً، إن الكثير من الفلسطينيين أيضاً، ليس فقط لا ولم يتوقعوا جواباً غيره (خصوصاً من السيد)، بل وأكثر من ذلك، لا ولن يستطيعوا أن يقبلوا جواباً آخر – ربما لهذا السبب لن يسألوا مثل هذه الأسئلة الكبرى إلا للسيد.

فهذا الجواب كان، ولا يزال، وسيبقى، سبب قدرتنا الوحيد على العيش، وسبب قدرتنا الوحيد حتى على الاستمرار في العيش، رغم كل شيء يجري لنا ومعنا، وهذا الجواب بالذات هو المعنى الوحيد والحقيقي لأن تكون حياً حقاً بالنسبة إلى الكثير من الفلسطينيين: أن بلادنا ستتحرر فعلاً (وعسى، يا ربّ المجاهدين، أن يكون ذلك قريباً)، وأننا سنعود بكرامة إلى بيوتنا وأرضنا وأهلنا. فهذا الجواب، ولا شيء آخر غيره، هو ما يقف بيننا، كأفراد، وكجماعة، وكشعب، وبين الموت السياسي والثقافي والوطني والمعنوي النهائي. فليس صراعنا مع هذا العدو كأي صراع آخر، مهما حاول الأنذال استغلاله وتسييسه أحياناً لخدمة أهداف رخيصة وتشبيهه بصراعات أخرى لا تشبهه على الإطلاق. فما يكافح ويستشهد من أجله شبابنا الأبطال وبالعشرات كل يوم أحياناً هو، حرفياً، الوجود بحد ذاته. لهذا، لا نستطيع ولا يمكننا حتى أن نقبل مجرد التفكير بأي جواب آخر، وليس في القلب والعقل، ولا يمكن أن يكون، متسع لأي جواب آخر، لأنه يعني أن نقبل بموتنا الجماعي وأن نُسَلِّم بإبادتنا كشعب. لهذا، ندرك في أعماقنا جيداً، أن هذه حرب لا يمكننا، ولا نستطيع، أبداً أن نخسرها، لأن الهزيمة فيها تعني شيئاً واحداً فقط: أن لا نكون. ولهذا السبب بالضبط نعرف أن كل ثمن ندفعه أو سندفعه كشعب وأمة لن يكون كبيراً أو كثيراً، بل سيصغر حتماً أمام هذا الهدف النبيل.
في هذا الحوار، جلس إدوارد سعيد، أحد أهم مفكّري العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، بين يدي سيد المقاومة (كالطفل فعلاً) ليسأله السؤال الكبير، ثم يغادر مطمئناً إلى حتمية ما ظنه قبلها «المستحيل»، وليخرج من عند السيد أيضاً وثقته بأن هذا «المستحيل»، فقط «على بعد جيل»، كما جاء في «طباق» درويش لسعيد. فسعيد، المفكر والناقد الاستثنائي، كان يعرف أن الجواب على هذا السؤال الكبير يحتاج إلى عالِمٍ في حقل معرفي لا يُدَرَّسُ في الجامعات والأكاديميات الغربية، بل إلى قائد كبير تراكمت خبرته ومعرفته لسنين بالمقاومة وقيادتها، حروب التحرير الوطنية وإدارتها، والصراع الوجودي وإدارته، وليس من أدبيات حركات التحرر فقط، بل ومن الميدان خصوصاً، ومن بين المتاريس والدشم وأزيز الرصاص وفولاذ البنادق ورائحة البارود ومرابض الصواريخ.