كيف نفهمُ مُخرجات الحقائق .. في ” فيزياء السّياسة ” ؟ / د. بهجت سليمان

Image result for ‫بهجت سليمان‬‎

● د . بهجت سليمان* ( سورية ) الأربعاء 12/6/2019 م …




* السفير السوري السابق في الأردن …

  • [ حديث الثلاثاء ” 52 ” الحلقة الثانية والخمسون ] :
  • [ تجربة “بِندُولْ” السّياسة تتفوّق على الواقع و التّصوّرات .. ]
  • [ المهاراتُ المتهالكة و حربُ الأسرار ]

1▪ ” القطع النّاقص” في فيزياء الهندسة التّحليليّة ، هو الشّكل البيانيّ الأكثر كمالاً و تماماً من أخويه “المكافئ” و “الزّائد” ، عند تحديد المجالات القصوى في الحركة البيانيّة لحركة مسار “التّوابع” في تحوّلاته غير المسوّغة . و لكنّها لغة الفيزياء بالرّياضيّات هي ما يجعلُ هذا الأمر مفهوماً ، فقط ، و يجعل منه شيئاً معقولاً في الإحاطة بالتّفاضلات و التّكاملات المتغيّرة باستمرار .

و ترسمُ حركة التّوابع غير الخطّيّة أشكالها تبعاً لمبدأ التّحليل الرّياضيّ المعاصر على نحو يتجاوز الهندسة الدّيكارتيّة ، التي بقيت تحاصر مفهوم التّحليل الرّياضيّ و تستأثر به في جذره الأساسيّ ، لتتقدّم إلينا بوصفها واحدة من الآثار العلميّة المعاصرة هذه ، التي دخلت فيها كمّيّات جديدة ، في دالّات التّوابع ، من الأفكار التي لا تقبل القولبة و التّنميط ..

2▪ و القطع النّاقص هو بالتّعريف الحسّيّ ، بالمشاهدة ، و المشاهدة العقليّة ، الحركة التي يرسمها “البندول” التّقليديّ ( النّوّاس – الرّقاص ) ، في عمليّة تأرجحه و نوسانه المتخامدة في العالم الفيزيائيّ على سطح مستوٍ ، بحيث أنّه يرسم عدداً لا حصر له من “القطوع النّاقصة” المكافئة و المتكافئة و المتقاطعة تقاطعات تامّة ( بقطوع ناقصة ، تامّة ) و المتناوبة و المتوالية ، و التي تضيق أبعادُها و تَصغُرُ بحسب تناهي حركة “الذّراع” إلى “الثّبات” ، عمليّاً ، في بيئة غير مثاليّة من فيزياء النّظريّة الفراغيّة و فيزياء الخَلاء .

و كانت التّجربة الأشهر على هذا “البندول” تلك التي قام بها الفيزيائيّ الفرنسيّ ( ليون فوكو ) ( 1868 – 1819 ) في كنيسة ( بانتيون ) في باريس لإثبات دوران الأرض حول محورها (حول نفسها ) . و قد سمّيت هذه التّجربة في تاريخ الفيزياء ، بتجربة “بندول فوكو” .

و يفهم المُطّلعون جيّداً هذه المبادئ ؛ و أمّا بالنّسبة إلى القرّاء من غير المُطّلعين ، فهذا لن يؤثّر على فهمهم و إدراكهم لأبعاد هذا الحديث ، القادمة .

3▪ هزّ العقدان الأوّل و الثّاني من القرن الواحد و العشرين ، العالمَ من أقصاه إلى أقصاه . العنف شيء يوميّ ، و القتل و الفتك و الدّمار و التّدمير . سيولُ الدّماء الرّخيصة البخسة ، و أفول العاطفة و الحنان .

تقاحل الأفكار النّظريّة و العمليّة ، معاً ، و احتقار كلّ التَّقانات الإنسانيّة في استثمار مراكمة القيم المعروفة و منع إنتاج القيم الجديدة بتعجيز و تعقيم العقول المشرقة .

مؤامرات و هندسة سرّيّة في الخفاء ، للسيرورة اليوميّة ، و تقارب للحكّام و الحاكمين مع فصامات بشريّة و إنسانيّة و زرع الكراهيّة بين الأفراد و المجتمعات و الشّعوب و الأديان و القوميّات .

انمحاق الأفراد تحت حدود الوجود الضّروريّة الأوّليّة ، و التّزاحف الدّامي للهامشيين إلى مصدر الّلقمة المعفّرة بالذّل و الدّم و التّراب .

جيوشٌ تغادر أراضيها و أخرى تُصلَبُ على ثَراها الوطنيّ في أسوار من الهلع و الضّآلة و أدوات ذاتيّة للتّفتيت . و تهافت سخيف جدّاً للفلسفة .

لم تكن الأمور ، سابقاً ، أفضلَ ممّا هي عليه اليوم . الذي اختلف بين “الأمس” و “اليوم” هو اتّساع المشهد العالميّ أمام العقل الإنسانيّ ، على عكس ما كان يُراد للإنسان ، مع الثّورة الرّقميّة و نتائجها الإعلاميّة و التّواصليّة المذهلة ، من تسطيح للدّماغ و تدجين للوعي و حكم أو تحكّم بطرائق التّفكير .

نعم نجحت عولمة العالم في القرن الواحد و العشرين بشيء كبير من ذلك ؛ و لكنّ الذي لم تحتط له هذه “الثّورة” المزيّفة إنّما هو وجود “العقل النّقديّ” لدى طائفة من المفكّرين الذين يُدوّرون “المعلومة” في الدّماغ باجترار لا يهدأ ، حتّى تصبح هذه المعلومة جديرة بمختزنات العقل و أدواته في الحكم ، هذا الحكم الذي يختلف ما بين البشر من مُسَلّمٍ بحقن الدّماغ و القلب برعب الاختراعات و السّياسات التي يقوم عليها اليوم ، في العالم ، قوم من الهواة ؛ إلى ناقد عقلانيّ تأصّل فكره و أدواته على أصالات التّقاليد الفكريّة التي تتيحها تراكمات العلوم الصّحيحة بعد فرزها عن “العلم المزيّف” ، و تسمح بواسطتها بتحريض الخامل من زوايا الدّماغ و أمكنته المجهولة ، ليصبّ هذا الإنجاز في هيبة العقل الإنسانيّ الذي تجري عليه المساومة العولميّة بوقاحة تهدف إلى الاحتقار .

4▪ يمكن لنا تحديد المسار “العقليّ” المزيّف لنتائج العولمة و أهدافها التّفتيتيّة للعقل و الفكر ، عن طريق ما يمكن أن نسمّيه الإمعان بالتّخصّص و التّجزيء النّظميّ للمنظومات الكبرى للتّفكير لعزل هذه المنظومات ، بعضها عن بعضها الآخر ، بهدف قطع الاتّصال العضويّ ( العصبيّ الكهربائيّ ) ما بين عمل نُظم الدّماغ البشريّ و منظوماته المترابطة و المتشارطة و المتكافلة في إصدار الأحكام .

و هذا هو ما يمكن لنا ، اليوم ، أن نسمّيه “المنطق” العقلانيّ المعاصر ، بعد أن صار علينا من الواجب تعديل الأسس القديمة للمنطق الأرسطيّ – الكانطيّ و تجاوزه من حيث هو “فنّ التّفكير السّليم” !

5▪ ينقل لنا ( إدغار موران ) ، الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسيّ المعاصر ، المولود عام ( 1921 ) ، “الإنسانويّ” النّاقد للحداثة و الإنسانويّة ، بحزم ، في كتابه “هل نسير إلى الهاوية ؟” ، عن ( كلود باستيين ) ، جملة في عبارة موجزة و تفصيليّة للصّورة “البنائيّة” المشوّهة التي تعمل عليها “العولمة” ، اليوم ، بالنّسبة إلى طريقة مراكمة “المعلومات” و “مجاورة” نظم التّفكير و فرض طريقة التّفكير على الدّماغ البشريّ الذي أوهموه بذكائه “العولَميّ” ، فإذا به عبدٌ مقيّد إلى نظم التّحكّم الخرافيّة العلميّة المزيّفة التي “يقدّمونها” على أنّها إنجازات “ذكيّة” لدماغ “غبيّ” !

يقول ( كلود باستيين ) : ” التّحوّل المعرفيّ لا يتّجه نحو وضع معارف تزداد تجريداً بل ينحو إلى العكس إلى وضعها في سياق ” .. و هو الأمر الذي يحدد شروط ترابطها و حدود صحّتها .

 [ إدغار موران – هل نسير إلى الهاوية ؟ – ص ( 51 ) ] .

6▪ ” وضعها في سياق ” ؟ في رأينا ، فإنّ هذه العبارة تتضمّن و توحي مباشرة بعبارة الممارسة “الذّكيّة” العولميّة المزعومة : “وضعها خارج السّياق ؛ أو وضعها في خارج سياقها الأخلاقيّ” ..

و لنأتِ بمثال !

من المعروف للمهتمّين أنّ الدّوال “المعرفيّة” و “العلميّة” و الرّياضيّة و الهندسيّة ، إنّما تُحَدِّدُ ، سلفاً ، قَبْلاً ، شكلَ و حياة “التّابع القطعيّ” الرّياضيّ ، بحيث أنّ جميع ما يُبديه “بيان التّابع” الكلّيّ ، و في أقصى “تكامله” ، هو ليسَ إلّا بعضا من “المعلومات” البيانيّة التي تحملها “جيناتُ” التّابع الأصليّ في المعلومات النّاجزة كَدَوَالٍّ “معرفيّة” ( رياضيّة و هندسيّة ) “مجَهَزّة”(!) أصلاً في “ذاكرة” تامّة ! . هذا ، و ليسَ للتّفاضلات البيانيّة الاشتقاقيّة ، أو “البيانات التّفاضليّة” للرّسم الهندسيّ النّاقص ( “القطع النّاقص” ) أن يتعاظم فوقَ أقصى برنامجه المكتوب في “المعادلات الكونيّة” العادلة و الكاملة و التّامّة ، و إنّما له في تناهيه أن يَكِلَّ ، و حسب ، عن “مشروعه الذّاتيّ” ، ليعودَ ، دونه ، إلى “مقداره” أو “قدره” ..

و يُخطئ من يتصوّر أنّ “القطع النّاقص” الهندسيّ الكونيّ ، لا يكافئ “القطع النّاقص” البشريّ السّياسيّ الذي تعمل عليه السّياسات المعاصرة ، و ذلك برسمه اليوميّ و إعادة تنقيحه “المعرفيّ”(١) ، المعلوماتيّ ، الضّروريّ و الحيويّ .

و “الفارق” الوحيد ، المزيّف ، ما بين نوعيّ هذا “القَطْع” ( الإنجاز ) ، هو لا يعدو كون “الثّاني” صناعة ناقصة في ظاهر الأمر ، بينما هي تنحرف عن أهدافها البشريّة ، خلسةً ، لتعودَ إلى أصلها الشّامل الذي يُغلّفها بأحكام الوجود ؛ فيما “الأوّل” قد التزم بعدالة “قضيّته” منذ البداية و حتّى النّهاية ، و فيما بين “الحَدّين” .

7▪ من الطّبيعيّ أنّ العالم ، بقواه الذّاتيّة ، ليسَ هو من يُقرّر نهاية العالم ، كما أنّه ليس هو من يقود ذاته إلى الهاوية . إنّ التّداخل الموضوعيّ للقطع النّاقص الذي يصف وضعيّة أو أكثر من وضعيّات التّرتيب “المادّيّ” للوجود ، مع “القطع النّاقص” الذي ترسمه سياسة “العالَم الحاكم” ، إنّما هو “تداخل” ليسَ فهمه بهذه الصّورة البسيطة التي يرغبها المرء .

إنّ الإذعان المحصّلاتيّ الذي تخضع فيه صناعات قوى “القطع النّاقص” البشريّ ، السّياسيّ ، في عمليّة اكتشاف مسارات طاقة الحاكميّة التّاريخيّة ، لقوى صناعة “القطع النّاقص” الكونيّ ؛ هو واقع تبدو آثاره في الرّغبات و القرارات السّياسيّة المحبّبة أو المفضّلة أو الأقوى ، أكبر ممّا هي عليه بالفعل .

هذا في الوقت الذي لا تُفصح قوى الكون “القاطعة” عن أيّة رغبة بأيّة لغة يفهمها السّاسة و السّياسيّون ، و لو أنّها مكتوبة بلغة فلسفيّة أو تأمّليّة خاصّة و خالصة .

و انطلاقاً من هذا الأمر ، فإنّنا لسنا مع الرّأي القائل أنّ “العالم” يسير إلى هاوية هي من خارج سياقات مشروعه الأصليّ ؛ وفق ما يغزر من كتابات “أخلاقويّة” ، مثل “مثاليّات” غالبيّة كتابات ( إدغار موران ) – مع أصالته – و أمثاله ؛ مثلما أنّنا لا نرى ، و لا بحال ، أنّ سرّ “الغاية” ، و بخاصّة منها السّياسيّة ، قد أعطي للبشر ، الّلهمّ إلّا تلك الغاية التي هي “المعرفة” ، معرفة الإنسانيّة ، و التي يبدو أنّها تتكرّر في الحضارات بحثاً لها عن مريدين و عن أبطال و مؤمنين .

8▪ و على ما تقدّم ، فإنّنا لا نرى أنّنا ، في العالم السّياسيّ العولميّ ، نعبر ضياعاً نحو نهايات وخيمة لأزمة “الحضارة الحديثة” ، بقدر ما نحن نعيش ، اليوم ، مرحلة طبيعيّة و تاريخيّة من العمل “الخلّاق” الذي أفضتْ إليه تراتبيّة القوّة نفسها و التي لا يمكن أن تكون منقطعة أو مبتوتة عن المعرفة !

يُحاجج “الأخلاقويّون” بحاجة “الإنسانيّة” المعاصرة إلى “التّحوّل” عن مساراتها الحضاريّة خارج “المأزق” الذي صنعته ؛ مع العلم أنّ ما صنعته الحضارة و حقّقته ، حتّى اليوم ، هو أحد “مركزين” ( محرقين ، أو بؤرتين ) للقطع الكونيّ – السّياسيّ ، النّاقص ، المُطبّق على دورة “الحضارة” تطبيقاً برنامجيّاً دقيقاً ؛ هذا و ليس هنالك من العلوم المعاصرة ما يضبط هذه الحركة “القَطعيّة” ، هل هي أقرب من “المُحاق” أم من “الحضيض” !؟

إنّ على “العقلانيّة النّقديّة” أن تخرج ، نهائيّاً ، من أطوار أسفها العديدة و الطّويلة على الإنسانيّة ؛ إذ و لو أنّ “الإنسان” قضيّة مركزيّة في أطوار “الحضارات” .. إلّا أنّه ليسَ “الدّالّ” الوحيد ، و مهما عظمت قوّته ، هو من يرسم احتمالات أطوار “القطع” ، و إنّما يُشاركه في ذلك ، إن لم يكن يأمره ، قوى أخرى بعضها مفهوم و معلوم ، أخلاقيّ أو غير ذلك ، بينما بعضها الآخر – و هو الأهمّ ، و الأكثر تأثيراً و حسماً – هو قيد “المعرفة” الخالصة التي لم تتسرّب ، بعد ، إلى مجال “القوّة” العمليّ ، و التي من المرجّح أنّها تختبر لذاتها تجربة الواقع و الواقعيّة .

9▪ ليسَ شرطاً أن ترسم حركة “بندول السّياسة” القَطعَ النّاقص الذي يُريده “الجميع” ، حيث يكفي لذلك أن تُرضي هذه الحركة “الدّوالَّ” الأكثر حضوراً و قوّة و تأثيراً في “الفيزياء السّياسيّة” التي تجرّ وراءها في فكرتها الأوّليّة ، جميعَ أفكار البشر المؤثّرين أو الذين يقومون على خدمة قوى فاعلة و مؤثّرة في العالَم .

هنا ينشأ الكثير من سوء الفهم و خلط “المجالات” باحتكاكات ثقافيّة و فكريّة مفجعة بما ينجم عنها من احتراقات في حدود الحِزامات المجالاتيّة النّوعيّة .. بحيث ينجم عن ذلك خروج “البعض” ، أو خروج “الكثيرين” عن مسارات “السّياسة” ، الفيزيائيّة ، المقرّرة بالقوّة و بالقَبْليّة ، و ذلك بسبب الإسراف في التّصوّرات المبالغ بها ، تكثيراً ، أو تقليلاً و تبخيساً ، حول وصول مشتملات و حدود “القطع” أو “القطوع” السّياسيّة “النّاقصة” .

إنّ المُتَّبَعَ المثاليّ ، أو النّموذجيّ ، المعرفيّ ، في مثل هذه الحالات المربكة ، و التي يتسابق جميع البلهاء لتقديم الآراء فيها و التّوقّعات و التّحليلات ، و الاحتمالات المريرة الرّجحان ، هو ذلك التّصوّر المتواضع و الذي يعطف على تواضع قوّة السّياسة العالميّة ، و حتّى بعنفها ، و تصاغره في حركة الدّوران القطعيّ المتنتاهيّ إلى الثّبات في عالم لا يوصفُ بالخلاء الفيزيائيّ ( لتوفّر قوى و عناصر الاحتكاك ) ، و لا كذلك بالخلاء العقليّ – السّياسيّ ( لوجود العقلانيّات السّياسيّة التي تطوّرها كثير من الأمم المعاصرة ) ، إذ أنّ هذا و ذاك هما ما يقدّم لنا صورة الموقف السّياسيّ ( “القطع النّاقص” السّياسيّ ) بتشخيص قوى “القطع النّاقص” الكونيّ و إيحاءاته المجرّدة .

10▪ إنّه من تآليف مشروع “العالَم” السّياسيّ ، اليومَ ، أن تختلط المعلومة بالخرافة بالأسطورة بالحقيقة بالواقع بالمشخّص بالمجرّد في الأفكار .

و عندما تتراخى أو تفتر المناسبات لذلك ، فإنّ “الأحداث” ، و المشغّلين ، جاهزة و جاهزين ، ليصنعا منها الوقائع الكافية التي تشغلُ وهميّة “المهارات” في القراءة و التّحليل و الأحكام .

حتّى الآن ، فلقد تهاوت و ترنّحت الكثير من مهارات “البشريّة” أمام تحليل “الواقعة” السّياسيّة و “الظّاهرة” السّياسيّة و “الممارسات” الاختصاصيّة للقوى “القائدة” في العالم ؛ باستثناء أولئك أصحاب مهارات “المعلومات” الّلازمة و الكافية ؛ و هذا على غير ما يريد المستبشرون من مهاراتهم الوهميّة المرقومة على ذاكرة الأدب السّياسيّ الأخلاقويّ ، و على صفحات مفاهيم “التّطوّر” ، الأخلاقيّة ، التي ابتكرها الإنسانُ في الرّغبات .

غير أنّ اعتمادنا على نظريّة “القطع النّاقص” السّياسيّ ، هو ما يمنحنا إمكانيّة أن نتجاوز مشكلة “عَوَزَ المعلومة” في “عالم المعلومات” .

11▪ يتعلّق أمر ” القطع النّاقص” ، أوّلاً ، بلا اختياريّة مسار القطع ؛ فهو يرسم تابعه الرّياضيّ – الحسّيّ ، الواقعيّ ، بمعزل عن القرارات . و مهما تكن انطلاقة تلك القرارات ، في بدايتها ، تحدّدها القوّة و الرّغبة و الأفكار و السّطوة و المصلحة و الأهداف السّرّيّة من وراء ذلك و التي تشغل العالم اليوم في وقت أصبح فيه تغيير العالم ، تغيير مركز ثقل العالم ، أمراً ضروريّاً ، من “الغرب” إلى “الشّرق” . و هكذا – و على سبيل المثال ، فقط ! – انتقل ثقل مباحثات الحرب السّوريّة العالميّة من ( جنيف ) إلى ( أستانة ) و ( سوتشي ) .

▪ ملاحظة :

 [ بالمناسبة فإنّ لفظ ( أستانة ) ، العاصمة الكازاخيّة ، – كما يُقال – هو لفظ غير دقيق ؛ و الصّحيح ( آستانة ) ، و تعني “العاصمة” ؛ و، تعني ، أيضاً ، “نور سلطان” ] ..

تابع ، الملاحظة :

 [ تقول المعلومات الثّابتة : قد يرى البعض العاصمة الكازخيّة “أستانة” مدينة من عجائب العالم ، لأنها بنيت في وقت قصير جدا، في حين يرى “الكازاخ” أنهم ليسوا وحدهم من بنى ( آستانا )، بل العالم كله شاركهم بناءها، ولذلك استضافت ( آستانا ) العالم في “إكسبو 2017”..

 [ ويعتبر معرض العالم ، هذا ، ثالث أكبر حدث دولي بعد دورة الألعاب الأولمبية وكأس العالم لكرة القدم ..

 [ ويقام المعرض الدولي “إكسبو” في جميع أنحاء العالم منذ عام ( 1851 ) . وتمّ اختيار ( آستانا ) في عام ( 2012 ) لاستضافة الحدث لنسخة ( 2017 ) ؛ ومنذ اختيارها، تتحضّر العاصمة لاستقبال مئات الشّركات والمؤسّسات، و ملايين الزائرين ..

 [ وعلى الرغم من أن كازاخستان تمتلك مصادر غنيّة من الطّاقة ، إلا أنها تقاسم العالم الهموم الناتجة عن مخاطر نضوب مصادر الطاقة التقليدية وضررها على البيئة .. ولهذا السّبب دعت ( آستانا ) المجتمع الدّولي للتفكير الجماعي في قضية “طاقة المستقبل” خلال معرض “إكسبو 2017 ” ] … !!؟

انتهت الملاحظة .

12▪ تفرض الأحداث المستقلّة بموضوعيّتها المختزنة فيه شكلَ و إحاطة مسار “القطع” السّياسيّ الذي يحقّق منظور الرّؤية العمليّة المجدية ، كما يُحدّد زخم العكس المتمثّل بالقصور الذّاتيّ لحركة التّابع الرّياضيّ ( الحسابيّ و الهندسيّ ) – الحسّيّ ، و الواقعيّ ، و المعرفيّ .. و ذلك حتّى تناهيه الأصغريّ ، ثمّ إلى الثّبات ، ثمّ إلى عكس “الطّريق” أو إلى طريق معدّل جديد ، و لكن بدفعة قوّة أوّليّة جديدة للبدء بمسار حركة التّابع ليرسم قطعه النّاقص ، أيضاً ، و لكنْ من جديد !

هذه هي لغة السّياسة العالميّة المعاصرة . إسمُها الذي نراه أنسبَ ، هو “قطوع واقعيّة” ( ناقصة ) و متوالية و متناهية ، لا تهدأ ، للمشاريع و المخطّطات و الأفكار ، و تختصر و تختزل و تضمّ أكثف ما تريده القوى العالميّة الحاكمة ، و لكنْ على نحو مريب و غير ثابت و غير واضح و غير محدّد و لو أنّه ، في النّهاية ، محدود .

13▪ تبدو حروب العالم ، اليوم ، و التّهويل بحروب أعظم ، من أدوات حروب الأسرار و المعلومات السّياسيّة و الاستعماريّة المعولمة ، و التي يمتلكها عدد قليل من الأفراد المتفرّدين بمقدّرات و قوى العالم .

و في هذا الإطار تتهالك “المهارات التّقليديّة” و الأفكار المتواضع عليها ، لتنشأ ، في الأفق ، لغة سياسيّة أكثر اختزالاً و بأبجديّة مختصرة الحروف ، و لو أنّها بليغة الآثار في ما تتركه في الممارسة و القدرة و الأمر و الفروض .

و تبعاً لما تحدّثنا فيه ، أعلاه ، من “قطوع الفيزياء السّياسيّة ، النّاقصة” ، فإنّنا لا نقرّ بأن أهداف العولمة و تقاناتها السّياسيّة و أفكارها المختزنة و معارفها الخاصّة و المستأثر بها ، هي أشياء واضحة بالمطلق لذويها و أصحابها من أفراد العالم الأكثر قوّة و الأكثر فرضاً للسّياسات على الدّول و المجتمعات ..

و ذلك باعتبار أنّ طبيعة “القطع النّاقص” ، الفيزيائيّ – السّياسيّ ، إنّما هي طبيعة تقوم على “النّقص” في التّكوين السّياسيّ للقطع و الموروث عن نقص في التّكوين الفيزيائيّ الأصليّ ، للقطع ..

و على أنّ أقصى ما تقرّره تلك “القطوع” إنّما هو اجتزاء الحقل الحيويّ للدّراسة السّياسيّة و التّمحيص العمليّ بممكنات الأدوات الّلازمة للتّعامل مع مضامينه و مفرداته ، بما فيها الدّول و المجتمعات و الشّعوب التي تحوّلت إلى ” أمبيقات ” للاختبارات المعمّقة ؛ و ذلك من أجل تكرير و تثبيت أخطر و أكثف شكل من أشكال استثمار محتويات “القطع” الموضوع في “أمبيق” التّجربة ، بالتّفصيل الذي قد يأخذ ، عادة ، زمناً إضافيّاً للتّثبّت من واقعيّة مطابقة الأفكار على الواقع المطلوب ، أو العزوف نهائيّاً عن الأسلوب الذي منحته معلومات الاختبار للتّعامل مع محتويات “القطع” ؛ لو لا أنّ محتويات هذا “القَطع” هي من طاقات بحامل بشريّ و عقليّ و روحيّ ؛ و هو ما يجعل “التّجربة” السّياسيّة في فلسفة اجتزاء القطوع الفيزيائيّة الحقليّة و الجغرافيّة ، بمقدّراتها الخاصّة ، تجربة فاشلة ، أو تجربة تحتاج إلى التّكرير و التّدوير من جديد .

14▪ نحن نلاحظ ، هنا ، أمرين معاً :

الأوّل ، هو تهالكُ المهارات السّياسيّة العولميّة نفسها و خروجها عن المخطّط لها ، و هذا ضعف بشريّ وليدٌ عن هشاشة مقوّمات الأداء و التّوقّع و الاحتمال ..

و الثّاني ، هو جنوحٌ تعويضيّ لهذا الأمر الذي خذل “المطابقة” بين الأفكار و الواقع ، و ذلك بواسطة حرب المعلومات و الأسرار و ازدياد الطّموحات العالميّة المتبادلة للقوّة بالشّغف وراء الأسرار التي قوامها مزيد من المعلومات و الاكتشافات الفضائاتيّة ( و أعني ، هنا ، ما فوق الحقليّة ) و التي تدخل فيها التّصوّرات و طرائق التّفكير و النّوايا و الميزات الشّخصيّة للأفراد ، في صلب الأشياء المتنازع عليها داخل “القطع” و خارجه .

و هذا من أجل تجربة جديدة للقطع الفيزيائيّ – السّياسيّ في حقل آخر و لو قريب من حقول التّجارب المختلفة ، ذلك أنّ للعولمة – مهما اختلفنا على أسمائها الأخرى و مضامينها – أهدافاً محدّدة في بقاع خاصّة من الجغرافيا العالميّة ، و هي أهداف لا يمكن لها التّنازل عنها و لو بدا عليها قبولها بالتّأجيل .

15▪ ترتبط وقائع المخرجات السّياسيّة للحقائق في فيزياء السّياسة ، في فلسفة “القطع النّاقص” ، بحالات ضبابيّة ، بالعموم ، و ليست متاحة للفهم إتاحة الضّوء لصفحة الكتاب . و لكنْ كيف يمكن التّعامل مع هذا الواقع الإشكالي ؟

تنتمي “الحقيقة” ، نفسها ؛ و أعني “الحقيقة” بألّ التّعريف ؛ إلى مجالين متناقضين ، معاً ، كما يبدوان في أوّل الأمر . فهي (“الحقيقة”) من جانب أوّل ، متاحةٌ للجميع ، و هي فوق ذلك مضلّلة في “الإسم” ، إذ أنّ كلّ ما هو واقعيّ ، ملموس و ممارَس ، “حقيقيّ” !

و هنا تمتدّ قائمة “الحقيقة” ، أو قائمة الأشياء “الحقيقيّة” ، امتداداً طويلاً ، و هو بالكاد ينتهي تبعاً لانتهاء همّة البحث و الرّصد و التّقرير .

و هي من جانب ثانٍ ، يستغرقها “التّجريد” لكي يكون من الممكن وضعها في إطار مفهوميّ مناسب و عمليّ ، إذ أنّ من أهداف البحث عن “الحقائق” إنّما هو قيمتها العمليّة المباشرة .

إنّ أيّة “معرفة” لا يُمكن إنجازها أو التّحقّق منها إلّا بواسطة مَلَكَةِ “التّجريد” العقليّ ، هذه “الملكة” التي يكبر الصّراع المعرفيّ فيها في عالم اليوم ، السّياسيّ المعولم حتّى نخاعه .

و التّجريد بذاته ، كَمَلَكَةٍ على ما قلناه ، هو فرع من فروع “التّخصّص” بالمجرّد المعقول و غير المتاح للجوارح و المشاعر و الحُدوس و الأحاسيس ؛ و لهذا فهو غالباً ما يحتاج إلى متمرّسين في مناورات مرونة العقل في “العقلانيّة” شديدة التّبصّر و المسؤوليّة .

فالتّجريد يُحيلكَ من “الحقل” إلى “الفضاء” ، و من “الوقائع” إلى “الرّوابط” ، و من “الفكرة” الملموسة بالرّأي إلى “الصّورة” صعبة التّحقيق و المنال ، و من “القطع” إلى النّتائج التي حقّقها أو إلى تلك التي عجز عن تحقيقها ، ليدور ، من جديد ، وفق دوالّ معرفيّة جديدة و دلالات مرسومة في الأهداف .

و هو ( أي التّجريد ) يُخرِجُ “الحقيقة” من شغفها النّمطيّ اليوميّ المُقولب ، السّهل المُستَسهل ، إلى نسقها في الأفكار عبر نماذج من الصّور الجديدة الدّالّة على أفكار خفيّة .

و هكذا فالمعرفة لا تكون من دون “تجريد” ، و هي ، علاوة على كلّ ذلك ، لا يمكن أن تكون مجرّدة في “سياق” أو مثال !

16▪ من هنا كانت الصّعوبات التي تعترض طريق مخرجات “الحقائق” ، بما هي كذلك ، انطلاقاً من “فيزياء السّياسة” ، حيث نكون أمام مضاعفة للتّجريد مؤلّفة من جماع علمين هما بطبيعتهما ، كلاهما ، مجرّدان ، و هما رياضيّات الصّورة الهندسيّة ، التي تتألّف من “صوريّة” رقميّة بما هي الرّياضيّات الصّوريّة أحدث لغات الفيزياء ؛ إضافة إلى “السّياسة” بوصفها لغة الدّوال و الغايات المنيعة على الاستحالة إلى اختصاص عامّيّ .

و أمام هذه المُحالات المركّبة ، فإنّ ثمّة “وسائط” من علوم أكثر تشخيصاً و تمثيلاً و تبسيطاً ، قادرة على أن تقفَ بنا على حقائق عالميّة ، بشرط ألّا تجرفنا البساطة و السّهولة و الاستسهال إلى “التّسذيج” .

17▪ تقدّم لنا “العلوم المساعدة” الأبواب المغلقة و المقفلة التي تُتيحها السّياسات اليوميّة و هي تصحّر الإدراك البشريّ بالرّعب و الإرهاب و العنف و البذاءات الأخلاقيّة و الحذف القيميّ للأشياء ؛ فيما يبقى علينا مهمّة اختراع و إبداع و إدراك “المفاتيح” الصّالحة لفضّ أقفال تلك الأبواب الموحية بما خلفها من حقائق و أسرار .

إنّ “علوماً” من مثل “الاجتماع” و “الأنثروبولوجيا” و “الأثنولوجيا” و “الجينالوجيا” و “الجغرافيا” و “التّاريخ” و “الاقتصاد” و “المال” و “التّراكم” و “القيمة الزّائدة” و “رأس المال” و “دورات الإنتاج” و “فترات الرّواج” و “وسائل الإنتاج” و “قوّة العمل” و “قوّة الإنتاج” و “أدوات الإنتاج” و “المحاسبة القوميّة الشّاملة” و “دورات رأس المال” و “التّبادل التّجاريّ” الماليّ و السّلعيّ .. إلخ ؛ هي كلّها – على عكس ما يجري به العمل و الوهم ، حتّى اليوم ، ليست إلّا علوماً مساعدة للكشف عن “الحقائق” ، و هي تتوفّر أمامنا كأبواب موصدة ، و ذلك ، أيضاً ، حتّى أمام أكبر و أعتى أخصّائييها المزعومين أو الدّعيين .

إنّها علومٌ تنغلق على فُتات من أطراف “الحقائق” التي تناهت إليها بفعل الانتشار ، و بالأدقّ بفعل “الانتثار” بالمفهوم الكيميائيّ المحض ، مع الحدود و الإيهامات التي “تُفرض” على مدى “انتثاراتها” بما يخالف القانون الكيميائيّ للانتثار .

و أمّا مفتاح “التّجريد” المعرفيّ فهو يُتيح لنا إعادة تأليف و صياغة كلّ المعطيات المُتأتّية عن نتائج هذه “العلوم” التي وجدت ، أصلاً ، وظيفيّاً ، للإيهام و الإبهام و الغموض و الإخضاع .

18▪ عادة ، يتواطأ الأقوياء ضدّ الأذكياء بفضل زائد الغباء الذي يتوفّر في الأقوياء عندما ينظرون إلى مستقبلهم ، و مستقبل “مشاريعهم” ، المهدّد بالعقل .

و لكنّ الأذكياء ، هم أيضاً وغالبا ، مدجّنون و مدجّجون و محصّنون .. بمحدوديّاتهم و ضيق آفاقهم نتيجة لما يُضمره لهم “المستقبل” من مشاريع التّهميش العُنفيّ و الدّحر و القتل .

إنّ هذا الواقع ، الذي يُفرضُ فيه على الأذكياء قراءةُ نوايا و مشاريع الأقوياء ، هو بالضّبط ما يمنع “الثّقافة” في التّاريخ من إدراك “الحقائق” ، لأنّ مصير الذكيّ أن يتحوّل إلى جهة ، جبهة ، الأقوياء ما إن يتمكّن من الّلغة المعرفيّة الخاصّة بقراءة الاتّجاهات و التّفاصيل ، بسبب ما تمنحه إيّاه هذه الإمكانيّة ، هذا التّمكّن ، من المشاركة الاغتباطيّة باستسرار المصالح الكبرى للأفكار الرّاعية للحضارات ؛ من جهة أنّه ليس لحضارة من الحضارات ، سواء منها المنقرضة ، أو حضارتنا هذه ، أن تبلغ مداها الافتراضيّ في “الأخلاق” .

19▪ و إذ أنّه ليس الحب و ليست الصّداقة و لا الذّكاء و لا الفطنة و لا الحنكة و لا العاطفة و لا العلم و لا المهارة و لا القوّة و لا العقل و لا العبقريّة .. إلخ ؛ هو ، كلّه ، ما يصنع السّياسة و السّاسة و السّياسيين ، و ربّما أنّه يقوم عائقاً بين العقل و الحقيقة ..

فإنّ المكمن الفطريّ لطاقات فهم السّياسة ، و بخاصّة منها هذه السّياسة العولميّة ، اليوم ، إنّما هو في إدراك الخفايا و الأسرار التي يتسلّح في كهوفها عنف العالم بتمرّده على العقلانيّة التي تقضي بالعدالة الموضوعيّة التي تُمارَسُ في أصل القوّة الأونتولوجيّ .. في السّماء .

هذه ليست طرائقيّة دينيّة أو يوتوبيّة لإدراك العالَم ، و لو أنّها طريقة من طرق ، إحدى طرق ، إيمانات الفلسفة المعرفيّة العقلانيّة على مرّ عصور الحضارة البشريّة المنحرفة ، اليوم .

و لا مانع ، هنا ، من التّضحية ببعض التّجريد الفلسفيّ المعرفيّ ، لنقول مثالاً من قلب السّياسة المعاصِرة !

إنّ أحد أهمّ “القطوع” النّاقصة التي يرسمها “بندول” السّياسة العالميّة ، اليوم ، هو “القطع النّاقص” الذي يُعاود ، باستمرار ، تحديد و تنقيح و “تحرير” ( طبعاً ، لا أعني بالحرّيّة و بالتّحرّر ، و لكنْ بالكتابة و الإشهار ) و تثبيت حقول “الشّرق الأوسط” بمفهومه السّياسيّ .

للمكانِ هنا مركزان للقطع ( المحرقان ، أو البؤرتان ) ، واحدة من هاتين “البؤرتين” ، فقط ، هي معروفة للجميع ، و هي ( “إسرائيل” ) ، و الثّانية غير معروفة و ربّما تكون متشكّلة أو ليست متشكّلة ، بعد .

تنشط السّياسة الهندسيّة لقطع المكان ( للقطع النّاقص للمكان ) ، انطلاقاً من نقطة واحدة ( بؤرة ) ثابتة في المكان كأحد مركزيّ “القطع” ، و هذا مع أنّ “القطع النّاقص” لا يمكن رسمه هندسيّاً ، لا عمليّاً و لا نظريّاً ، إلّا اعتباراً من نقطتين ( مركزين ، محرقين ، بؤرتين ) ثابتتين .

و على رغم ما يوفّره “القطع النّاقص” من تحديد نظريّ للحقل السّياسيّ – الفيزيائيّ – الرّياضيّ ، و بالمحصّلة الواقعيّ .. فإنّه ، علاوة على أنّه لا يُمكن تصويره انطلاقاً من دالّة واحدة أو مركز واحد أو بؤرة واحدة ، لا يمكن أن يمثّل حقيقة واقعيّة ، في نهاية الأمر ، ذلك لأنّ إنشاءه يجري ، عادة ، في سطح مستوٍ ، في الرّياضيّات و في فيزياء الاسّياسة ؛ بينما الأمر مختلف في الواقع من جهة أنّ “الواقع” نفسه ليسَ عمليّة تخيّليّة على سطح مستوٍ ، بقدر ما هو أمر متفاوت المستويات الفراغيّة ( الفضائيّة ) متباينة السّطوح و المنظورات .

و في هذا الواقع ، فإنّه من الصّعب جدّاً أن تسلك “السّياسة” العالميّة ، و مهما كانت ماهرة و قويّة ، سلوك السّبل الميسّرة أو البسيطة التي تقوم عليها تهيّؤات الجميع من السّاسة و السّياسيين ، و لهذا فإنّنا غالباً ما نشهد التّخبّطات السّياسيّة في القرارات و الأفعال القريبة و البعيدة ، و في القراءة و الفهم و التّحليل ، و كذلك في تقرير نهايات و خواتيم الأحداث المختلفة .

ثمّ إنّ لهذا “القطع السّياسيّ” في “المنطقة” مساحة أو ذراعاً ينبغي أن تكون أكثر اتّساعاً و بعداً ممّا يتخيّل البعض لكي يشكل “القطع” فاعليّة كافية للسّيطرة الجغرافيّة السّياسيّة و ضمان اتّساع حيويّ للمجال الذي من المفترض أن يكون “آمناً” بالنّسبة إلى ( “إسرائيل” ) .

يُفسّر لنا هذا الأمر هذه المحموميّة “الإسرائيليّة” في توسيع علاقات “الكيان الصّهيونيّ” ، السّياسيّة ، مع دول و بلدان مختلفة ، و بخاصّة منها البعيدة ؛ هذا ؛ كما يُفسّر لنا الأمر السّياسات الأميركيّة في المنطقة و التي ترمي من ورائها (.أميركا ) إلى “تقوية” و تثخين و توسيع أطراف و حدود “القطع” السّياسيّ في ( “الشّرق الأوسط” ) ضماناً لاستقرار مستقبل ( “إسرائيل” ) .

و نستطيع ، بناء على ما تقدّم ، مثلاً ، أيضاً ، أن ننظر إلى علاقات ( أميركا ) التّصاعديّة و الخابية ، على التّوالي ، مع كلّ من ( روسيا ) و ( الصّين ) و ( كوريا الشّماليّة ) و ( سورية ) و ( إيران ) ..

إذ أنّ سياسات “الوَلايات المتّحدة الأميركيّة” ، في “المنطقة” و “العالم” ، تقوم على ما صوّرناه من فلسفة فيزيائيّة – سياسيّة ، و هندسيّة ، و “تجريبيّة” إلى أقصى الحدود ، و هو ما يجعلها سياسة أكثر “حيويّة” على مستوى العالم .

20▪ من الطّبيعيّ أن إخفاقات السّياسة في نظريّة “القطع” السّياسيّ التي قاربناها ، هي ليست إخفاقات و لا تعترف بالهزيمة أو بالفشل ، ذلك لأنّها ، هي ، بالفعل ، ليست كذلك ، و هذا انطلاقاً من حركيّة الهندسة السّياسيّة و طاقتها المتحرّرة باستمرار إلى الدّرجة التي تجد نفسها فيها جديدة و حيويّة في كلّ منعطف و في كلّ قرار أو “مشروع قرار” .

و ربّما أنّ ما نشهده من “إخفاقات” أو من إيحاءات بها ، أو ما نرغب فيه على أنّه كذلك ، للسّياسات العالميّة الإمبرياليّة المعاصرة ، هو ليس أكثر من تبادليّة دائمة في التّجربة انطلاقاً من إرث سياسيّ استعماريّ بخبرات وطيدة و تاريخيّة لم يحن موعد نفادِها ، بعد .

غير أنّ الثّابت الآخر الذي علينا اعتماده ، في إطار ظروف الهندسة الفيزيائيّة السّياسيّة للعالم المعاصر ، في “المنطقة” و في غير المنطقة ، إنّما هو ، أيضاً ، قناعتنا بأنّ ما سقناه في مقدّمة هذا الحديث هو حقيقة ، و أعني ممّا هو من “تفاضلات” القوى حتّى انهيارها المحتّم ، و كذلك من “تكاملات” قوى أخرى حتّى اشتدادها في منطق السّياسات ذات الصّبغة القدريّة التي تؤازرها في النّهايات ، و ذلك على ما كانت النّهايات من جميع صنوفها في التّوقّعات .

21▪ في المسؤوليّات السّياسيّة المباشرة ، قلّما يخرج التّخطيط عن مساره ، و قلّما يتحوّل المسار إلى غيره من التّسميات ، و نادراً ما تقع الأخطاء الكبيرة أو الكارثيّة ؛ و لكنّ ما يحصُل أحياناً تاريخيّة من اجتياحات كبرى للذّاتيّة الفرديّة ( الأنويّة أو الجماعيّة ) في صيغة النّائبات البشريّة منها و الإنسانيّة ..

فإنّه يكون مقدّراً له ، بحكم ما هو معلوم و مفهوم و ضروريّ و اضطراريّ ، أو بحكم ما هو مجهول من قبل جميع “الفاعلين” العالميين ، أن يحصُلَ ، و لو كان ذلك بواسطة فاعلين عالميين ، و ذلك في “فَلتةٍ” من فَلْتاتِ الجاهليّة البشريّة .

قد يعجبك ايضا