الأخلاق والمجتمع الطائفي … لبنان نموذجا / د. إيمان شمس الدين

د. إيمان شمس الدين ( الأربعاء ) 8/8/2018 م …




جدل الأخلاق كان ومازال من الجدليات الإشكالية بين مختلف المدارس الفلسفية، كون الاخلاق تشكل قوام السلوك الإنساني على مستوى الفرد والمجتمع، وهي من أهم اللغات التواصلية اللفظية والسلوكية، والتي تؤثر في استقرار المجتمعات، وتحقق منسوبا عاليا من التعايش والتسامح خاصة في المجتعات المتعددة. وتحقق استقرار الدولة بل وازدهارها.

واليوم يكمن الجدل الحقيقي في الجسد الاسلامي والعربي حول الصراع القائم بين الأخلاق على المستوى النظري وما تشكله من ثوابت والأخلاق على مستوى الفعل وما يطرأ عليها من متغيرات.

فالثابت الأخلاقي نظريا قد يطرأ عليه عنوان ثانوي ليصبح له حكم متغير على مستوى الفعل الأخلاقي، فمثلا الكذب مذموم عقلا ومحرم فقهيا على مستوى النظرية، لكنه كفعل اخلاقي يعتبر متغيرا تابعا لموضوعه، فإن كان على سبيل المثال الموضوع إنقاذ إنسان من الموت أو إصلاح ذات البين يصبح هنا الكذب كفعل أخلاقي ممدوحا بل واجبا فقهيا في هذا السبيل، رغم أنه نظريا مذموم ومحرم، لكن طروء عنوان آخر عليه على مستوى الفعل جعله ذا حكم متغير.

ولكن كيف يمكننا مواءمة ذلك على المستوى السياسي وخاصة في المجتمعات المتعددة طائفيا، بحيث لا يمس تغير الفعل الاخلاقي تبعا لتغير الموضوع بقيم كالتعايش والتسامح والعدل والخير والحق، وهي قيم مقومة للأخلاق الفردية والاجتماعية على حد سواء ، في ظل تغيرات كبرى تطال مصالح الطوائف وتركيباتها الديموغرافية في جغرافياتها المتنوعة في الوطن العربي؟ وكي نضيق الدائرة يمكننا أخذ مثال ونموذج يمكن تطبيق الفرضية عليه وتناول بعض جوانبها ، ولبنان هو المثال الأوضح في هذا الصدد، لتنوع هذا المجتمع طائفيا وحزبيا وتداخل الاخلاقي بالسياسي بالمعرفي، مما أثر كثيرا على كثير من بنى هذا البلد مع التقادم.

يقوم الفعل الأخلاقي على مجموعة من القيم ثلاثيّة القوام هي : الحقّ والخير والعدل.

ولكن ما هو مدى حضور هذه القيم في الحياة الاجتماعيّة اللبنانيّة؟

للإجابة على سؤال مهم كهذا، علينا بداية استعراض أهم المحطات في تاريخ لبنان والتي شكلت بنيته الاجتماعية والسياسية وأثرت على ثلاثية العدل والحق والخير:

1_ المجتمع اللبناني خضع لاستعمار صليبي طويل الأمد، خاض خلالها الصليبيون حروبا دينية بجيش اطلق عليه اسم جيش الرب، كان لهذه الحروب العقائدية أثرا كبيرا في تغيير التركيبة الطائفية، خاصة مع استهداف الصليبيين للتجمعات المسلمة واليهودية بل وحتى المسيحية تحت شعارات دينية رفعتها الكنيسة وهي مواجهة الكفار.

2- وبعد هذا الاحتلال خضع لبنان للاستعمار العثماني الذي استهدف أيضا تركيبته الاجتماعية وثرواته و انخرط على ضوء ذلك أغلب أفراد المجتمع اللبناني وخاصة في جبل عامل حروبا لمقاومة المستعمر العثماني الذي حول لبنان لجغرافيا طبقية قائمة على أساس الولاء للعثماني وخدمته.

3- ثم جاء الاستعمار الفرنسي الذي شكّل لبنان وما يجاوره من بلدان عربيّة ، وبالتعاون مع معسكر الاستعماري الغربي، بما يخدم مصالح المستعمرين. وكان الاستعمار الفرنسي امتدادا لذلك الصليبي في وجهته الدينية والسياسية وتبنيه لمنهج طائفي يقوم على التمييز بين طوائف المجتمع، لتصبح الأسبقية في العطاء للولاء الطائفي أولا ثم الولاء السياسي تحت شعار العمالة.

2_ ترك بعد ذلك الاستعمار الفرنسي السلطة ، بعد خروجه من لبنان وأسس لدستور شبيه إلى حد كبير بالدستور الفرنسي وقسم السلطة ،موزّعة على أربع طوائف أساسيّة: رئاسة الجمهوريّة للموارنة(إحدى الطوائف المسيحيّة) وكانوا يشكلون العدد الأكبر كمسيحيين من جهة وبين الطوائف من جهة أخرى ، ورئاسة المجلس النيابي للشيعة الذين توزعت انتماءاتهم بين عروبية قومية وشيوعية لينينية أو بكوات عائلية، ورئاسة الحكومة و مجلس الوزراء، للسنّة.

3_ مكّن الفرنسي وفق ما أقره من دستور رئاسة الجمهوريّة من الهيمنة على الدولة والتحكّم بسائر السلطات، وبذلك جعل النفوذ طائفيا بامتياز.

4_ تم توزيع السلطة على الطوائف ، لا وفق مبدأ الكفاءة والعدالة، بل وفق مبدأ الانتماء والولاء والمحاصصة، خاصة في ظل غياب شبه كلي لدولة حقيقية قوية وعادلةوقادرة على النهوض بلبنان كدولة مستقلة مدنية ترفع شعار المواطنة؟ وترسي قيم التعايش والتسامح من خلال هذه المواطنة، وترتكز على مبدأ الخيرية والحق والعدالةفي توزيع المناصب في مختلف مؤسسات الدولة، و دعم مسيرة التعليم لتشمل الجميع. وهو ما كرس تقسيم المجتمع داخل جغرافيا لبنان على أساس المحاصصاتالطائفية، لأن الفرنسي أرسى دستورا قسم المناصب طائفيا بالتالي حول المجتمع إلى طبقات وطوائف لا يقوم مبدأ العدالة فيها في توزيع الثروات والمناصب، ولا وجودلمبدأ المواطنة الصالحة التي تفرض مبدئي الكفاءة والمساواة، مما يكرس الانقسام والتدافع الخلافي بين أطياف المجتمع، ويهدم قيم التسامح والتعايش، و يقوض مفهومالحق والخير، لحساب مفهوم الظلم والشر. وهذا يخلق شعور بالغبن الفردي والاجتماعي، وشعور بالظلم قد يتحول مع التراكم والتقادم لمشاحنات مذهبية وطائفية فيمجتمع تعددي تم تأسيس دستوره على اساس المحاصصات الطائفية لا على أساس الكفاءة والجدارة .

وبالرغم من تداخل الديموغرافيا في التركيبة الاجتماعية على جغرافيا لبنان، إلا أن المحاصصة السياسية التي اقرها الدستور جعلت من الجغرافيا لعنة وليست رحمة، فبات كل مسؤول يجعل الحق في صالح طائفته، فيكرس موقعه في الدولة وكل الخدمات المتاحة من خلال هذا الموقع لرفاه الطائفة التابعة له، و يتجلى ذلك من خلال تمركز الطائفة التابعة له في منطقة من مناطق لبنان، لتجد تميز الخدمات المقدمة في هذه المنطقة على باقي المناطق بسبب دعم هذا المسؤول من خلال موقعه لأبناء طائفته، وليس اعتبار موقع المسؤولية موقعا لخدمة اللبنانيين جميعا لغياب مبدأ المواطنة والهوية الجامعة تحت مظلة العدالة والحق.

هذا الوضع مع التقادم خلق طبقية اجتماعية، وتمييز طبقي طائفي راكم الشعور بالظلم والغبن لدى باقي الطوائف المسلوبة الحق، والتي كان يعيش بعضها تحت خط الفقر، خاصة في مناطق الأطراف والريف وبالأخص الشيعة، مما دفع بالمجتمع للتناحر الأهلي على أساس طائفي، وقسم بعد هذه الحرب الطاحنة جغرافيا لبنان أيضا على أساس طائفي، فباتت هناك مناطق للسنة وأخرى للمسيحيين وثالثة للدروز ورابعة للشيعة، وتحول لبنان لكانتونات تتمترس فيها كل طائفة وتشكل لها مجتمعها الخاص وبيئتها الحاضنة، وتتميز بميزات وفق موقعها في الدولة على ضوء الدستور.، وهو ما راكم ثقافيا ومعرفيا قيما بعيدة عن الثوابت الأخلاقية، لكنها قيما متصلة اتصال عضوي بالفعل الاخلاقي النسبي، حيث تنظر كل طائفة للفعل الأخلاقي من زاويتها الخاصة وفق مبدأ المنفعة، وغابت بشكل شبه كلي النظرية الأخلاقية كثوابت.

وكان نتيجة الحرب كارثية على مستوى المجتمع من جهة وعلى مستوى ثلاثية الاخلاق الثابته : العدالة والحق والخير، وتحول الوطن إلى أوطان في جغرافيا واحدة تحكمه مؤسسات شكلية ليس لها فاعلية حقيقية على أرض الواقع.

وقف الحرب الأهلية جاء بتوافق سعودي – سوري – أمريكي وذهب الأفرقاء إلى الطائف، لتوقيع اتفاقية جديدة يتم بها رسم سياسات لبنان ما بعد الحرب ، وهي اتفاقية الطائف، التي لم تعالج الطائفية السياسية بل كرستها بطريقة تشبه ما فعله الفرنسي الذي ميز الموارنة المسيحيين على باقي الطوائف، ليأتي السعودي ويكرس تمييز السنة وتوسيع صلاحياتهم ، فأصبح الطائف مأزقا طائفيا آخرا.

وقد ظهرت شخصيات دينية وسياسية عديدة تطالب بإلغاء الطائفية السياسية، و استبدالها إما بالديموقراطية التوافقية، وبعضهم طالب بالتمثيل النسبي، وآخرين طالبوا بقيام دولة حديثة تلغي الطائفية السياسية، وتبني دولة على أساس العدالة والحق وتكافؤ الفرص ، دولة المواطنة الصالحة التي تطبق العدالة والمساواة وتجعل الهوية اللبنانية هي الهوية الجامعة دون النظر لطائفة أو مذهب.

ونتيجة غياب الدولة بسبب الحروب، وبسبب تدخل الدول الخارجية في لبنان، وغياب الخدمات الاساسية للمواطنين، شكلت الأحزاب بديلا رديفا للدولة، وقدمت الأحزاب الخدمات الحياتية التي يفترض أن تقدمها الدولة، فبات الانتماء الحزبي ضرورة للمواطن اللبناني كي يستطيع العيش بأقل متطلباته الخدماتية، حيث وفرت كثير من الاحزاب الوظائف والرواتب والخدمات الصحية والاسكانية وغيرها من الخدمات التي قصرت بها الدولة بسبب المخاصصات الطائفية ومحاولة نقل صراع النفوذ والمصالح من دائرة السياسة الى دائرة الشعب والجماهير، ليشكل وسيلة ضاغطة يحقق هؤلاء الساسة من خلالها ما يطمحون إليه، لا ما يوفر عيش كريم لهذه الجماهير.

تكريس الانقسام صعب قبول المطالبات بإلغاء الطائفية السياسية، بل لم يكن لها مقبولية لا سياسية ولا حزبية ولا شعبية، بسبب غياب حقيقي لمفهوم الدولة، وغياب حقيقي لرجال الدولة، وبالرغم من محاولة الإمام موسى الصدر في الدفع باتجاه قيام لبنان قوي مستقل، إلا أن محاولته اثارت مخاوف دول إقليمية كان ومازال قرارها هو لبنان ضعيف دوما، فكان حراك الإمام موسى الصدر بمثابة إنذار خطر لمجوعة مصالح داخلية سياسية وحزبية متشابكة مع الخارج ومصالحه الجيواستراتيجية، فجاء القرار بتغييب الإمام الصدر لتغيب معه فكرة الدولة القوية، وتتكرس فكرة الطائفية السياسية و تداعياتها الكارثية على الفرد والمجتمع لأجيال متعاقبة.

و خلاصة القول: أن نموذج لبنان أوضح أن التعددية الطائفية والمذهبية وأيضا الحزبية، أدت إلى تفتيت المجتمع وتقسيمه وضرب قيم التعايش والتسامح نتيجة تداخل السياسي ومصالح السياسيين مع الاستقطاب الطائفي وعدم فصل المعرفي والأخلاقي عنه، بل سخر الفعل الأخلاقي بنسبينه في اللعب السياسي ليتحول الحق لحق الطائفة، والعدل لعدل الطائفة، والخير لخير الطائفة، ولم يعد في هذه المنظومة وجودا لثوابت أخلاقية تستظل بها السياسة والسياسيين، ويستظل بها لبنان ليكون وطنا سقفه الهوية اللبنانية وشراعه المواطنة ليبحر في بناء دولة حديثه يمكنها تقديم نموذجا متطورا في المنطقة للديموقراطية، ولكن هذا ما لم يرده المستعمر والجوار، بل أخافه، فقرر أن يحول خير التعدد الطائفي إلى سلاح شر يفتك بالعدالة والحق وقيم التسامح والتعايش، ويحول لبنان إلى كنتونات معزولة بعضها عن بعض في جغرافيا واحدة، يمكنها أن تشعل حربا فيما بينها لأقل خلاف يثيره أحدهم ليدمر كل شيء.

وهنا نحن لا ننكر وجود محاولات عديدة لتجاوز هذه الانقسامات كاتفاقية حزب الله مع التيار العوني، وهي اتفاقية تاريخية كان لها السبق في تجسير العلاقة بين طائفتين كبيرتين وازنتين في لبنان هما المسيحيين الموارنة والشيعة، و تاريخيا كان الموارنة السادة والشيعة غالبا العبيد، هذا التجسير ألغى هذه الفروقات الطبقية التي صنعتها أحداث التاريخ بيد المستعمرين، وأعاد بناء لحمة هامة بين أبناء وطن يفترض أن تجمعهم هويته، هذا فضلا عن محاولات عديدة أخرى لا يسع المقام لذكرها، إلا أنه في الفترة الأخيرة ظهرت مجددا مطالبات سياسية بإلغاء الطائفية السياسية، ولكي يتم التمهيد لها طرح مشروع قانون الانتخابات النيابية وفق مبدأ التمثيل النسبي والذي قد يحقق قدرا من العدالة، قد يمهد فيما بعد واقعيا اذا بقي إصرار المخلصين، قد يمهد لإلغاء الطائفية السياسية والبدء ببناء لبنان الدولة القوية العادلة وتعود الثوابت الأخلاقية كمعيار مرجعي للعمل في شتى المجالات لا سيما السياسية منها.

فتكون العدالة هي قوام الدولة، والحق قائما وفق مبدأ المواطنة لا الطائفة، والخير هو خير لبنان والشعب اللبناني.

قد يعجبك ايضا