تونس عناصر تَقْيِيمِية ومُقترح حوار بين قُوى اليسار / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 27/4/2023 م …

 * تتضمّنُ هذه الوَرَقة قسْمَيْن:




القسم الأول: محاولة لقراءة تطورات الوضع الحالي بتونس، بعد انتفاضة 2010/2011

القسم الثاني: مُقترحات لإطلاق نقاش بين قوى “اليسار” بتونس، بهدف تأسيس جبهة تقدّمية، ثم توسيع النقاش ليشمل الوطن العربي 

لما حَكَم الإخوان المسلمون البلاد، من سنة 2012 إلى 2021، بالتحالف مع فئة من الدّستوريين (أتباع بورقيبة وبن علي) ورجال الأعمال الفاسدين، طبّقُوا رؤُيَتَهُم للحُكْم فاعتبروا الشعب مُغَفّلاً أو كافرًا أو من اهل الذمة أو لا يُمارس الإسلام بالشكل المطلوب، ولذا فإن أمواله غنيمة أو جزية وخراج يمكن (بل يجب) اعتبارها غنيمة وجب تقاسمها بين “من يخافون الله” (على رأي عبد الفتّاح مورو، قبل أن يُزيحَهُ راشد الغنوشي) تعويضًا على سنوات السّجن والإغتراب الذي جعلهم أثرياء في بريطانيا وألمانيا وفرنسا.

جرت الإنتخابات الرئاسية بتونس سنة 2019 وتنافس في الدّور الثاني نبيل القروي، صاحب شركة دعاية وإعلام “ترفيهي”، لم يُعرَف له نشاط سياسي مُستقل، بل يستخدم السياسة بغرض زيادة ثروته، وأسّسَ لهذا الغرض حزبًا/مُقاولة/آلة انتخابية ليتمكّن من التّعريف بنفسه لدى عامّة الشعب، (وتنافس) مع قيس سعيد، وهو مُدرّس جامعي، مختص في القانون الدّستوري، لم يعرفه الجمهور (من خارج طلبة كُلِّية الحقوق بتونس والمُتخصّصين في مجال القانون) سوى منذ سنة 2011 بواسطة وسائل الإعلام، ولم يُؤَسّس حزبا، بل عَبّر عن عدائه للأحزاب، ولم يُقدّم برنامجًا سياسيا متكاملا بل بعض الأفكار المتناقضة أحيانًا…

ترأَسَ راشد الغنوشي مجلس النّوّاب (مركز النفوذ وِفْقَ دستور سنة 2014) الذي تَحَوّل إلى “سوق عكاظ” وتحولت معه الدّيمقراطية إلى مهزلة، ما جعل قسمًا كبيرًا من المواطنين يَنْفُرُون من “السياسة” ومن الصّورة التي تنقلها وسائل الإعلام السمعية-البصرية عن الدّيمقراطية النّيابية، ما زاد من الشّعُور بالإحباط…   

هؤلاء الأفراد الثلاثة – راشد الغنوشي وقيس سعيد ونبيل القروي – هم رُمُوز لطبقات وفئات اجتماعية ولهم امتدادات في الدّاخل والخارج، ولئن حظي قيس سعيد بتأييد شعبي واسع النطاق، فلأن الفئات المحرومة وجزءًا من الفئات ذات الدّخل المتوسط ومن البرجوازية ضاقت ذَرْعًا بحكم الإخوان المسلمين، كما حَظِي بتأييد خارجي، من الجزائر ومن بعض دُول الإتحاد الأوروبي، فلا يمكن أن يحكُم قيس سعيد البلاد بدون دعم فِرَق الأمن الدّاخلي العديدة، بالإضافة إلى الجيش وبعض القطاعات الإقتصادية والمالية، وفي الخارج، لا بدّ من دعم الجزائر والإتحاد الأوروبي، وعندما نفّذ قيس سعيد خطّتَهُ وتأويل الدّستور على هَواه، يوم 25 تموز/يوليو 2021، عبرت جماهير غفيرة، خاصة من الشباب، عن ابتهاجها لإزاحة الإخوان المسلمين وحلفائهم، وتظاهرت جموع غفيرة بعد اعتقال راشد الغنوشي – رئيس مجلس النواب حتى 25 تموز/يوليو 2021، ومؤسس حركة الإتجاه الإسلامي ثم النهضة، فرع الإخوان المسلمين في تونس –  ثُمّ تم اعتقاله بتهمة “الدّعوة العَلَنِيّة إلى حرب أهلية “، كما تم اعتقال زعماء آخرين كانوا يدعون إلى “أسلمة المجتمع التونسي”، بدعم من قَطَر وتركيا، وكأن الشعب “كافرٌ” أو “مُشْرِك” أو “من أهل الذّمّة”، واعتقال زعماء يدعون إلى إرساء نظام الخلافة والشريعة الإسلامية كمصدر للتشريعات، وذلك على مدى متوسّط أو طويل…

تم انتخاب قيس سعيد رئيسا سنة 2019، بنسبة عالية من أصوات من شاركوا في المسار الإنتخابي، وكانت سُلْطته محدودة جدًّا وفق دستور سنة 2014 الذي يولي أهمية لمجلس النّوّاب (كان تحت سيطرة الإخوان المسلمين وحلفائهم) الذي يُصادق أو لا يُصادق على تعيين رئيس الحكومة والوزراء، ولكن الرئيس الجديد تمكن من إيجاد “فَتْوى” قانونية تُمكّنُهُ من تأويل الدّستور لتحقيق طُمُوحه السياسي وتغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، وكان الإخوان المسلمون من أهم ضحايا هذا الأنقلاب الدّستوري، وبالأخص زعيمهم ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي الذي عاش العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين بين بريطانيا والسودان وقطر، وكان مُقرّبًا جدًّا من حسن التُّرابي، زعيم الإخوان المسلمين السودانيين، وأحد أهم زعماء الإخوان المسلمين في العالم، ويقول بعض السودانيين إن الغنوشي كان مُستشارًا للحكومة السودانية  ويحمل جواز سفر دبلوماسى سودانى…

ظروف انتخابات السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2022

كانت المُشاركة في هذه الإنتخابات مُتَدَنِّيَة، ولذا وجب التساؤل حول أسباب عُزُوف المواطنين عن المُشاركة في هذا “العُرس الدّيمقراطي” المزعوم، فقد كانت مُشاركة المواطنين ضعيفة لانتخاب 161 نائبًا بالبرلمان الجديد، يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2022، ولم تتجاوز 8,8% من المُسجّلين، وفق الهيئة المُشرفة على الإنتخابات، وتُشير نِسْبَةُ المُشارَكة الضعيفة إلى غياب الرّهان أو إلى عدم الإيمان بجدوى الإنتخابات، وفق قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل، وليس استجابة لنداء المُقاطعة الذي أصدره الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، أو بعض التيارات الأخرى التي تُعارض شكل الحُكْم الحالي. أما بالنسبة للسلطة فإن الإنتخابات تُمثّل أحد شُرُوط الدّائنين، لإضفاء شرعية على السّلطة ومؤسّساتها، قبل الإفراج على القسط الأول من قَرض أقَرّه صندوق النقد الدّولي يوم 15 تشرين الأول/اكتوبر 2022، بقيمة 1,9 مليار دولار…

تُشكّل البطالة والفقر وارتفاع الأسعار أهم مشاغل أغلبية المواطنين، فقد قاربت نسبة التضخم الرّسمية المُعْلَنة 10% واختفت بعض السّلع الغذائية الأساسية من السّوق كالحليب والسّكّر والطّحين (الدّقيق) والأرز، وقد يتفاقم الوضع إثْرَ التطبيق الصّارم لشُرُوط الدّائنين، وفي مقدّمتهم صندوق النقد الدّولي الذي فَرَضَ “توسيع القاعدة الضريبية” أي تحصيل المزيد من الضّرائب المباشرة ( منها فرض ضرائب على القطاع الموازي) والضرائب غير المباشرة على الخدمات واستهلاك السِّلَع، بدَل زيادة ضريبة الممتلكات والعقارات وأرباح المصارف والشّركات وأصحاب المِهَن المُسمّاة “حُرّة”.

يقدر مكتب العمل الدولي أن القطاع غير الرسمي يستوعب أكثر من نصف العمال التونسيين، ويُمثّلُ نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وأظْهَرتْ تجربة الدول الأفريقية أن فرض الضريبة على هذا القطاع غير فعال، ولا يولد سوى عائدات ضريبية قليلة للدولة، ومن الأفضل فرض ضرائب على الميراث والممتلكات المادية، وإلزام الشركات والمحامين والمحاسبين وأطباء الأسنان والتجار أو الشركات الخاصة الأخرى بتسجيل جميع إيراداتها وموظفيها لدى الضمان الاجتماعي.

يُعَدُّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مؤشرًا على توجه البرنامج الاقتصادي في عهد قيس سعيدن إذْ يتماشى مضمون الاتفاقية مع الاتفاقات السابقة التي أبرمها صندوق النقد الدولي مع حكومات تونس والبلدان المُماثلة، والتي تتضمّن تخفيض حجم رواتب القطاع العام (أي خفض عدد الموظفين) وخفض أو إلغاء الدعم للسلع والخدمات الضرورية والأساسية وتخفيض الضرائب والرُّسوم الجمركية وغيرها من “الهدايا” “المُسمّاة “حوافز” للشركات والأثرياء… باختصار، لا تعني “الإصلاحات “التي يفرضها صندوق النقد الدولي للمواطن سوى زيادة في تكلفة المعيشة وخفض الإنفاق الحكومي في مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة وخصخصة القطاع العام جزئيًا أو كليًا…

أعلنت وزارة الاقتصاد التونسية، ارتفاع ميزانية البلاد بنسبة %14,5 سنة 2023 لتصل إلى 69,6 مليار دينار (22,3 مليار دولار )، وتستوجب تغطية العجز قُرُوضًا خارجية بقيمة 4,53 مليار دولارًا، ويُتَوَقَّعُ أن تسجل خدمة الدين العمومي زيادة بنسبة 44,4% مقارنة بالعام 2022 باعتبار ارتفاع نفقات تسديد أصل وفائدة الدين، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2022…

إن إلقاء نظرة سريعة على ميزانية العام 2023 (التي لم تنشُرها وزارة المالية، إلى غاية الأسبوع الأخير من سنة 2022) تُؤَكّد ما ينتظر المواطنين من تدهور الدّخل، مقارنة بارتفاع الأسعار، وإن العام 2023 سيكون أكثر صعوبة، وفق وثائق الحكومة التونسية التي أقَرّت أن نسبة النمو لن تتجاوز 1,6% سنة 2023، وأن الوضع لن يختلف عن العام 2022، بل قد يكون أَسْوَأَ، بعد رفْع قيمة الضريبة غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك أو “القيمة المضافة”) ورفع الدّعم عن المواد الأساسية، وارتفاع أسعار المحروقات التي زادت خمس مرات، بين شَهْرَيْ شباط/فبراير وتشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما ورد في وثيقة مشروع الميزان الاقتصادي: “إن سنة 2023 هي السنة الأولى لتطبيق الإصلاحات الإقتصادية للمخطط التنموي 2023/2025…” الذي يتوقع ارتفاع المخاطر والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وتباطؤ النشاط في قطاعات الفلاحة والصناعات الموجهة للتصدير، وتراجع إنتاج قطاع المحروقات، كما أكدت وثيقة المشروع على حاجة الحكومة لمبلغ لا يقل عن 1,675 مليار دولارا من أجل “تحسين مناخ الأعمال والمبادرة الفردية بما يسمح بتوفير بيئة استثمارية جاذبة وملائمة لاستقطاب الاستثمارات الوطنية والأجنبية”، أي مزيدًا من “الهدايا” المَجانية لرأس المال المحلِّي والأجنبي، من خفض الضّرائب والرسوم الجمركية والمِنَح في شكل عقارات مجانية وتهيئة عمرانية وبُنْيَة تحتية تُنفذها الدّولة من ضرائب المواطنين، لتستفيد منها الشركات المحلّيّة والأجنبية، بينما تتواصل معاناة المواطن من ارتفاع الأسعار، منها أسعار الكهرباء وماء الشُّرْب، ومن شحّ الوظائف…

بعض من تاريخ الإخوان المسلمين بتونس

نشأت جماعة الإخوان المسلمين بتونس في بداية ستينيات القرن العشرين كامتداد للشق الأُصُولي المُحافظ من جمعية الطّالب الزيتوني، وسمح لها الرئيس “العلماني المُتسلّط” الحبيب بورقيبة وحزبه (الدّستوري) الحاكم والأوحد بالسيطرة على “جمعية المحافظة على القرآن الكريم” وكانت محلتهم “الهداية” ثم “المعرفة” الناطقة باسم حركة الإتجاه الإسلامي (راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وإحميدة النّيفر وغيرهم) تُطْبَعُ بمطبعة صحافة الحزب الدّستوري وتُوَزَّعُ وتُباع علنًا في أكشاك بيع الصُّحُف، ثم عقدوا صفقة مع قيادة الحزب الدّستوري الحاكم لمحاربة اليسار واستفزازه وإثارة معارك دامية ومُفاجئة معه، خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، وفق شهادة عبد الفتاح مورو بمحكمة تونس، ثم سمح لهم رئيس الوزراء محمد مزالي بإنشاء الإتحاد العام التونسي للطلبة، بينما كان الإتحاد العام لطلبة تونس الذي قاوم الإستعمار (تأسس سنة 1953) ممنوعًا من النشاط منذ آب/أغسطس 1971، ويمكن التأكيد أن التيار السياسي والعقائدي لراشد الغنوشي وصحبه قد نما في ظل الحكم الدّكتاتوري للحبيب بورقيبة وحزبه، بينما كان شباب اليسار يُحاكم بالمئات منذ سنة 1967، وبأحكام وصلت إلى عشرين سنة سجنًا مُشدّدًا (أشغالاً شاقة)، بسبب مظاهرة أو منشور أو صحيفة، وكان مُؤَسِّسُو حركة الإتجاه الإسلامي (النّهضة لاحقًا) يخطبون في المساجد ومؤسسات التعليم ووسائل النقل ويشرفون على منظمات مثل الكشافة وعلى نوادي رياضية وثقافية، ولما اخترقوا قوات الأمن الدّاخلي ( الشرطة والدّرك والمخابرات ) والجيش والجمارك وبعض المؤسسات الحسّاسة للدولة انطلقت عملية قمع واسع النّطاق ضدّهم، خصوصًا وأنهم أدّوا دَوْرَهُم ويمكن الإستغناء عنهم، غير أن حركة النّهضة أصبحت مُتأصّلة في شرائح عديدة من المجتمع بفعل المساجد التي يمكنهم عقد لقاءات بها خمس مرات في اليوم الواحد في حوالي 22 ألف مسجد بالبلاد، رغم مراقبة الشرطة، وبفعل تعاطف المواطنين مع “هؤلاء المُتَدَيِّنِين الذين تضطهدهم السّلطة”، وبذلك تمكنت النهضة من إخفاء طابعها السياسي ليطفو الجانب الدّعَوِي، وليُغطّي على العنف الدّموي لعناصرها خلال العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين، ولم يكن غريبًا فوز الإخوان المسلمين بانتخابات ما بعد الإنتفاضة، فهم الأكثر تنظيمًا وانضباطًا، وحازوا على تعاطف كبير كطرف مظلوم ومقموع، ساعدهم في ذلك المال والإعلام الخليجي (الجزيرة مثلاً) واسع الإنتشار، فضلا عن الدّعم السياسي الأوروبي والأمريكي، ما دام الإخوان المسلمون يدعون إلى “الإقتصاد الحُرّ” و “المُبادرة الفردية”، خلافًا للتيارات الإشتراكية والتقدّمية (الضعيفة والتي تفتقر إلى برنامج متكامل) التي تدعو إلى التأميم وتغليب القطاع العام على القطاع الخاص…

لقد احتضنت الدّول الأوروبية وبالأخص ألمانيا وبريطانيا حركات الدّين السياسي وزعماء الإخوان المسلمين الفارين بجلهم من البلدان العربية، وأصبح جميع الزعماء أثرياء، بينما بقي محمد بن جنات ( 1940 – 2012) السجين السياسي السابق، في المنفى (باريس) سنوات عديدة فقيرًا معدمًا، وبعد عودته في بداية ثمانينيات القرن العشرين، كان يعتاش من سياقة سيارة أجرة بين الوطن القبلي وتونس، وكان محمد بن جنات قد قاد مظاهرة خلال عدوان 1967، واعتصامًا أمام سفارة بريطانيا بتونس، ونال عشرين سنة سجنا، وخرج من السجن سنة 1970 بشروط…

أصبح قادة الإخوان المسلمين أثرياء – بقُدْرَةِ قادِرٍ خليجي وإمبريالي أوروبي – في بلدان اللُّجُوء، يمتلكون عمارات بباريس ولندن وميونيخ وقنوات بث تلفزيوني وشركات ومدارس خاصّة وما إلى ذلك، ووَظّفوا طاقات اليسار لصالحهم ليس في تونس لوحدها (تحالف 18 اكتوبر 2005 ) بل في مصر وسوريا أيضًا، خلال نفس السنة، ضمن مخطط أمريكي لإعادة تدوير الإخوان المسلمين كبديل ممكن ومضمون للأنظمة الحاكمة والفاسدة التي قد يثور ضدها الشعب، ولما عادوا إلى تونس وأصبحوا يحكمون البلاد أغرقوا البلاد بالدّماء وبالدّيون وأقرّوا لأنفسهم جُزْءًا من هذه الدُّيُون بعنوان “تعويضات” مالية التهمت ما يُعادل ثُلُثَ ميزانية الدّولة، وتوظيف لمناضليهم ولأقاربهم في القطاع العام وأجهزة الدّولة – دون احترام الشروط القانونية – وشنوا حملات قمعية ضد النقابيين وضد جَرْحى الإنتفاضة وضد المُعطّلين عن العمل، أي كانت ممارستهم للسلطة أكثَرَ فظاعة من سلطة حزب الدّستور، لكن هل تُبَرِّرُ فظاعة الإخوان المُسْلِمِين ما يحصل حاليا من قمع للحريات، طالت أجهزة الإعلام والقضاء والعمل النقابي والمدني؟ هل انعدمت وسائل الجدل والعمل السياسي والعقائدي والثقافي والمَيْداني، وما بقي سوى القَمْع لإسكات المنافسين والخُصُوم والأعداء؟ إن الجدل السياسي والعقائدي – شرطَ تكافؤ الفُرص في وسائل الإعلام والفضاء الثقافي والسياسي – كفيل بفضح الإخوان المسلمين والدّساترة وحواشيهم، كما أن مهاجمة الإخوان المسلمين وتطبيق برامج لا تختلف عن برامجهم تُخْفِي وراءها خلافات غير مَبْدَئِيّة…      

عَيِّنات من حال البلاد سنة 2023

لا يمكن الحديث عن الإستقلال والحرية والأمن دون إرساء العدالة الاجتماعية، وسيادة المنتجين وأغلبية المواطنين على مواقع وأدوات إنتاج الموارد والثروات، وتوفير مقومات العيش الكريم لكل المواطنين، ولا يحصل ذلك بين عشية وضُحاها، غير أننا لا نرى بوادر التّحَرُّر الإقتصادي ، بل نرى ارتهانًا للدّائنين (أي الإمبريالية وأدواتها) وتقشف وخصخصة وزيادة أسعار، بحسب ما ورد في قانون المالية (الميزانية) لسنة 2023، ورُضُوخ الحكومة لطلبات صندوق النقد الدولي رغم التصريحات النّافية لذلك، فقد احتدّت الأزمة سنة 2022 لحد فقدان السلع الأساسية من الأسواق مثل الأرز والطحين والزيت والحليب والسكر والقهوة والبنزين والأدوية الأساسية الضرورية للأمراض المزمنة كالسُّكَّرِي وأمراض الشرايين والقلب وضغط الدم والرّبو وأمراض الكلى بسبب انخفاض احتياطي العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي التونسي، كما ارتفعت الأسعار بشكل لا يُناسب دخل أغلبية المواطنين، وقبل عدّة أَشْهُرٍ من حلول شهر رمضان 2023، زادت الطوابير امتدادًا أمام المخابز والمحلات التجارية ومحطات البنزين والصيدليات، وأصبح المواطن مهدّدًا بالفقر والجوع والعطش والمرض، وما هذه سوى عَيّنات من مؤشرات الأزمة، بقسْمَيْها الظّرفي الطّارئ والهيكلي المُزْمِن، فالأزمة ليست جديدة بل نشأت مع دولة حزب الدّستور وأدّت إلى انفجار انتفاضة 2010/2011، واحتدّت بعدها حيث انخفض الإنتاج وانهار قطاع الخدمات، واستحوذ الإخوان المسلمون على السلطة بانتخابات ديمقراطية لأنهم كانوا القوة المُنظّمة والمُستعدّة للحُكْم، في ظل سذاجة اليسار (وهي عبارة فضفاضة تجمع التيارات الإشتراكية والقومية العربية) الذي لم يكن له لا تنظيم صلب ولا برنامج ولا رُؤْية، ولا استعداد لِحُكْمِ البلاد، وفي ظل انهيار الحزب الدّستوري الذي ضاق المواطنون ذَرْعًا بسلطته التي استمرت من 1956 إلى 2010، وها هو يعود من جديد بفضل سياسات عشرية الإخوان المجرمين، المدعومين من تركيا وقَطَر والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة…

أما الأسباب الهيكلية التي أدّت إلى الإنهيار الإقتصادي فهي عدم الإستثمار في القطاعات المنتجة كالفلاحة (لتحقيق الإستقلال الغذائي) والصناعة لتحويل الإنتاج المحلي من المواد الخام إلى مواد مُصَنّعة ذات قيمة زائدة مُرتفعة، وعدم الإستثمار في البحث العلمي، وبقي استقلال البلاد شَكْلِيًّا حيث بقي الإقتصاد تابعًا، مع زيادة حجم الدّيُون الخارجية المُرْفَقَة بشروط تُلغي السيادة الوطنية، التي ارتفعت خلال فترة حُكم الإئتلافات التي يقودها الإخوان المسلمون من 44% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010 إلى 90% سنة 2021، فضلا عن توظيف حوالي 75 ألف من أنصارهم وأفراد عائلاتهم في القطاع العمومي، رغم عدم توفّر الشروط القانونية كعامل السّن الأقصى والمؤهلات العلمية أو الخبرة مع ضرورة النجاح في المناظرات الوطنية…

سجّل اقتصاد تونس نموًّا بنسبة 4,3 سنة 2021 و 2,4 سنة 2022، وفق البيانات الرّسمية، فيما يواجه المواطنون ضغوطات اقتصادية متزايدة قبيل شهر رمضان، تتمثل في الزيادات المستمرة لأسعار السلع الأساسية، ما رَفَعَ معدل التضخم السنوي إلى 10,2% خلال شهر كانون الثاني/ يناير وإلى 10,4% خلال شهر شباط/فبراير 2023، وهو أعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي أظْهَرت ارتفاع أسعار المواد الغذائية (الخضروات والفواكه والزيوت النباتية واللحوم والبيض…)، بشكل لا يتناسب مع متوسّط الدّخل، ناهيك عن الدّخل المُتَدَنِّي أو المُنعدم، مع زيادة أسعار مجمل السلع والخدمات التي يحتاجها الإنسان يوميًّا، ويتوقع أن يَزداد الوضع سوءًا لأن الحكومة أعلنت رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية قريبًا، بالتوازي مع تراجع مستوى الإنتاج الغذائي ومجمل السلع، نظرًا لارتفاع أسعار المواد الأساسية وتراجع قيمة العملة الوطنية، وضُعف حجم الحتياطي العملات الأجنبية الضّرورية للتوريد ولتسديد حِصص الدّيُون…

قبل أسبوع واحد من بداية شهر رمضان، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 16% مقارنة بالعام السابق، وكانت الزيادة قياسية في أسعار السلع الغذائية، إذ ارتفعت أسعار البيض بنسبة 32% واللحوم بنسبة 29,9% والدواجن بنسبة 25,3% والزيوت بنسبة 24,6%، فضلا عن فقدان أو ندرة بعض المواد الأساسية، حيث يتذمّر المواطنون من نقص أو غياب الحليب واللحوم الحمراء والبيض والدجاج والفواكه وغيرها من المواد الأخرى، وكانت الحكومة قد منحت شركات القطاع الخاص امتيازات ضريبية لاستيراد بعض المواد الغذائية…

تُشير كافة التوقعات إلى استمرار ارتفاع التضخم بسبب رفع الدعم بعد شهر رمضان، وفق الجدول الزمني الذي التزمت به الحكومة مع صندوق النقد الدّولي للوصول إلى “الأسعار الحقيقية” بحلول سنة 2025، وِفْقَ ما أشار له التقرير الذي صدَرَ عن وزارة المالية بعنوان: “إطار متوسط الميزانية 2023/2025” من مزيد ارتفاع الأسعار والتضخم الذي يُتوقّع أن يتجاوز 12% بنهاية 2023، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 20% بنهاية العام 2023…

صُورة من الواقع: ميزانية الدّولة لسنة 2023

تضمّنَ مرسوم ميزانية الدّولة لسنة 2023 التّأكيد على زيادة الضريبة على دَخل الأُجراء (التي تجبيها الدّولة مُباشرة من الرواتب) وزيادة الضريبة غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك أو ضريبة القيمة المُضافة) التي لا تُفرّق بين الثّري والفقير، ما يجعلها غير عادلة، فيما ركّزت وسائل الإعلام على أصحاب تَذَمُّر أصحاب المهن “الحُرّة” ( تُجّار الصّحّة كأطباء القطاع الخاص وتجار الكلام كالمُحامين وتُجّار الأرقام كالمُحاسبين…) المُستفيدين من “النّظام التّقديري”، أي الإعتماد على “حسن النّيّة” في تصريحاتهم الجبائية التي تعتبرها جمعية الاقتصاديين التونسيين (دراسة صدرت سنة 2015) غير واقعية، ولا تعكس مستوى عيشهم وإنفاقهم وممتلكاتهم من عربات وعقارات، فهم يُصرّحون بإيرادات تقل قسمتها عن خط الفقر المُدْقَع، ما يجعل من سياسات حكومة قَيْس سعَيِّد امتدادًا للسياسات الإقتصادية والإجتماعية للحكومات السابقة طيلة أكثر من أربعة عُقُود، والتي تميّزت بتخريب القطاع العام وخفض قيمة العُمْلَة (الدّينار)، ما يُؤَدِّي إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأُجُور، وتخريب قطاعات الإنتاج، وبالأخص قطاع الفلاحة الذي أصبح ينتج لتلبية احتياجات أسواق أوروبا، ما يُؤَدِّي إلى استيراد السلع الغذائية التي يمكن إنتاجها مَحَلِّيًّا، كما تميزت ميزانية 2023 بالزيادات الكبيرة في ميزانية وزارة الدّاخلية ووظائف الأمن (أمْنُ مَنْ؟)، وهي ميزانية مرتفعة مقارنة بوزارات الصحة والفلاحة والشؤون الإجتماعية، وتميزت بخفض قيمة دَعْم السلع والخدمات الأساسية، في إطار سياسة “التّقَشُّف” التي اشترطها الدّائنون، لتتمكّن الدّولة من تسديد الدُّيُون، إذ ارتفعت حصة تسديد الدّيون وفوائدها من نحو 23,6% من إجمالي النفقات الحكومية سنة 2022، إلى نحو 30,2% من إجمالي النفقات الحكومية لسنة 2023، ونحو 45% من إجمالي الموارد، في ظل انخفاض قيمة الدّينار وارتفاع نسبة الفائدة على القُروض الدّاخلية التي تستفيد منها المنظومة المالية (المصارف)…

يمكن تلخيص أهم خصائص ميزانية الدولة التونسية لسنة 2023 في زيادة ميزانية “الأمن”، وخفض دعم الخدمات والسلع الأساسية لتوازِيَ أسعارها في السوق المَحَلِّيّة أسعار أسواق أوروبا وأمريكا الشمالية، ما يُؤَدّي إلى ارتفاع أسعار مشتقات الحبوب (الخبز والطحين والعجين) والزيوت النباتية والسّكّر والقهوة، وسوف لن تستثمر الدّولة في القطاعات الإنتاجية، رغم ما يُرَوِّجُهُ وُزراؤها، مع ارتفاع حجم الدّيون الداخلية والخارجية وفوائدها التي تلتهم جزءًا هامًّا من موارد الدّولة، بدل إنفاقها على غذاء وصحة وتعليم وسكن المواطنين.

تونس، مَحْمِيّة الإتحاد الأوروبي؟

زار وفد من الاتحاد الأوروبي البلاد التي ارتفعت ديونها وقَلّت مواردها المالية والإنتاجية، وتواجه أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادّة، واحتد الخلاف بين فئَتَيْن رجعيّتَيْن، بين الإخوان المسلمين وحلفائهم، والفئات التي دعمت الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/يوليو 2021، فيما تعيش معظم فئات الشعب وضعًا اتّسم بارتفاع أسعار المواد الغذائية وشح المعروض من الطحين والأرز والحليب والزيت والسّكّر والقهوة والبيض، بينما تحاول الحكومة توقيع اتفاق نهائي للحصول على قرض بقيمة 1,9 مليار دولار (كانت تأمل الحصول على أربعة مليارات دولار) من صندوق النقد الدّولي الذي اشترط رفع الأسعار وإلغاء الدّعم وتسريح خمسين ألف موظف عمومي على مدى خمس سنوات، واشترط قُبُول الإتحاد العام التونسي للشغل مثل هذه القرارات، بشكل مسبق… ولذلك بقي الإتفاق مُعلّقا…

نظرًا لتبعية اقتصاد تونس للإتحاد الأوروبي، سمح “جوزيب بوريل” (مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي ) لنفسه بالتصريح، يوم الإثنين 20 آذار/مارس 2023، إثر اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل: “إن الوضع في تونس خطير للغلية… (ما يثير) قلق الإتحاد الأوروبي إزاء تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ويخشى انهيارها”، وأوضع المسؤول الأوروبي خلفية قَلَقِهِ، فهو لا يهتم بما يُعانيه الشعب التونسي من ضائقة مالية، بل يتخوف من تدفّق المُهاجرين، حيث أعلن: “إن انهيار تونس يُنْذِرُ بتدفق المهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي والتسبب في عدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. نريد تجنب هذا الوضع”.

تجدر الإشارة أن ثلاثة ملايين من فقراء بلدان إفريقيا الواقعة تحت الصحراء كانوا يعملون بليبيا قبل تخريبها وتفتيتها من قِبَل حلف شمال الأطلسي، ويحاول هؤلاء، كما كل فُقراء العالم، البحث عن مكان آخر يوفِّرُ لهم عملا ودَخْلا يُعيلون به أُسَرَهُم، وتقع تونس على البحر الأبيض المتوسط، قريبا من جنوب إيطاليا، ويوجد بها باستمرار أكثر من 21 ألف مهاجر إفريقي، وفق الإحصائيات الرسمية، وبسبب الموقع الجغرافي لتونس، يحاول عشرات الآلاف من المهاجرين غير النّظاميين من التونسيين ومن سكان إفريقيا جنوب الصحراء عبور البحر الأبيض المتوسط في محاولة للوصول إلى السواحل الأوروبية التي تبعد نحو 150 كلم فقط عن تونس، وتُشير إحصاءات الإتحاد الأوروبي إلى وُصُول نحو 32 ألف مهاجر إلى السواحل الإيطالية، سنة 2022، قادمين من الضفة الجنوبية للمتوسط وأساسا من ليبيا وتونس، لكن تصريحات “جوزيب بوريل” تجاوزت موضوع الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، وتطرقت إلى موضوع آخر حسّاس، حيث أعلن: “لا يمكن للإتحاد الأوروبي مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي”، واشترط على الرئيس قيس سعيد “توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الشروط كاملة، وإلا فإن الوضع سيكون خطيرا للغاية بالنسبة لتونس”.

أثارت لهجة التصريح، زيادة على مُحتواه، ردّ فعل الحكومة التونسية، حيث عبرت وزارة الخارجية التونسية يوم الثلاثاء 21 آذار/مارس 2023 عن رفضها لتصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي تحدث عن مخاوف من “انهيار” الوضع في تونس واعتبرتها “غير متناسبة”.

سبق أن أثارت تصريحات قيس سعيّد ( شباط/فبراير 2023) عن “التواجد الكبير لمهاجرين غير قانونيين في تونس (ضمن) مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد”، موجة من الانتقادات من قبل منظمات ودول إفريقية وصفتها “بالعنصرية”، كما أثارت حملة الإعتقالات لبعض رموز المعارضة السياسية والإعلام ورجال الأعمال والنّقابيين، وغيرهم تخوفات بشأن العودة إلى الدّولة البوليسية.

يلتقي وفد الاتحاد الأوروبي الذي يزور تونس بالعديد من الوزراء يوم الثلاثاء 21 آذار/مارس 2023، لإجراء “مباحثات حول الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تونس وكيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يواصل تقديم أفضل دعم للشعب التونسي في الوضع الحالي… ستكون الزيارة فرصة لمناقشة التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتونس بشأن الهجرة وتحديد سبل ملموسة لمعالجتها”، وفْقَ بيان صادر عن بعثة الاتحاد في تونس.

إن التصريحات التي تنتقدها وزارة الخارجية تعكس علاقات الشراكة غير المتكافئة وعلاقات التبعية (تبعية النظام التونسي) تجاه الإتحاد الأوروبي. (عن وكالة الصحافة الفرنسية 21 آذار/مارس 2021 )

الواقع يُفَنّد التصريحات الجوفاء

أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير التشغيل، يوم الرابع من كانون الثاني/يناير 2023: “إن تونس بلد منتج ولا تعيش على العطايا والهبات”، بينما تحاول حكومته الحصول على قرض بقيمة 1,9 مليار دولارا (على أربع سنوات) من صندوق النقد الدّولي الذي يشترط “إصلاحات”، ويعرف الجميع مضمون هذه “الإصلاحات” التي أدّت إلى انتفاضة 1983/1984، وانتفاضة 2010/2011… في حين أعلن محافظ المصرف المركزي: “إن الوضع الاقتصادي صعب في كل دول العالم ولكنه أصعب في تونس لأننا لا نمتلك إمكانية الحصول على تمويلات خارجية”.

أما وزير الاقتصاد والتخطيط، فيتمنى تحقيق معدل نمو بنسبة 2,1% ( تتراوح توقعات صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي بين 1,6% و 1,8% ) سنة 2023، وهي نسبة ضعيفة في بلد غير مُصَنّع ويفتقر إلى القطاعات التي تُحقق قيمة زائدة مرتفعة، في ظل تفاقم العجز (العجز الجاري والعجز التجاري) وتراجع نسب الادخار و الاستثمار…

يُعتَبَرُ محافظ المصرف المركزي، الناطق الرسمي باسم المؤسسات المالية الدّولية (مثل صندوق النقد الدّولي)، وحريصًا على تنفيذ تعليماتها، في البلدان التي فَرَض فيها الدّائنون ما سُمِّيت “استقلالية” المصرف، وأعلن محافظ المصرف المركزي التونسي خطوةً جديدةً في طريق “تحرير” الدّينار (أي خفض قيمته مقابل العملات الأجنبية)، ما يرفع قيمة الدّيون الخارجية وفوائدها ويزيد من الإنفاق على الواردات، وتتضمن الإجراءات الجديدة تهريب الأموال إلى الخارج، من خلال السماح للتونسيين – من الأثرياء وأرباب العمل والتّجّار والسماسرة…- “فتح أرصدة بالعملة الأجنبية”، في إطار “تحسين مناخ الأعمال” الذي يرِدُ في كافة تقارير وشروط صندوق النّقد والبنك العالمي.

تضمّنت إجراءات المصرف المركزي (بتاريخ 30/12/2022) الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية ( لتصل إلى 8%) للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر، ما يؤدّي إلى زيادة الأسعار والتّضخم وأقساط القُروض الاستهلاكية، في واقع يتميز بخفض قيمة الدّعم (تطبيقًا لشروط الدّائنين) وبارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية وبشح أو غياب بعضها من السوق، كالزيت والسكر والقهوة…

سجّل اقتصاد تونس نموًّا بنسبة 4,3 سنة 2021 و 2,4 سنة 210221، وفق البيانات الرّسمية، فيما يواجه المواطنون ضغوطات اقتصادية متزايدة قبيل شهر رمضان، تتمثل في الزيادات المستمرة لأسعار السلع الأساسية، ما رَفَعَ معدل التضخم السنوي إلى 10,2% خلال شهر كانون الثاني/ يناير وإلى 10,4% خلال شهر شباط/فبراير 2023، وهو أعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي أظْهَرت ارتفاع أسعار المواد الغذائية (الخضروات والفواكه والزيوت النباتية واللحوم والبيض…)، بشكل لا يتناسب مع متوسّط الدّخل، ناهيك عن الدّخل المُتَدَنِّي أو المُنعدم، مع زيادة أسعار مجمل السلع والخدمات التي يحتاجها الإنسان يوميًّا، ويتوقع أن يَزداد الوضع سوءًا لأن الحكومة أعلنت رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية قريبًا، بالتوازي مع تراجع مستوى الإنتاج الغذائي ومجمل السلع، نظرًا لارتفاع أسعار المواد الأساسية وتراجع قيمة العملة الوطنية، وضُعف حجم الإحتياطي العملات الأجنبية الضّرورية للتوريد ولتسديد حِصص الدّيُون…

قبل أسبوع واحد من بداية شهر رمضان، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 16% مقارنة بالعام السابق، وكانت الزيادة قياسية في أسعار السلع الغذائية، إذ ارتفعت أسعار البيض بنسبة 32% واللحوم بنسبة 29,9% والدواجن بنسبة 25,3% والزيوت بنسبة 24,6%، فضلا عن فقدان أو ندرة بعض المواد الأساسية، حيث يتذمّر المواطنون من نقص أو غياب الحليب واللحوم الحمراء والبيض والدجاج والفواكه وغيرها من المواد الأخرى، وكانت الحكومة قد منحت شركات القطاع الخاص امتيازات ضريبية لاستيراد بعض المواد الغذائية…

تُشير كافة التوقعات إلى استمرار ارتفاع التضخم بسبب رفع الدعم بعد شهر رمضان، وفق الجدول الزمني الذي التزمت به الحكومة مع صندوق النقد الدّولي للوصول إلى “الأسعار الحقيقية” بحلول سنة 2025، وِفْقَ ما أشار له التقرير الذي صدَرَ عن وزارة المالية بعنوان: “إطار متوسط الميزانية 2023/2025” من مزيد ارتفاع الأسعار والتضخم الذي يُتوقّع أن يتجاوز 12% بنهاية 2023، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 20% بنهاية العام 2023…

حقوق مُهملة: حق المواطن في التغذية الصحية

تعود فكرة إنشاء صندوق التّعويض (وليس الدّعم) إلى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث جندت الدّول المتحاربة شباب بلدانها وشباب مُستعمَراتها من الفلاحين، وسببت الحرب والقصف نقص الإنتاج وشح السّلع، وعملت الحكومات الأوروبية على تقنين توزيع السّلع الأساسية المُتَوفّرة طيلة فترة الحرب، وبعدها ببضعة سنوات. أما في البلدان حديثة الإستقلال فقد كان الهدف توفير غذاء متوازن وصحّي بأسعار تُناسب دَخْل الفُقراء، ودعم البذور والإنتاج، خلال الأزمات، لكي يستمر الفلاحون في إنتاج الغذاء.

أنشأت حكومة الهادي نويرة سنة 1970 صندوق التعويض، بالتوازي مع إقرار سياسات ليبرالية تستهدف اجتذاب الإستثمارات الأجنبية وتصدير الإنتاج المحلي، فيما سُمِّيَ “انفتاحًا” تميّز بزيادة الإستثمار الأجنبي في السياحة وفي قطاعات الصناعات التحويلية كالنسيج وتركيب الميكانيك والإلكترونيك لإنتاج سلع مُعدّة حَصرًا للتّصدير، بدعم من البنك العالمي، منذ سبعينيات القرن العشرين (للإستثمار في البنية التحتية) وصندوق النقد الدّولي، منذ عقد ثمانيات القرن العشرين، مع الشّروط المُجحفة التي تُرافق هاتين المُؤسّستَيْن المالِيّتَيْن المُنْبَثِقَتَيْن عن مؤتمر “بريتن وودز” (1944)، وخصوصًا خلال الأزمة المالية وأزمة الدّيون التي عانت من نتائجها معظم شُعُوب بلدان “الجنوب”، وكانت “انتفاضة الخبز” بتونس، خلال الأيام الأخيرة من سنة 1983 والأيام الأولى من سنة 1984، إحدى مظاهر غضب المواطنين ضد سياسة “حقيقة الأسعار”، أي إلغاء تعويض الفلاحين والمستهلكين، وتحويل صندوق التعويض إلى صندوق “دَعْم الأسعار” بشكل مُؤَقّت، قبل إلغاء الدّعم (الذي كان مُقَرّرًا منتصف العقد الأخير من القرن العشرين) وإلغاء سياسة تحديد الأسعار، إلى جانب خفض قيمة العُمْلَة المحلّية، كواحد من شروط الدّائنين، ومن شروط اتفاقيات الشراكة مع أوروبا، وتوجيه الإستثمارات نحو إنتاج السّلع القابلة للتّصدير بأسعار منخفضة، بدل إنتاج السلع التي يحتاجها المواطنون، وأدّت هذه السياسات إلى تخصيص مساحات من الأراضي الخصبة للزراعات الكبرى التي يُصدّر إنتاجها إلى الخارج، مقابل تقلص الإستثمارات وحجم الأراضي المُعَدّة لإنتاج الحبوب وعلف الحيوانات وللرّعي وتربية المواشي، لتصبح البلاد من مُستَوْرِدِي مشتقات الحبوب ومشتقات الألبان واللحوم المُجَمّدة، والعديد من الإنتاج الغذائي “الصناعي” غير المُتوازن وغير الصّحّي، وهي سلع مرتفعة الثمن ومُستورَدَة بالعملات الأجنبية، وتدعمها حكومات أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا وغيرها من الدّول الرأسمالية المتقدّمة، وهي نفس الأطراف التي تَفْرِض إلغاء الدّعم، وخاصة دعم قطاع الفلاحة في بلدان “الجنوب” ( الحبوب وعلف الحيوانات والمنتجات الغذائية…)، في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بهدف تقويض أُسُس السيادة الغذائية، وبهدف ربْط هذه البلدان (الأسواق) بالسوق العالمية، وتَحويل الغذاء إلى سلعة، وإلغاء تدخّل الدّولة لتحديد الأسعار وللمحافظة على التوازن بين مستوى الدّخل ومستوى الأسعار، وتمز العقدان الأخيران للقرن العشرين بفَرْض نمط عيش يُعَمِّق التّبعية (نقيض الإستقلالية والسيادة)، عبر برامج “الإصلاح الهيكلي”، وأدّى تطبيق “قوانين السوق” إلى عجز صغار الفلاحين عن ممارسة نشاطهم الفلاحي وعن إعالة أُسَرِهِم، ما دفع العديد منهم إلى النّزوح والهجرة وتعزيز صفوف العَمالة الهَشّة والمُفَقَّرَة…

أزمات متتالية منذ أربعة عقود

ذكرنا آنفًا بعض أسباب انتفاضة 1983/1984، وأهمُّها زيادة أسعار المواد الغذائية، تطبيقًا لشروط الدّائنين، ولم يكن تراجع الحكومة سوى إجراءً ظَرْفِيًّا لتفادي الغضب الشّعبي، وبعد إقصاء محمد مزالي، عادت حكومة رشيد صفر للحديث عن ضرورة تطبيق “برنامج الإصلاح الهيكلي” للخروج من الأزمة الخانقة، وتتالت الأزمات وارتفعت معها قيمة الدُّيُون الخارجية ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، وما يُرافقها من تفريط في ممتلكات البلاد وفي ثرواتها وما ينجر عنها من بطالة وفقر الخ، ولا يزال صندوق النقد الدّولي يدّعي (ومعه أرباب العمل وأعضاء الحكومة وخبراؤها وزبانيتها) أن عدد الموظفين مرتفع وحصة رواتبهم “من أعلى المعدلات في العالم”، مقارنة بحجم الناتج المحلِّي الإجمالي، ويشترط تطبيق “حقيقة الأسعار”، أي إلغاء الدّعم، فهو “حلال” في الدّول الرأسمالية الإمبريالية و”حرام” في دول الجنوب الفقيرة، مثل تونس، وهو نفس الخطاب، منذ عُقود، وفي كل البلدان، أي إن وَصْفَةَ صندوق النقد والبنك العالمي “صالحة لكل زمان ومكان”، وتتضمن (بين 1983 و 2022) نفس الشروط، من بينها خصخصة مؤسسات القطاع العام وبيع أُصُول الدّولة (وهي ممتلكات الشعب) وتسريح الموظفين وخفض قيمة العملة المحلية وتوجيه الإنتاج نحو التصدير وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية، وغيرها من الإجراءات التي تَضُرُّ بمعيشة وصحة وحياة الأُجراء وصغار الفلاحين والفُقراء، مقابل ارتفاع ثروة فئة قليلة من الأثرياء ووُكلاء رأس المال الأجنبي الذين يستفيدون من “تحسين مناخ الأعمال” و “مُرونة التّشغيل” وخفض الضريبة على الثروة (مقابل زيادة ضريبة القيمة المُضافة)، ومن تعزيز “الشراكة بين القطاعَيْن العمومي والخاص” الخ.

أدّى تطبيق هذه الشّروط إلى انتشار الفقر والأمية والبطالة، وإلى أزمات عديدة في بلدان أمريكا الجنوبية (الأرجنتين خصوصًا، في بداية القرن الواحد والعشرين) وفي آسيا، وآخرها سريلانكا التي أعلنت التّوقّف عن السّداد، وفي العديد من البلدان الإفريقية، وم

تُشكّل البطالة والفقر وارتفاع الأسعار أهم مشاغل أغلبية المواطنين، فقد قاربت نسبة التضخم الرّسمية المُعْلَنة 10% واختفت بعض السّلع الغذائية الأساسية من السّوق كالحليب والسّكّر والطّحين (الدّقيق) والأرز، وقد يتفاقم الوضع إثْرَ التطبيق الصّارم لشُرُوط الدّائنين، وفي مقدّمتهم صندوق النقد الدّولي الذي فَرَضَ “توسيع القاعدة الضريبية” أي تحصيل المزيد من الضّرائب المباشرة ( منها فرض ضرائب على القطاع الموازي) والضرائب غير المباشرة على الخدمات واستهلاك السِّلَع، بدَل زيادة ضريبة الممتلكات والعقارات وأرباح المصارف والشّركات وأصحاب المِهَن المُسمّاة “حُرّة”، وأعلنت وزارة الاقتصاد التونسية، إن ميزانية البلاد سترتفع %14,5 سنة 2023 إلى 69,6 مليار دينار (22,3 مليار دولار )، وتستوجب تغطية العجز قُرُوضًا خارجية بقيمة 4,53 مليار دولارًا، ويُتَوَقَّعُ أن تسجل خدمة الدين العمومي زيادة بنسبة 44,4% مقارنة بالعام 2022 باعتبار ارتفاع نفقات تسديد أصل وفائدة الدين، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2022…

إن إلقاء نظرة سريعة على ميزانية العام 2023 تُؤَكّد ما ينتظر المواطنين من تدهور الدّخل، مقارنة بارتفاع الأسعار، وإن العام 2023 سيكون أكثر صعوبة، وفق وثائق الحكومة التونسية التي أقَرّت أن نسبة النمو لن تتجاوز 1,6% سنة 2023، وأن الوضع لن يختلف عن العام الحالي (2022) بل قد يكون أَسْوَأَ، بعد رفْع قيمة الضريبة غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك أو “القيمة المضافة”) ورفع الدّعم عن المواد الأساسية، وارتفاع أسعار المحروقات التي زادت خمس مرات، بين شَهْرَيْ شباط/فبراير وتشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما ورد في وثيقة مشروع الميزان الاقتصادي: “إن سنة 2023 هي السنة الأولى لتطبيق الإصلاحات الإقتصادية للمخطط التنموي 2023/2025…” الذي يتوقع ارتفاع المخاطر والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وتباطؤ النشاط في قطاعات الفلاحة والصناعات الموجهة للتصدير، وتراجع إنتاج قطاع المحروقات، كما أكدت وثيقة المشروع على حاجة الحكومة لمبلغ لا يقل عن 1,675 مليار دولارا من أجل “تحسين مناخ الأعمال والمبادرة الفردية بما يسمح بتوفير بيئة استثمارية جاذبة وملائمة لاستقطاب الاستثمارات الوطنية والأجنبية”، أي مزيدًا من “الهدايا” المَجانية لرأس المال المحلِّي والأجنبي، من خفض الضّرائب والرسوم الجمركية والمِنَح في شكل عقارات مجانية وتهيئة عمرانية وبُنْيَة تحتية تُنفذها الدّولة من ضرائب المواطنين، لتستفيد منها الشركات المحلّيّة والأجنبية، بينما تتواصل معاناة المواطن من ارتفاع الأسعار، منها أسعار الكهرباء وماء الشُّرْب، ومن شحّ الوظائف… 

القسم الثاني

دروس من انتفاضة 2010/2011

لستُ أوّل من يكتب عن هذا الموضوع، فقد نُشِرَ عددٌ من المقالات والدراسات بشأن هذا الوضع، واقترح بعضهم أشكالاً من الحوار، بحثًا عن صيغة للعمل المشترك بين التقدّميين أو مكونات اليسار، فضلا عن بعض التقييمات وإنتاج بعض المجموعات السياسية، وما هذه الفقرات سوى مُساهمة أُخرى تُضاف إلى ما كُتِبَ ونُشِر.

 ابتكر المُشاركون في انتفاضات تونس ومصر والسودان أشكالاَ نضالية وتنظيمية جديدة، وقضايا فئات عديدة مُهَمّشَة، ومواضيع مثل حصة المواطنين من الثروات التي تُستَخْرَجُ من مناطقهم، وإعادة توزيع الثروات، ما يفرض على القوى الإشتراكية إعادة صياغة برامجها المرحلية وخطابها وأشكال النضال (وليس جوهره) ليشمل فئات جديدة هَمّشها نظام الحكم، واستغلّتها منظمات الدّين السياسي والمنظمات “غير الحكومية” المُمَوَّلَة والمُوَجَّهَة من الخارج، وأضاعت قوى اليسار فرصة أخرى لتصدّر نضالات فُقراء الأحياء الشعبية والمناطق الريفية والمُعطّلين عن العمل والمُهَمَّشين…

أدّى تركيز اليسار على العمل النقابي واقتصاره على العمل الإصلاحي العَلَني إلى ارتقاء بعض عناصره في سُلّم البيروقراطية النقابية، وفي درجات السّلّم الطبقي والإجتماعي، ما هَمَّشَ دور اليسار في الصراع الطبقي وابتعاده عن واقع الطبقة العاملة وواقع صغار الفلاحين والفئات الشعبية، ولما انطلقت الإنتفاضة لعب النقابيون التقدّميون والدّيمقراطيون دورًا في توفير محلات فُروع الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) وفي نشر أخبار وصُوَر التحركات، رغم الرّيبة والحذر اللّذَيْن مَيّزا مواقف القيادات البيروقراطية النقابية، وبعض قيادات منظمات اليسار إزاء أي حركة عفْوية تلجأ إلى الإعتصام واحتلال المحلاّت وتعطيل الإنتاج (كالنفط والفوسفات) وقطع الطّرقات ومواجهة قوات الشرطة والجيش بالحجارة وبعض المَقْذُوفات الأُخرى، وكان هذا الحذر في غير مَحلّه، وأدّى إلى تهميش قوى اليسار في لحظة تاريخية أخرى، كما حصل في لحظات تاريخية سابقة، منها الإضراب العام لسنة 1978 و”انتفاضة الخُبز” سنة 1984 والهَبّة الشعبية بالحوض المنجمي سنة 2008، فضلا عن الفُرص العديدة اللاحقة لسنة 2011، وهي تكتيكات خاطئة لم تتم مناقشتها وتقويمها واستخلاص الدّروس منها، على حدّ علمي، ولذلك ليس غريبًا أن ينال مرشحو اليسار عددًا قليلاً من الأصوات في الإنتخابات، فالفُقراء من أكثر الفئات امتناعًا عن المُشاركة في المسرحية الإنتخابية، وإذا لم يدعم أحد نضالاتهم، فلماذا يمنحونه أصواتهم؟  

لم تكن الإنتخابات البرلمانية أو دستور جديد من الأولويات (رغم مَشْرُوعيتها) التي برزت في شعارات المتظاهرين والمُشاركين في انتفاضة 2010/2011، الذين ندّدوا بالنّهب وسرقة موارد البلاد، أي النظام السياسي والاقتصادي الذي أهمَلَ أكثر من أربعة أخْماس السّكّان، ومنهم الشباب المُتعلّم الذي شارك في الإنتفاضة بكثافة، واستهدف المُواطنون الفُقراء منذ سنة 2008، بالحوض المنجمي، مواقع إنتاج ونَقْل وتصدير المواد الأولية (الفوسفات)، وأظْهر سُكّان الأحياء الشّعبية والمناطق الريفية قُدْرَةً على التنظيم الذّاتي، بمشاركة العديد من مناضلي اليسار الذي لم يكونوا مُمَثِّلين لتنظيماتهم وأحزابهم، وإنما كانوا مُشاركين كمواطنين أفراد، في العديد من المناطق المحرومة بغربي البلاد وجنوبها، وبعض الأحياء الشعبية المُحيطة بالعاصمة، وخذلت أحزاب اليسار هذه المحاولات والمُبادرات القاعدية، وخذلت كذلك العديد من مناضليها وأنصارها، بمشاركة معظمها في ما سُمّي “مجلس حماية الثورة”…

أي موقع “لليسار” ؟

ينطلق برنامج البديل التّقدّمي من نضالات الحوض المنجمي والجماهير المُعْتَصِمَة بساحة “القصبة”، والنقابيين وصغار الفلاحين وشباب المناطق المحرومة بسليانة وسيدي بوزيد والكامور وغيرها، وتحويل المطالب ووسائل النّضال إلى برنامج وخطط عمل وإصلاحات اقتصادية عاجلة، بدل اللهث وراء مسار ما سُمِّيَ “الانتقال الديمقراطي”، رغم أهمّيّته. 

ما هي الشروط الدّنيا التي وجب توفيرها للحكم بالإيجاب على أي نظام قائم؟

توفير الضروريات، كالشغل والسّكن والنّقل والرعاية الصّحية والتّعليم، والقضاء على البطالة والفقر…

المُساواة قانونًا وواقعًا وإرساء مناخ حوار وتبادل الرأي والمقترحات

تركيز الإستثمار العمومي في القطاعات المنتجة، وتحقيق الإكتفاء الذّاتي والسيادة الغذائية

أما الإشتراكيون فإن هدفهم القضاء على الإستغلال والإضطهاد، وإرساء نظام يُمَكِّنُ الجميع من المُساهمة في خلق الثروة، من كل بحسب قُدُراته ومُؤهلاته، قبل تقاسم نتائجها، لينال كل فرد ما يحتاجه…

تتراجع شعبية القوى والحركة التّقدمية عندما تُركّز على مسألة الحريات دون ربطها بمسألة العمل ( توفير الوظائف )  وظروف العمل والعيش والسّكن والتعليم والصحة، وبالواقع المادّي وظروف الحياة اليومية لأغلبية المواطنين، ويعود ذلك للتركيبة الطّبقية (البرجوازية الصّغيرة) للحركات التقدّمية والإشتراكية…

تميّزت نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بهيمنة النيوليبرالية التي فَرَضَت الإتفاقيات غير المتكافئة للتبادل التجاري بين الدّول الإمبريالية ( الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بشكل أساسي) ودول “الأطراف” (أو المُحِيط) وشروط الدّائنين، وأهمها برامج “الإصلاح الهيكلي” التي أضَرّت بالعمال والأُجَراء وصغار الفلاحين والحِرَفِيِّين (العاملين لحسابهم الخاص برأسمال صغير وقُرُوض)، والمُعطّلين عن العمل والفُقراء، وتتضمّن برامج الإصلاح الهيكلي خصخصة القطاع العام وجعل القطاعات المنتجة في حالة تبعية للأسواق الخارجي، لا تهتم بتلبية احتياجات المواطنين أو ما يُسمى “السّوق الدّاخلية”، وخفض قيمة العملة المَحلّية، بالتوازي مع زيادة حجم الواردات، ما يُعمّق عجز الميزان التّجاري ويزيد من تَبَعِيّة الإقتصاد المَحلِّي للإقتصاد الرأسمالي العالمي…

لا يكفي نشاط مناضلي “اليسار” (الإتجاهات القومية التقدّمية والإشتراكية) في نقابات الأُجَراء وفي منظمات “المجتمع المدني” ( الحُقُوق والحُرّيات الديمقراطية) وفي المؤسسات الجامعية، لأن هذا النشاط يقتصر على الفئات الوُسطى أو شرائح البرجوازية الصّغيرة، بعيدًا عن الطبقة العاملة وصغار الفلاحين وسكّان الأحياء الشعبية الحَضَرِية وسُكّان الأرياف، وهي الفئات التي أطلقت عدّة انتفاضات لم يُكتب لها النّجاح لأنها هَبّات شعبية تلقائية، تفتقر إلى العمل الجماعي المُنَظّم الذي يستهدف النظام الإقتصادي والإجتماعي بِرُمّته وسُلطته السياسية المتمثلة في الحكومة وأجهزة الدّولة (شرطة وجيش وقَضاء…) ومجلس النواب والإعلام البرجوازي وما إلى ذلك.        

لم تكن المنظمات الإشتراكية قادرة على تحويل الإنتفاضات التّلقائية إلى ثورة، لأنها لا تملك البرنامج ولا المناضلين ولا القُدرة أو الشجاعة على دعم وتطوير أشكال التنظيم الذّاتي التي أنشأها المواطنون في المناطق الشّعبية، أو إطلاق أُطُر مُمثِّلَة لسُكّان الأحياء والأرياف تُعالج مشاغل المُواطنين وتُهمّشُ مؤسسات الدّولة، أي خلق سُلطة طَبَقِيّة شعبية موازية تحوز ثقة المواطنين، وترفع مستوى الوعي السياسي، بفضل التَسْيِير الدّيمقراطي، وتدرس وتُناقش وتُقِرّ الخطوات المُقبلة…

يحتاج المناضلون والمنظمات الإشتراكية والتقدّمية إلى تقييم انتفاضتَيْ تونس ومصر (2010/2011) ومُراجعة الخطط “التّكتيكية” التي تحولت إلى مخططات وتحالفات انتهازية، أفادَتْ أتْباع الحكم السابق والإخوان المسلمين، ودِراسة الخطط المُستقبلية ضمن تطورات وآفاق الصّراع الطّبقي، باستقلالية عن القوى الوَسَطِيّة والإصلاحية واليمينية، والتفكير في بناء جبهات ثقافية أو نقابية أو حُقُوقية، مع المحافظة على الإستقلالية العقائدية والسياسية والتنظيمية للقوى الإشتراكية، لتتمكّن من التّعريف ببرنامجها الخاص والدّفاع عنه وتقويمه وتصحيح الأخطاء الخ.

بقي نظام الحكم في تونس، بعد انتفاضة 2010/2011، تابعًا للإمبريالية ومؤسساتها مثل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، ولم يتنصّل من الإتفاقيات غير العادلة مثل اتفاقيات التبادل (غير المتكافئ) مع دول الإتحاد الأوروبي، وزادت الهيمنة الأمريكية، ما يُمثّل فُرصة للقوى الإشتراكية لتكثيف دعايتها بشأن البديل الشعبي التقدّمي واستعادة الفضاء الذي احتلّه الإخوان المسلمون والدّساترة…          

الإشتراكيون الماركسيون في مواجهة الأحداث

إن الماركسية ليست صفة عالقة في الرأس ولا دينًا ولا عقيدة، إذ لا يحتاج المرء بالضّرورة، لكي يكون ماركسيًا، إلى قراءة جميع مجلدات رأس المال لكارل ماركس، لمعرفة جميع جوانب النظرية الاقتصادية التي طورها ماركس وإنغلز، وإلاّ انحَصَرَ عدد الماركسيين في بضع عشرات أو بضع مئات من سُكان العالم. من ناحية أخرى، طور ماركس وإنغلز طريقة أو منهجية لتحليل الواقع والوضع، سهلة المنال ومُفيدة للجميع، عُرِفَتْ بالمادية التاريخية، الجدلية، كنقيض للمثالية، ويُعد كتاب “لويس بونابرت – الثامن عشر من برومير” مثالًا جيدًا على استخدام هذه المنهجية لتحليل الحَدَث والموقف.

تم تطبيق هذا الأسلوب بصرامة من قبل لينين، بل طوره لفَحْصِ وتحليل الأحداث الظرفية، مع مراعاة تاريخ الصراع الطبقي الذي تتنزل ضمنه تلك الأحداث الظّرفية، وهو ما ينطبق على الأحداث التي تعيشها اليوم شَعوب البلدان العربية: في فلسطين وسوريا وليبيا واليمن، والوطن العربي عمومًا، من الخليج إلى المحيط الأطلسي (كما في أجزاء أخرى من العالم)، فهذه الأحداث ليست منفصلة عن التاريخ والجغرافيا، عن الموقع الإستراتيجي للمنطقة وهيمنة القوى الإستعمارية (ثم الإمبريالية) عليها. إن هذه الأحداث جزء من سلسلة طويلة من الأحداث التاريخية، وهي ليست عملية تسير في طريق مُستقيم، بل تمر بفترات صعود وهبوط، مدّ وجَزر… يُسْعِفُنا الديالكتيك ( الجدلية ) بالمفهوم الماركسي (خلافا للمثالية الهيغلية) على مراعاة جميع التناقضات، الداخلية والخارجية، المتأصلة في جميع الظواهر، من أجل فهم مدى تعقيدها،  وهو ما يساعد على تجنُّبِ نقل التحليلات من من حدث إلى آخر أو من واقع أو من مكان إلى آخر، حتى لو احتجنا إلى معايير ومقارنات لِرَسْمِ أَوْجُهِ التّشَاُبه، لأن كل حدث يقع في مكان وواقع وسياق وزمان مختلفين. لذا فإن وضعنا السياسي يستند إلى الواقع المادي للنظام السياسي، ولتاريخ النضالات، ولتوازن القوى بين الطبقات، ولمكانة البلد المَعْنِي في السياق الجيوسياسي اليوم، إلخ.

يتمثل دور المثقفين والباحثين التقدميين في إنتاج التحليلات والمعرفة العملية التي يمكن أن تساعد المناضلين في تحديد مواقعهم السياسية، وفي فهم سياق الأحداث واحتمالات النجاح والفشل في إنجاز الأهداف… ولدينا باحثون عرب شاركوا في تحديث وإثراء الماركسية وتكييفها مع واقع البلدان الرّازِحَة تحت الهيمنة، من بينهم سمير أمين (بالأمس القريب) أو علي القادري (اليوم) وقاموا بإثراء النظرية الماركسية ضمن ما سُمِّيَ “مدرسة التبعية”، وهي نظرية أنتجها الماركسيون من أمريكا الجنوبية، حول خصوصيات الصراع الطبقي في هذه البلدان الخاضعة للسيطرة الإمبريالية، في ظل النظام الرأسمالي العالمي، وتأخذ هذه النظرية في الاعتبار تاريخ العبودية والاستعمار وإبادة الشعوب الأصلية، إلى حقبة الإستعمار المباشر ثم الإمبريالية، وتُراعي تأثير كل هذه العوامل في بناء مجتمعاتنا.

هناك أوجه تشابه في التطور التاريخي للبشرية، ولكن هناك أيضًا واقع وحقائق أو تطورات تاريخية مختلفة، من مكان إلى آخر، أو من مجتمع إلى آخر، ما يتوجّب على أي تحليل أو موقف (سياسي ، اقتصادي ، إلخ) أخذها في الاعتبار، لأنها تُشكّل جوهرَ المادّية التاريخية التي تُراعي واقع الصراع الطبقي وتوازن القوى وواقع الحركات السياسية والاجتماعية والسياق التاريخي ودروس الحركات السابقة المماثلة…

مرّت حوالي ثلاثة عُقُود بين انتفاضة 1983/1984 ضد إلغاء دعم السّلع والخدمات الأساسية وضد الإرتفاع الكبير للأسعار، وانتفاضة 2010/2011 التي كانت أشْمَلَ باعتبارها استهدفت وضْعًا اقتصاديا واجتماعيا برمّته، واستمرت فترة أطول وأدّت إلى بعض التغيير في هرم السّلطة، وقد تختلف في طبيعة التّغْيِير (هل هو تغيير شكْلِي أو جوهري ) لكن تُشير الأرقام والمُعطيات إلى سوء الوضع الإقتصادي والإجتماعي اليوم، ونختلف في توصيف كيفية الخُرُوج من (أو تجاوز) هذا الوضع لنؤسّس منظومة أو مجتمعًا أو نظامًا سياسيا واقتصاديًّا يُنْصِف الكادحين من عُمّال وموظفين وصغار الفلاحين وكل من يكسب رزقه دون استغلال غيره…

لذا من صالح الإشتراكيين (الشيوعيين بمختلف تياراتهم) الحوار فيما بينهم من أجل تنسيق العمل والأهداف، ومن صالح التقدّميين جميعًا ( التيارات الإشتراكية والقَوْمية ) تأسيس جبهة نضال (وليس جبهة انتخابية وحسب) تقدّمي في مواجهة الصّفّ الرّجعي المُقابل، أي جبهة مُقاومة شعبية ضد الإستغلال والإضطهاد في الدّاخل، وضد الإمبريالية والصهيونية (نُذَكِرُ بقصف الكيان الصهيوني لضاحية حمّام الشاطئ واغتيال مواطنين تونسيين وفلسطينيين بين 1985 و 1991) وأعوانها داخل البلد…   

ضرورة بناء جبهة تقدّمية 

يُمارس قيس سعيد السلطة، منذ 25 تموز/يوليو 2021، بواسطة المراسيم وينفذها بواسطة الجيش والشرطة وبعض الهيئات التي أنْشأها، ورغم استخدامه شعار “الشعب يريد”، فهو يمارس السلطة بواسطة أجهزة الدّولة ومنظومتها وأجهزتهما الإعلامية والإدارية والقضائية (وليس بواسطة هيئات شعبية ومجالس قاعدية كما وَعَدَ) وهي أجهزة نخرها الفساد، منذ فترة حُكم بورقيبة، ولم يتم إصلاحها منذ عُقُود. أما في المجال الإقتصادي، فلا تمثل سلطة 25 تموز/يوليو 2021 قطيعةً مع البرامج الإقتصادية والإجتماعية السابقة، بل مواصلة لها، ولم يتغير نموذج التنمية ولا تزال سياسة التبعية للإمبريالية متواصلة، وكذلك هيمنة المؤسسات المالية الدّولية التي تُمْلي الخيارات الإقتصادية (ومن ورائها البرنامج السياسي) للنظام القائم.

في صف الشعب، لم تهدأ الإحتجاجات ضد ارتفاع الأسعار والنّهب وضد انتهاك الحريات الفردية والجماعية، ومن أجل الشّغل وإعادة توزيع الثروات الخ.

تبرز وسائل الإعلام الدّولية احتجاجات الفصائل الرجعية الأكثر تنظيمًا وثراءً وقوةً، كالإخوان المسلمين (النهضة) والدّساترة، وغاب (أو كاد) الصّوت الإشتراكي والتّقدّمي، رغم مُساهمة مُناضِلِية في كافة المعارك التي عرفتها البلاد منذ عُقُود، فاليسار الإشتراكي مُشتّت، ما أدّى إلى ضُعْفِهِ كتيار فكري، عقائدي وسياسي، وكحركة جماهيرية، واتّسم عمله ومشاركته في الحياة السياسية، خصوصًا خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بالسّلْبِيّة والخضوع للأحداث وبِرَدّ الفِعْل، بَدَل المُبادرة والفعل في الأحداث…

تهدف هذه الفقرات التّحفيز على إطلاق حوار سياسي بخصوص وضع اليسار الإشتراكي ومستقبله، وتهيئة شروط الفِعْل الإيجابي في الحركة العمالية والجماهيرية بالبلاد (وربما بالوطن العربي)، عبر إنشاء هيكل مشترك للتنسيق بين الحركات الإجتماعية ودعمها إعلاميا وسياسيا ومادّيًّا، في مختلف أنحاء البلاد، وعبر إنشاء جبهة تضم كافة القوى التقدمية للإتفاق حول برنامج الحدّ الأدنى من القواسم المشتركة، لخدمة الشرائح التي تُشكّل أغلبية المواطنين…

هناك خلافات واختلافات في تحليل الوضع الحالي (في تونس وخارجها)، واختلافات في رؤية المُستقبل، وبدل طمسها أو معالجتها بوسائل بدائية كالإتهامات والشتائم وإحلال القطيعة بين القيادات (التي لا تتغير سوى نادرًا) وبين المناضلين القاعديين، وجب فتح نقاش واسع بين مختلف التيارات التي تُعلن تبنيها الإشتراكية (والشيوعية مرحلة أرْقى من الإشتراكية)، بأشكال مختلفة والإتفاق على خطة عمل تُؤَدِّي إلى بُرُوز الإشتراكيين ككتلة ذات شعارات وأهداف واضحة، بالتوازي مع مناقشة نقاط الخلاف، ومع بناء جبهة تقدّمية أَوْسَع من الإشتراكيين…

يُمكن مُلاحظة ارتفاع عدد الأفراد “المُسْتَقِلِّين” الذين يدّعون تبَنِّي الإشتراكية، دون انتمائهم إلى أحزاب ومنظمات اشتراكية وشيوعية، وهذه ظاهرة غير صِحِّيّة، لأن إنجاز الإشتراكية أو أي تغيير يتطلّب العمل الجماعي والمُنَظّم (عكس التّلقائي)، فإمّا أن المنظمات والأحزاب الموجودة غير جذّابة وغير قادرة على ضَمّ هؤلاء “المُستَقِلِّين” لأسباب لا يمكن حَصْرُها بعجالة، أو إن هؤلاء “المستقلين” يرفُضُون الإلتزام والتّقيُّد بضوابط التنظيم الحزبي وبالعمل الجماعي، فيناضلون في المجال النقابي أو الثقافي أو الحُقُوقي… وجب التفكير في طريقة إشراك الجميع في الحوار والنقاش، كما يتوجّب طرح التساؤلات بخصوص أسباب تفاقم هذه الظّاهرة واستنباط حلولِ مناسبة للوضع بجميع تَشَعّباته، فقد لاحظنا ارتفاع عدد المُستقلين في الجبهة الشعبية (بتونس وليس بفلسطين) وتفوّقهم عدَديًّا على مناضلي الأحزاب، ما خَلَقَ إشكالات ساهمت في تجميد فُرُوع المناطق البعيدة عن العاصمة والسّواحل، ثم إلى شلّ عمل الجبهة…         

هل يمكن تنسيق عمل اليسار؟

تبدو ضرورة الحوار بين قوى اليسار أمرًا مُلِحًّا للغاية، انطلاقا من القواسم المشتركة، ووجب التذكير إن عبارة “اليسار” كلمة فضفاضة، لكن دَرَجَ استخدامها، مثل عبارة “التّقدّمية”، والمقصود بها التيارات الإشتراكية بتفرعاتها، وبهذا المعنى فإن اليسار هوية فكرية وسياسية، مُقاوِمة للإستعمار والإمبريالية (والصهيونية فَرْعٌ منها) والأنظمة والطبقات التي تخدم مصالح رأس المال والأثرياء، أي إن الإنتماء إلى اليسار يعني انحيازًا لا لُبْسَ فيه لصف الكادحين والفُقراء، مع اختيار اللحظة التاريخية المناسبة للهجوم، أو لمجرّد المحافظة على القوى المتوفرة، وهنا يكمن أحيانًا تبرير التراجعات والحلول الإستسلامية باسم التكتيك والواقعية…

ظَهَرت حُدُود الإنتفاضات العفوية (أو التّلْقائية) التي تفتقر إلى برنامج وأهداف وقيادة تُحافظ على اتِّجاه البَوْصَلَة، فقد أدّى غياب هذه العناصر وضُعْف القوى التّقدّمية (قومية واشتراكية) إلى تقاسم السّلطة بين الإخوان المسلمين ورموز النظام السابق وفئة برجوازية طُفَيْلِية من رجال الأعمال الفاسدين، بإشراف أمريكي وأوروبي، كما أظْهَرت الفئة الماسكة بمقاليد الحُكْم، منذ 25 تموز/يوليو 2021، عدم امتلاكها لبديل تقدّمي، بل مُغاير للمنظومة السابقة، فواصلت نفس السياسات الإقتصادية، ونفس سياسات التّبَعِيّة، مع قَمْع الحُرّيات وإلغاء دَوْر المُؤسّسات، بدَل إصلاحها أو تغييرها.

إن اصطفاف جزء من اليسار وراء السّلطة الحالية، “لأن الرئيس قَيْس سعَيِّد أزاح الإخوان المسلمين” الذين خرّبوا البلاد خلال عشر سنوات، دليل على اختزال الصراع الطبقي (الإقتصادي والسياسي والإجتماعي والثقافي…) في بعض الشعارات ذات المَظْهَر الديمقراطي، وبعد مُرُور حوالي سنة ونصف، وجب تقويم الوضع ومُراجعة أو تعزيز موقف كل منا، وهذا يتطلّب نقاشًا هادئًا، بين القوى التي تُعلن تبنّيها (أو العمل من أجل ) الإشتراكية، لكي لا تبقى مُتَذَيِّلَة، ولكي يكون لها برنامجها الذي تُدافع عنه وتعمل على إنجازه مع الكادحين من الطبقة العاملة وصغار المُزارعين والحِرفيين والأُجراء والمُعطّلين عن العمل والفُقراء، وهي الفئات التي واجهت أجهزة القمع سنة 1978 وانتفاضة 1983/1984، وسنة 2008 بالحَوض المنجمي وبكافة مناطق البلاد، وبالخصوص خلال انتفاضة 2010/2011…

أنشأت جماهير انتفاضة 2010/2011 هيئات ولجان قاعدية، تم عزلها وتخريبها من قبل تحالف واسع ضمَّ بعض قُوى اليسار “الإشتراكي” (مؤتمر نابل في 9 و10 نيسان/ابريل 2011 ) لتأسيس أُطُر وهياكل أخرى، أو الإندماج بها مع قُوى رجعية أحيانًا، مثل “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي” ( 15 آذار/مارس 2011)، أو رفع شعار إنشاء مجلس تأسيسي ودخول غمار الإنتخابات دون عُدّة، في ظل موازين قوى مختلة، يمثل فيها اليسار ريشةً في مهب الريح، ما أَحْبَطَ العديد من المُشاركين في إطلاق الإنتفاضة، وكذلك العديد من مُناضلي منظمات اليسار، وانحصر نشاط قادة اليسار في الحملات الإنتخابية (بدون نتيجة إيجابية تُذْكَر) وفي التصريحات الإعلامية، ولذلك كانت قوى اليسار المنظم (أحزاب ومنظمات) غائبة أو قليلة الحضور، وغير فاعلة في نضالات مُزارعي واحة “جمنة” وفلاّحي “أولاد جاب الله” والعديد من الإحتجاجات الأخرى لفئات شعبية مختلفة…

ما الهدف من العمل النقابي؟

ما ضرورة الوحدة إذا لم تكن من أجل الدفاع عن حقوق الكادحين والفُقراء والمُعَطّلين عن العمل، في مواجهة الأثرياء والمُستَغِلين والمُضْطَهِدِين، ومن أجل إقامة نظام يُحقّق العدالة والمُساواة، واقتصاد قائم على إنتاج ما يحتاجه المواطنون في حياتهم اليومية من سّلع أساسية كالغذاء والدّواء، وتوفير المسكن والنقل والتعليم والصحة والثقافة والتّرفيه، وغيرها من المُقوّمات الأساسية للحياة… جرت محاولات عديدة داخل الإتحاد العام التونسي للشغل، لتقديم قائمة مشتركة لليسار، نجح بعضها بصعوبة وفشل بعضها الآخر، لأسباب ذاتية ولخلافات بين الأطراف المُكونة للإئتلاف، وليس بسبب ضغط القيادات البيروقراطية أو ضغط النظام، لذا وجب تقويم هذه التجارب ( فضلا عن تجربة الجبهة الشعبية ورابطة حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين الخ) واستخلاص الدّروس منها، قبل خوض تجارب جديدة.  

لا يمكن لليسار أن يتطور ويتقدم نحو إنجاز هذه الأهداف، دون الإندماج في صفوف الكادحين والفُقراء الذين يرضون به كتعبير عن مطالبهم وطموحاتهم… 

تُشكّل النقابات (نقابات الأُجراء) إطارًا لتجميع العاملين وتنظيمهم من أجل تحسين الرواتب وظروف العمل، وهي في جوهرها إطار إصلاحي، لكنه إطار مناسب لتوثيق العلاقات بالكادحين والأُجَراء، بفعل الإتصال والعمل اليومي، ومناسب للتوعية ولنشر الفكر التقدمي الإشتراكي، وممارسة التحريض، خصوصًا خلال فترات المَدّ، كالإضرابات والمُظاهرات والحملات الإنتخابية النقابية، وهي جملة من المناسبات التي تُفْرِزُ قادة عُمّالِيِّين مِمّن يُجيدُون الدّعاية أو التّحريض أو التّنظيم، أي العُمال الأكثر تقبّلاً للفكر الإشتراكي الثّوري، وربما يصبحون قادة المُستقبل القادرين على نشر الفكر الإشتراكي بين الكادحين والفُقراء الذين يُشكّلون القوى المنتجة وأغلبيةً عددية في المجتمع.  (يُرجى مراجعة الفقرة بعنوان “دروس من انتفاضة 2010/2011 ” )   

ابتكار وسائل متماشية مع تطورات الوضع

نحن في بلاد “طَرَفِيّة” (لا تنتمي “للمركز” الرأسمالي) تحكمها فئات كُمبرادورية، ترتبط مصالحها بالشركات الإحتكارية الأجنبية والدّول الإمبريالية (الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، بشكل أساسي) وتُيَسِّرُ هذه الفئات الحاكمة نهب الثروات المحلية، مقابل البقاء في السّلطة والحصول على عمولات، ولما لم تعد الدّولة قادرة على توزيع بعض الفتات على الفقراء، انتفضت الفئات الشعبية المسحوقة، في المناطق الفقيرة.

بعد عشر سنوات وجب التّهَيُّؤُ لخوض معارك عديدة من أجل العيش (الخبز) وكذلك من أجل الكرامة والسيادة على الموارد وإعادة توزيع الثروات، في مواجهة النظام وأجهزته القمعية، ومنظومته المُسلّحة والإدارية والقضائية والإعلامية، وفي مواجهة القوى الخارجية المُستفيدة من النّهب ومن تصدير فائض إنتاجها، ومن ارتفاع الدّيون…

لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بموعد الإنتفاضات والثورات، ولذلك وجب التحضير لها وكأنها سوف تحدث غدًا، من خلال عمل يومي، ومن خلال مشروع وحدوي يستخلص الدّروس من سلبيات تجربة الجبهة الشعبية (2013 – 2019 ) لتنسيق عمل مختلف حركات الإحتجاج والمُقاومة وإنشاء أدوات نضال ودعم وإعلام، محلية وإقليمية، هدفها تحقيق مكاسب للمواطنين، بالتوازي مع نقاشات أخرى بين القوى المُنَظّمة، للإجابة على بعض التساؤلات، منها: هل يمكن توحيد اليسار، ولمن يتوجّهُ خطابه وما القواسم المُشتركة وما الخلافات على مستوى العقيدة أو الفكر أو الهوية، وكيف يمكن الإتفاق على برنامج سياسي مشترك، وعلى أشكال النضال، ضد الصف المقابل الذي يضم سلطة مادية ( رأس مال وجيش وشرطة وقضاء ) وإيديولوجية (إعلام وبروباغندا وبرامج تعليم…)

هناك شبه إجماع – رغم اختلاف وجهات النظّر – بشأن توحيد اليسار الذي أصبح غائبًا من الأحداث الكُبرى، رغم مُشاركة مناضليه في الحركة النقابية ونضالات الكادحين وصغار الفلاحين والفُقراء الذين عانوا من الإستغلال والإضطهاد والقمع من قِبَل نظام الحكم، من بورقيبة إلى تلميذه الباجي قائد السبسي، فضلاً عن حُكْم الإخوان المسلمين الذين تمكّنوا من السّطو على انتفاضة الشعب، لأنهم قُوّة منظّمة لها برنامج وخطط وأهداف، خلافًا لليسار الذي لم يُحدّد أهدافه ولا طريقة تنفيذها، باستثناء التّأكيد على العدالة والمُساواة، بشكل فَضْفاض…

توجد حاضنة هامة لفكر اليسار الذي لم ينتقل من فهم الواقع السياسي والإجتماعي إلى تغييره  وترجمة المشاركة الفاعلة في الحركة الإجتماعية إلى مكاسب سياسية تتمثل في اكتساب عُمْق طبقي، اجتماعي، وتعزيز صفوف اليسار بمناضلين جدد، أفرزتهم النّضالات اليومية…

لم يتمكّن اليسار التونسي من جَني ثمار تضحيات مناضليه، خصوصًا منذ انتفاضة الحوض المنجمي (2008) وتضحيات النّقابيين ولم يستخلص الدّروس من تجربة “الجبهة الشعبية” (2012 – 2018)، لأسباب عديدة، منها شُحّ الإنتاج الفكري، وقلة البحوث والدّراسات للوضع بمختلف جوانبه السياسية والإقتصادية والإجتماعية، كما لم تُنتج منظمات اليسار برنامجًا بديلاً لحالة التّبعية الحالية، ولم تنتج برنامجًا مُستقْبَليًّا للتنمية الإقتصادية والإجتماعية  

إن تحالف تيارات اليسار المناضلة ( جبهة أو هيئة تنسيق…) ضروري لإنجاز المهمات التي يتطلبها القواقع اليومي، ولبلوغ توازن ميداني للقوى في مواجهة أجهزة الدّولة وأعوانها وداعميها، ثم تحقيق الأهداف (حقوق العاملين والكادحين والفقراء، وتحقيق العدل والمساواة…)، ويُؤفّر التحالف أدوات الدّعاية والتثقيف والتّحريض لتحقيق المُهمّات والمطالب العاجلة (النضال المطلبي) وللإقتراب من تحقيق المهمات متوسّطة أو بعيدة المَدَى، ما يعني عدم إمكانية تحالف اليسار مع اليمين، بذريعة التّكتيك، أو بذريعة “الجميع ضد الإستبداد” (كما حصل خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، وبعد اغتيال محمد البراهمي، في الخامس والعشرين من تموز/يوليو 2013، وبعد 25 تموز/يوليو 2021)، لأن الأهداف مُتناقضة، فاليسار هوية فكرية، وبرامج ذات مضمون اشتراكي، ومواقف وشعارات وممارسة، وسلوك نضالي لا يلهث وراء المناصب والمنافع.

تتشكّلُ الجبهة من ائتلاف بين قُوى تجمعها قواسم مُشترَكة، قد تتّسِعُ وقد تَضِيق، ما يعني اتحاد مختلف الأطراف لإنجاز البرنامج المُشترك، مع عدم الذّوبان، فيحتفظ كل طرف مثل الإشتراكيين والشيوعيين (كما غيرهم) بهويته الفكرية والدّفاع عن برامجه الخاصّة، في إطار العمل الحزبي المُستقل من أجل القضاء على الإستغلال الطّبقي (وليس فقط للتخفيف من حِدّته ) ودعم الشّعوب المُكافحة ضد الإستعمار المُباشر والإمبريالية، مع مواصلة الحوار بين مختلف التيارات الشيوعية التي تختلف قراءتها أحيانًا لمضمون الفكر الإشتراكي…     

إن العراقيل الدّينية والفكرية والتاريخية عَسَّرَت مُهمّة الشيوعيين للدّعاية لبرنامجهم وللتّحريض على الثورة، خصوصًا في فترات الجَزْر، ويكون الوضْع أفْضَلَ في فترات المد النضالي، وهو ما لم يتمكّن الشيوعيون ( ولا اليسار بشكل عام) من استغلاله، منذ الإضراب العام سنة 1978، فاليسار يُضَحِّي ليستفيدَ غيره، ولم يتمكّنْ من إنجاز نُقلة نوعية، والتّحَوُّل من منظمات محدودة الإنتشار إلى حزب جماهيري (أو أحزاب جماهيرية) مُقاوم، بهوية طبقية واضحة، تتجاوز البرجوازية الصّغيرة (التي تتبنّى الفكر الثوري والإشتراكية) لتشمل العمال وصغار الفلاحين، بفضل البرامج والشعارات والمُمارسة والسّلُوك الفردي والجماعي للمناضلين الشيوعيين، لإقناع العمال والفلاحين والفُقراء بأن مستقبلهم في الإشتراكية، ولبناء تنظيم ثوري مُكافح (النضال اليومي جزء من هوية الشيوعيين)، وبأهداف واضحة هي تغيير السّلطة، من سُلْطة تحالف طبقي يضم وُكلاء الإمبريالية، إلى سُلْطة “وطنية” (بناء اقتصاد وطني يُلَبِّي حاجة المواطنين، قبل التّصدير، وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين) في مرحلة أولى، بهوية اشتراكية تُمثّل مصالح الفئات الواقعة تحت الإستغلال والإضطهاد، وتتضامن مع الشُّعُوب والطّبقات المُكافحة للإستغلال والإضطهاد، ويتطلّب استهداف السّلطة انتشارًا واسعا، وجُهُوزيّة دائمة، والمزج بين العمل السّرِّي والعمل العَلَنِي…  

جبهة يسارية عربية

وجب العمل على إنشاء جبهة عربية تقدّمية (أو اشتراكية، إن أمْكَنَ) فقد تأثّرت شعوب آسيا وشعوب المشرق بثورة 1917، ونشأت أحزاب شيوعية حازت على تأييد جماهيري واسع، في الصّين وإندونيسيا وماليزيا، وفي العراق والشّام ومصر، وقَدّمت هذه الأحزاب شُهداء وأَسْرى ومُثقَّفِين وقادة نقابيين وسياسيين، لكن معظم هذه الأحزاب ( وليس كُلُّها) اصطفّت وراء موقف الإتحاد السّوفييتي الذي اعترف بالكيان الصّهيوني، ما خلق انشقاقاتٍ وتباعدًا مع الجماهير العربية، بل ودعمت قيادات الحزب الشيوعي العراقي الإنفصال الرّجعي الكُرْدِي والإحتلال الأمريكي، فيما يُصِرُّ الحزب الشيوعي السوداني، وقد كان أحد أكْبر الأحزاب الشيوعية العربية، على استبدال الحكم العسكري بحكم مَدَني، دون مضمون طبقي أو وطني (بمفهوم مناهضة الإمبريالية)، وفي فلسطين المحتلة انقسم الحزب الشيوعي على نفسه، وأصبح جُزء منه يُسمِّي نفسه “الحزب الشيوعي الإسرائيلي”، ويُعادي الفكر القومي العربي بشكل مَرَضِي، هستيري…

لهذه الأسباب وغيرها، مثل انتشار الفكر الغَيبِي والإسلام السياسي وقمع الأنظمة الحاكمة للشيوعيين، أصبحت هذه الأحزاب الشيوعية منبوذة، وضعيفة، ما يَفرِضُ إعادة التّأسيس على أُسُسٍ وطنية، وقومية مناهضة للإمبريالية، واشتراكية أُمَمِيّة، تعمل على تحرير فلسطين وكافة الأراضي العربية المُحتلّة، من فلسطين وعربستان ولواء اسكندرونة إلى سبتة ومليلة والجُزُر الجعْفَرِية، وعلى إنجاز وحدة أُفُقِية، جماهيرية، لكافة أجزاء الوطن العربي، ضمن أُفُقٍ اشتراكي، يتمثّل في اعتبار الوطن العربي وِحْدَةً جغرافية متكاملة، تشترك في التاريخ والثقافة والطّموحات، وتشترك في الثروة وتتطلب الدّفاع المشترك عن أي شبْرٍ منه، وبناء مجتمع اشتراكي يُؤَمِّم المُؤسسات والأراضي الصالحة للزراعة وللبناء، ويُلبِّي حاجيات وطموحات كافة المواطنين، وديمقراطي يفتح المدارس والمُستشفيات ودور الثقافة والرياضة والتّرفيه لكافة أبناء الوطن والأمة…      

أمامنا اليوم فُرْصَةٌ هائلة تتمثل في إفلاس تجربة الحكم بزعامة الإخوان المسلمين بعد انهيار النظام المَوْرُوث عن بورقيبة، لكن ضُعْف القُوى الإشتراكية، وضُعف اليسار بشكل عام، جعل الإخوان المسلمين والدّساترة قادرين على الفوز بانتخابات ديمقراطية، لذا وجب تقويم انتفاضة 2010/2011 وما تلاها من مبادرات جماهيرية تم إجهاضُها بتواطؤ القيادات النقابية ورموز السلطة وقيادات بعض أحزاب اليسار، وتقويم تجربة مختلف التكتلات التي تشكلت، منها لجان حماية الثورة ولجان 14 جانفي و”الجبهة الشعبية”، وغيرها، والتنسيق مع الماركسيين المصريين لدراسة فشل انتفاضَتَيْ تونس ومصر…

إن استهداف الوطن العربي ككل، من المحيط إلى الخليج، من قِبَل الإمبريالية والصّهيونية (مباشرة أو من خلال الحُكّام المَحلّيّين ) يُحتّم التقارب وتأسيس حوار حول مستقبل المنطقة وتحريرها من الإستعمار المُباشر ومن الهيمنة، واستغلال العوامل الإيجابية التي تُيَسّر الحوار، منها الإمتداد الجغرافي ووحدة اللغة والثقافة، وهو حوار يهدف خلق أُسُس النضال المُشترك من أجل التحرر ومن أجل وحدة الشّعوب العربية، مع مراعاة حقوق الأقليات، فهي وحدة مُغايرة لوحدة الأنظمة التي تم إقرارُها عَمُودِيًّا من قبل الحُكّام، وليست وحدة قاعدية أُفُقية تُقررها الشعوب.

لقد فشلت المحاولات القليلة لإنشاء هيئة تنسيق بين الأحزاب والمنظمات الإشتراكية والشيوعية العربية، بسبب عدم إيلاء هذه المسألة الحيوية (وحدة الشعوب والبلدان العربية) ما تستحقه من اهتمام، ومن الضّروري تكرار المحاولات مع تحديث المقترحات ووسائل العمل وما إلى ذلك.

وجب التفكير في إقامة جبهة اشتراكية عربية ضد الإحتلال الصهيوني والهيمنة الإمبريالية، وضد نفوذ الشركات العابرة للقارات والأنظمة العربية التي تُمثّل مصالح النفوذ الاجنبي، من أجل وحدة الشُّعوب العربية، بمختلف مُكوّناتها الدّينية والأثنية والثقافية، والسيطرة على الثروات وإنجاز برامج التنمية المحلية التي تُلَبِّي حاجيات المواطنين، من المحيط إلى الخليج، بالتعاون مع البلدان والشعوب المُناهضة للإستعمار.

تساؤلات تتطلّب أجوبة

كيف يمكننا الإعتماد على مواردنا الفكرية والثقافية (بمفهوم التّراث الفردي والجماعي) لفهم العلاقة بين الحالة السيئة لأغلبية سكّان البلاد والنظام الذي يفرض عليهم معايير تحددها أقلية ثرية بناءً على مصالح النخبة القادرة على تعبئة منظومة التعليم والدعاية والإعلام لصالح نظامها الاقتصادي القائم على تحقيق أقصى قدر من الأرباح في أقل وقت ممكن، وما يتطلّبُهُ من سحق الأغلبية خدمةً لمصالح الأقلية …

كيف يمكننا تصويب تفكير الفرد المُستَغَل والمُضْطَهَد نحو أهدفه وأهداف طبقته ومجموعته وشعبه، من أجل حياة أَفْضَلَ، وعلى مستوى المجموعة، يعني ذلك تغيير جميع المؤسسات والهياكل السياسية والأيديولوجيات القائمة على تدمير حياة وصحة الناس وعلى خلق الانقسامات بين المضطهدين والمستغلين – ليتخاصموا فيما بينهم ويُهملوا عدوهم الحقيقي – ويتطلب ذلك تدمير أو تحويل أو إلغاء هذه المؤسسات وإيديولوجيتها، واستبدالها بأنظمة التماسك الاقتصادي والاجتماعي.

يتمثل دور الحركات اليسارية في تنظيم وتوحيد المستغَلين والمضطَهَدين والفقراء والفئات التي تشكل غالبية السكان، حول برنامج ومقترحات تنبثق من هذه الفئات، لكن إنجاز هذه البرامج والخطط يتطلّب استبْعاد وَهْم الإنتصار عبر “انتخابات حرة” تحترم دستور وقوانين المنظومة الرأسمالية، لأن الرأسمالية (التي أوجدت هذا النظام) لن تسمح لأي شخص أن يبني نظامًا نقيضًا لمصالحها، عن طريق الانتخابات الحرة، وبرهنت الرأسمالية العالمية سواء في تشيلي أو فنزويلا أو بوليفيا أو هندوراس ( وهي الأمثلة الأحدث من سلسلة طويلة من الانقلابات التي نظمتها الولايات المتحدة، قاطرة الرأسمالية العالمية) أنها لا تتواني لحظة في الإطاحة بأي نظام يُزعجها ولو قليلاً، حتى وإن كانت هذه الأنظمة مُنتخبة ديمقراطياً.

أي برنامج لليسار؟

يُبيّن البرنامج أهداف الحزب أو الجبهة أو الإئتلاف على المدى الطويل، ولتحقيق تلك الأهداف وجب وضع الخطط وأدوات التنفيذ وتقويم درجة التّقدّم في تنفيذ البرنامج، بشكل دَوْرِي، واستخلاص الدّروس من التجارب ومن الصعوبات والنجاحات والفشل، وتقويم أداء الحزب ودرجة اندماجه مع الطبقة والفئات التي يهدف تمثيل مصالحها وطموحاتها، وتعزيز الإيجابيات ومعالجة السّلبيات الخ.

يتطلب إعداد البرنامج قراءة الواقع، وإعداد الوسائل الضرورية لتغييره، من خلال كفاءة القيادة والكوادر والمناضلين ودرجة انصهار الحزب أو الأحزاب المُكَوِّنة للجبهة في الفئات المُستَغَلَّة والمُضْطَهَدَة ليُصمّم معها الخطط ويخوض النضالات بكفاءة، لينال ثقة الأغلبية التي تعتبره مُعبّرًا عن إرادتها، ولكي ينجح الحزب الذي يتبنّى الإشتراكية في مهامه، وجب تحويل العمل الجماهيري العفوي إلى عمل مُنظّم، يُحدّد مهام كل فرد أو مجموعة وأدوات التنفيذ والغاية منها الخ، يكون ذلك مُرفقًا بتدريب وتأهيل العناصر المتقدمة وبلورة وعْيِها لتصبح قادرة على قيادة الجماهير نحو الإشتراكية. أما بالنسبة للحزب فإن هذه المهام جُزْءٌ من العمل اليومي الذي يندرج ضمن تطبيق البرنامج، وهي خطوات صغيرة، لكنها ثابتة ومستمرة نحو إنجاز الأهداف الإستراتيجية، وفي الواقع تتخلل هذه الخطوات انتكاسات وتراجعات قد تُؤَخّر عمل الحزب وقد تنسف بعض المكاسب، ما يجعل التقويم الدّوري ضروريًّا لمراجعة أو تغيير التكتيكات وطرق العمل…

يمكن أن يتضمَّنَ البرنامج العَمَلي مناقشة أُطُر وَوَسائل وأشكال ومحتوى الإتصال بمختلف المجموعات التي تُنظم وتُنفّذُ احتجاجات وتظاهرات (نضالات مَطْلَبِيّة)، بهدف الدّعاية والتحريض وتنظيم حملات التّضامن مع المُحْتَجِّين، وتنسيق مختلف الحركات الإحتجاجية، على مستوى وطني، لكي تَصُبَّ مختلف الإحتجاجات في إطارالتحرُّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي (ضد الفكر الرجعي الذي يهدف تخريب الوعي) 

الوسائل: أداة إعلام وحوار ونقاش بين قوى اليسار  

التنمية: يتطلب إنجاز عملية التّحَوُّل نحو الإشتراكية وتحقيق التنمية في بلدان عانت من الإستعمار ومن حُكم البرجوازية الكُمْبرادُورية (وكيلة مصالح الإستعمار) بناء جبهة أو تحالف طبقي بين الكادحين والعاملين في كافة القطاعات، وتكثيف دَوْرات التثقيف السياسي والتدريب للعاملين ليتمكّنوا من الإشراف على سَيْر المُؤسّسات الإقتصادية، وتحقيق الإصلاح الزراعي والتصنيع، ومن التخطيط ورَبْط المحلي بالوطني، وزيادة حصّة الزراعة والصناعة، مقارنة بقطاع الخَدَمات، من الناتج المحلي الإجمالي ومن التّحويلات المالية لتنمية البلاد، ضمن نموذج التنمية المُلائم للبيئة الإقتصادية والإجتماعية المحلّيّة والإقليمية الذي يسمح بتأمين السلع والمواد الضرورية للإنتاج وللإستهلاك، والتهيُّؤ لمواجهة الحصار والعقوبات المحتملة، وعدم التراجع عن الملكية العامّة لوسائل الإنتاج، شَرْطَ تأمين حاجة المواطنين للطاقة وللغذاء والعقاقير…        

ضرورة مناقشة وطرح برنامج اشتراكي

أصبحت معظم البرامج السياسية لليسار تتسم بتهميش الجوانب العقائدية، بفعل تحوُّلِ خطاب معظمها من الثورية (تغيير نمط الإنتاج) إلى الإصلاحية التي تكتفي بالعمل النقابي كهدف بذاته، أو الليبرالية التي تسعى للإندماج في المؤسسات والمشاركة في الإنتخابات البرلمانية، بالتحالف مع قوى ليبرالية، من موقف ضُعْف، وبدون مُخطّط، وبدون برنامج، غير بُرُوز بعض القادة أو حصولهم على بعض المناصب، وبذلك أهمل التقدميون واليساريون الإشتراكيون مهمات الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين والفُقراء والمُعطّلين عن العمل والمواطن بشكل عام، وأهملوا مهمات تنظيم المُستَغَلِّين والمُضْطَهَدِين، من أجل بلورة الوعي، ضمن برنامج اشتراكي مناهض لطبقة البرجوازية الكمبرادورية، وكيلة رأس المال الإحتكاري الأجنبي، وائتلافها الحاكم…

قد يتضمّن العمل اليومي مطالب تتعلق بتوسيع حَيِّز الحُرّيات الفردية والحقوق السياسية الجماعية، ومطالب اقتصادية “إصلاحية” مثل تحسين ظروف العمل والعيش وتوفير المرافق كالنقل والسكن والخدمات الضرورية، وإقرار إصلاح جبائي، يزيح ثقل الضرائب عن الكادحين والفُقراء، على أن لا يكون ذلك هدفًا بحد ذاته، بل أداة للتنوير حول ضرورة مثل هذه الإصلاحات، وحُدُودها، لرفع درجة الوعي، والإنتقال من ردّ الفعل إلى المُبادرة بالهجوم، وتوسيع مُشاركة الكادحين والفُقراء في العمل النقابي والسياسي اليومي، وإنشاء مؤسسات ومجالس وجمعيات شعبية للمناقشة واتخاذ القرار، وهي بمثابة خطوات صغيرة في الطريق الطويلة لإعداد وتحوير وإنجاز البرنامج الاشتراكي…

من الضروري مناقشة مسائل ارتفاع الدُّيُون الخارجية والسيادة الغذائية والتحكم بالموارد (الطاقة والمياه والمعادن…) ومسائل التشغيل والإنتاج والخفض التدريجي لتوريد السلع الضرورية كالغذاء والأدوية وقطع الغيار…

خاتمة:

لم تطرح سلطة ما بعد 25 تموز/يوليو 2021 برنامجًا أو خطّة لحل مسألة الدّيون الخارجية، بل لا تزال تُواصل توريط البلاد والأجيال القادمة، وتكبيلها بالدّيون المشروطة (الخصخصة وخفض قيمة العُملة المحلية وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وفتح السوق المحلية للإنتاج الأجنبي المدعوم…)، ولم تطرح إعادة النّظر في الإتفاقيات الدّولية غير العادلة، مثل “أليكا” مع الإتحاد الأوروبي، ولا في الهيمنة الثقافية، وهي إحدى البَوّابات المُفضّلة للتطبيع ولطعن الشعب الفلسطيني في الظّهْر، إلى جانب المراكز الثقافية الأجنبية والمنظمات المُسمّاة “غير حكومية”، وهي بمثابة فُرُوع لسفارات وشركات وأثرياء الدّول الإمبريالية، لذلك وجب نقد كل من ساند هذه السّلطة، بذريعة إزاحتها للإئتلاف الذي كان يقوده الإخوان المسلمون، وتُشكل هذه الذريعة انحطاطًا لمستوى النقاش السياسي، وتغييبًا للطبقات والصراع فيما بينها وتخلّيًا عن الطّموح لبناء الإشتراكية، لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل تحسّن وضع الكادحين والفُقراء وهل هناك بوادر مكافحة الهيمنة الإمبريالية وإقرار برنامج اقتصادي وسياسي لصالح الفئات التي تضرّرت من البرنامج السياسي والإقتصادي السابق؟ إنها بصراحة وبوضوح استمرار، في جوهرها، وليس في مظاهرها، لحالة التبعية، ولمنظومة الحكم المتواصلة منذ 1956، ولا يوجد مُبرّر واحد لدعمها.

خلقت انتفاضة تونس ثم مصر والمغرب والسودان والبحرَيْن وغيرها آمالاً كبيرة، لكن سُرعان ما سيطرت البرجوازية الكمبرادورية من جديد على الوضع، بدعم أمريكي وأوروبي، بسبب غياب أو ضُعْف منظمات وأحزاب اليسار، التي لم تتمكّن، خلال العقد الذي تلا الإنتفاضة، من التحوّل من قوة نقابية وديمقراطية (رابطة حقوق الإنسان ومنظومة القضاء…) إلى قوّة ثورية فاعلة في المجتمع وفي أوساط الكادحين والفُقراء، كما أضرّت مشاركة اليسار في عملية “التحول الديمقراطي” وتزكية هذا المخطط الإمبريالي الأمريكي/الأوروبي، بمحاولات مناضليه الإندماج في شبكات النضال الشعبي بالمناطق المحرومة بالبلاد، وانْحَلّت جبهة 14 جانفي (الجبهة الشعبيه لاحقا) بعد أداء دورها في تحويل اليسار إلى قوّة إصلاحية ضعيفة، كما تعثرت واندثرت محاولات الجبهة الثورية ومحاولات “التأسيس” الأخرى، بسبب العجز عن تأسيس أحزاب “شيوعية” مناضلة قادرة على تقويم التجارب السابقة وخلق بدائل تقطع مع تلك التجارب الفاشلة… بذلك لا تزال الفئات الكادحة والفُقراء بحاجة إلى تعبيرة سياسية تُمثل طموحاتهم وتُدافع عن مصالحهم، وتُحوّل الإنتفاضات العفوية أو التّلقائية إلى ثورات ظافرة، ويتطلب ذلك بناء مشروع استراتيجي، يُقَوّم الأخطاء بهدف تجاوزها…

يمكن البدء بإطلاق موقع إلكتروني ومجلة ورقية للحوار بين فصائل اليسار، بشكل عام، من خلال تقديم وجهات النّظر المختلفة بخصوص اندماج مناضلي ومنظمات اليسار ضمن جبهة عَمل في الساحات الرئيسية، كالعمل النقابي والحُقوقي والإجتماعي، وقضايا مثل مكانة النّساء في المجتمع وفي المنظمات السياسية والمهنية، ومكانة التعليم وتربية الأجيال القادمة، والعديد من المواضيع الأخرى، وتقييم هذه المبادرات ونتائجها ووسائل عملها، بشكل دوري…

يتضمّن الحوار المُقترح دوائر مختلفة، أولها دائرة المجموعات ( والأفراد غير المُنْتَمِين تنظيميا) التي تتبنّى الإشتراكية، تليها دائرة التّقدّميين الذين لا يؤمنون بالضرورة بالصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، وإنما الدّائرة التي تَضُمُّ الفئات الوطنية والقومية التّقدّمية التي تعلن برنامجًا يتضمن التأميم وتنمية القُدُرات المَحلّية، والعدالة الإجتماعية…   

لم تتطرق هذه الورقة إلى قضايا خارجية، بما في ذلك قضايا الوطن العربي، لتجنّب الإطالة، ويمكن إفراد حيز خاص لها.

قد يعجبك ايضا