د. أمين محمود يكتب: مشروع الدولة اليهودية كضرورة استراتيجية للإمبريالية الغربية




د. امين محمود ( الأردن ) – السبت 1/8/2020 م …

تجدد التنافس الإمبريالي مجددا بين بريطانيا وفرنسا على تبني مشروع الدولة اليهودية. ففي أعقاب ثورات عام ١٨٤٨ وكنتيجة مباشرة للثورة الصناعية، تمكنت الطبقة البورجوازية من تثبيت دعائم سيطرتها السياسية والاقتصادية في غالبية دول أوروبا الغربية، وبدات موجة من موجات التوسع الامبريالي بغية السيطرة على اقتصاديات دول العالم وتحويل هذه الدول الى مجرد مصادر للمواد الخام اللازمة للصناعات الغربية وأسواقا استهلاكية لمنتوجات الغرب.

ومن هذا المنطلق أصبحت الدول الغربية وخاصة بريطانيا وفرنسا بأمس الحاجة الى أنظمة حكم موالية لها في الدول الواقعة تحت نفوذها، ليس فقط لمجرد حماية مصالح الدول الامبريالية في هذه البلاد، وإنما أيضا لقيامها بدور الحارس الأمين لهذه المصالح إذا ما تعرضت للخطر في مناطق أخرى مجاورة، ولذا فان وجود دولة يهودية يخدم بالتأكيد مصالح الدولة الكبرى ذات السيطرة والنفوذ على فلسطين ليس داخل حدودها فحسب، وإنما أيضا فيما جاورها من مناطق في المشرق العربي.

مما جعل قيام هذه الدولة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ضرورة استراتيجية ملحة بالنسبة للدول الغربية وخاصة بريطانيا، اشتداد التنافس الامبريالي في تلك المناطق بين بريطانيا وفرنسا، اذ تمكنت فرنسا عام ١٨٥٤ من الحصول على امتياز شق قناة السويس وأخذت تتصرف كما لو ان مصر أصبحت منطقة نفوذ خاصة بها، وبالإضافة الى ذلك قام الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في محاولة لكسب دعم وتأييد الشعب الفرنسي بالإعلان عن نواياه في احتلال منطقة الشرق العربي بما فيها سوريا وفلسطين.

كما ان فرنسا من جهتها لم تكن اقل حماسًا من بريطانيا لإقامة دولة يهودية في فلسطين تحت الحماية الفرنسية. ففي أعقاب حرب القرم برز اهتمام متجدد بتوسيع رقعة النفوذ الفرنسي داخل الليفانت (بلاد الشام)، وأخذ بعض المفكرين والكتاب السياسيين في فرنسا يرفعون لواء الدعوة للمناداة بفلسطين اقليما يهوديا تحت الحماية الفرنسية.

وقد أخذ نابليون الثالث يبدي اهتمامًا ملحوظًا بفكرة توطين اليهود في فلسطين خاصة بعد ان حصلت فرنسا على امتياز شق قناة السويس ( Nahum Sokolow , History of Zionism , Vol . 1. P. 200 ). وبرز هذا الاهتمام على لسان عدد من الشخصيات الفرنسية المقربة لنابليون الثالث، وكان من بينهم جان دومان الذي عرف بكونه صاحب فكرة الصليب الأحمر الدولي، وأول من حاز على جائزة نوبل للسلام، وكانت تربطه صلات وثيقة بعدد كبير من حكام أوروبا والمسؤولين فيها.

وقد قام دونان بنشاطات واسعة في فرنسا وخارجها لكسب تاييد الرأي العام الفرنسي والأوروبي من اجل الاستيطان اليهودي في فلسطين. وكان من اهم إنجازاته في هذا الصدد إنشاء * جمعية استعمار فلسطين * في باريس حيث نجح في الحصول على موافقة الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث لتتولى رئاسة هذه الجمعية ( ibid ). وكان متأثرا بنجاح شركة الهند الشرقية، فدعا الى تاسيس شركة فرنسية على غرارها لتشرف على إنشاء مستوطنات تجارية في فلسطين تتحول فيما بعد الى مستوطنات ثابتة تستقطب سكانها من اليهود الغربيين.

ومن اجل هذا الهدف شن حملة واسعة لتأليب الرأي العام الفرنسي والأوروبي للضغط على الباب العالي كي يوافق على السماح لهذا المشروع بالخروج الى حيز الوجود .
وفي عام ١٨٦٠ دعا ارنست لاهران Ernest Laharanne الذي كان يعمل مستشارا خاصا لنابليون الثالث خلال تصاعد الاستعمار الفرنسي في لبنان، الى البحث عن الوسائل الكفيلة بتثبيت دعائم الوجود الفرنسي في منطقة الشرق العربي.

ومن بين هذه الوسائل التي توصل اليها اعادة بناء الدولة اليهودية في فلسطين تحت الحماية الفرنسية. وقد نشر آراءه بهذا الخصوص في كتابه الذي حمل عنوان : * المسالة الشرقية الجديدة وإعادة احياء القومية اليهودية * ، حيث اقترح فيه لاهران قيام فرنسا بتوطين اليهود في فلسطين وذلك بدعم وتمويل من رجال البنوك والتجار اليهود في العالم اضافة الى اجراء اكتتاب مالي يهودي عام يتيح لليهود المجال * لشراء وطنهم القديم * من الدولة العثمانية ، ويتولى لاهران بعد ذلك إيضاح المكاسب التي تعود على الامبريالية الغربية من وراء هذا المشروع بقوله: * أي قوة في أوروبا ستعترض على الخطة الداعية الى اتحاد اليهود من اجل شراء ارض اجدادهم القديمة ! ومن ذا الذي سيعترض إذا إذا عمد اليهود الى إلقاء بعض حفنات من الذهب الى تركيا المعجزة المتهالكة ، وقالوا لها : أعيدي لنا ارضنا واستخدمي هذا المال في تعزيز الأجزاء الباقية من إمبراطوريتك المتداعية * ويبدو ان لاهران كان على ثقة تامة بانه لن تثار أي اعتراضات على تحقيق هذه الخطة * حيث سيسمح للدولة اليهودية ان تمد حدودها من السويس عبر فلسطين الى الأراضي المجاورة بما في ذلك كامل المنطقة غربي جبال لبنان * .

وأضاف لاهران قائلا : * وستسعى الصناعة الأوروبية الى البحث عن أسواق جديدة تصرف فيها منتجاتها . ان الوقت أمامنا قصير ، فقد ان الأوان لان ندعو الأمم القديمة الى الحياة من جديد كي تفتح طرقا جديدة ومعابر للحضارة الأوروبية ( ستيفن هولبروك ، الجذورالطبقية في العقيدة الصهيونية * مترجم * ، ص ٢٧ ) .

ويوضح لاهران مدى الخدمات التي يمكن لمثل هذه الدولة – فيما لو قامت – ان تحققها للإمبريالية الغربية وخاصة الفرنسية ، ومما قاله في هذا الصدد : * هناك دعوة عظيمة موقوفة على اليهود : ان يكونوا قناة الاتصال الحية بين القارات الثلاث . سيكونون حملة الحضارة الى شعوب ما زالت بدائية وسيلعبون دور الوسيط بين أوروبا وأقاصي اسيا ، فيفتحون الطرق المؤدية الى الهند والصين ، تلك المجاهل التي ينبغي في النهاية فتح ابوابها للحضارة * ( Moses Hess , Rome and Jerusalem , pp. 139-140 ) . ويستمر لاهران في حديثه مخاطبًا اليهود : * سيروا قدما، ان انبعاثكم سيجعل قلوبنا تختلج ( أي قلوب الطبقة الحاكمة الفرنسية ) وستقف جيوشنا الى جانبكم مستعدة لتقديم المعونة. سيروا الى الأمام ، يا أيها اليهود في كل ارض ، ان وطنكم القديم يناديكم وسيكون من دواعي افتخارنا ان نفتح لكم ابوابه ( ibid ) .
ولا يكتفي لاهران في كتابه بوصف العرب بالهمجية والوحشية ، وإنما ينكر – كما أشرنا في دردشة سابقة – المساهمة العربية في ميادين العلوم الأوروبية ويقصرها على اليهود .

ولا شك ان المنطق يعكس النظرة المتعصبة للإمبريالية الغربية الحاقدة على الشعوب العربية والإسلامية ، بحيث دابت على الإنكار أو التقليل من أهمية أي دور إيجابي قامت به هذه الشعوب في مرحلة من مراحل تاريخها تجاه الحضارة الإنسانية . ومن المفارقات العجيبة لشخص مثل لاهران ان يقدم صورة كهذه عن العرب ويكون من ناحية أخرى احد ضيوف الشرف لدى الخديوي إسماعيل في حفل افتتاح قناة السويس عام
١٨٦٩ .
ومن الجدير بالذكر ان كتاب لاهران وما تضمنه من آراء كان له تاثير كبير على افكار موسى هس وآرائه التي حملها إلينا كتابه الشهير * روما والقدس * .

ويمكن الاستشهاد بهذا كمثال يوضح مدى التأثير الذي مارسه فكر الصهاينة الاغيار على اليهود أنفسهم وأنعش امالهم في تحقيق الاستيطان اليهودي بعد ان كان مجرد تصورات وأوهام خيالية .
غير ان الهزيمة الساحقة التي منيت بها فرنسا على يد بسمارك في سيدان عام ١٨٧٠ جعلت الحكومة الفرنسية لفترة طويلة لاحقة حريصة على عدم الدخول بمفردها في مغامرات استعمارية قد تعرضها لخطر المواجهة العسكرية مع دول أوروبية تتفوق عليها قوة وصلابة . وسنلاحظ ان السياسة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تعمل على تسوية المشاكل المعلقة بينها وبين بريطانيا ، لكسب دعمها وتغاضيها عن أي مغامرة استعمارية قذ تقدم عليها فرنسا في مناطق لا اطماع لبريطانيا فيها كما حدث بالنسبة لتونس والمغرب .
وهكذا خلا الجو نسبيا لبريطانيا كي تهيىء المجال لمد نفوذها صوب فلسطين ، وأخذ اليهود يركزون جهودهم صوب بريطانيا التي أضحت القوة الفعلية الحقيقية القادرة على حماية الوجود اليهودي في فلسطين . وبدات الأصوات ترتفع من جديد في بريطانيا مطالبة إياها بفرض حمايتها على فلسطين
وتوطين مزيد من اليهود فيها تمهيدا لإقامة دولة يهودية فيها . ويعتبر شارل هنري تشرتشل Charles H.Churchill ( توفي عام ١٨٧٧)من اشد المتحمسين لإنشاء دولة يهودية في فلسطين . فقد ادرك مدى أهمية فلسطين بالنسبة للمصالح البريطانية اثناء اشتراكه في الحملة الإنجليزية ضد محمد علي عام ١٨٤٠ ، ومن هنا لجا الى معارضة السياسة البريطانية الرامية الى عدم المساس بممتلكات الدولة العثمانية تمشيًا مع السياسة المتفق عليها تجاه المسالة الشرقية. . وطالب بتدخل بريطانيا الفوري واحتلالها سوريا وفلسطين ووضعها تحت حمايتها . وقدكتب تشرتشل موضحا هذا الموضوع في مقدمة كتابه * جبل لبنان * ، حيث قال فيه : * ان كنا نريد الإسراع في تقدم المدنية وتوطيد سياسة بريطانيا في الشرق ، فمن الواجب ان تقع سوريا ومصر تحت سيطرتها ونفوذها بهذا الشكل أو ذاك ( اسعد رزوق ،الصهيونية وحقوق الإنسان العربي ، ج١، ص ١٧٦-١٧٩ ) . وكان يرى ان هجرات اليهود الى فلسطين واستيطانهم فيها يهينهم للقيام بدور حماة المصالح البريطانية في الشرق ، ولكنه كان في نفس الوقت يدرك ان يهود أوروبا لا يتوفر لديهم الحماس الكافي للاستيطان الفوري في فلسطين ، ولذلك أخذ يقوم باتصالات مكثفة مع الزعماء اليهود ، يحثهم فيها على ضرورة ثشجيع هجرة ابناء جلدتهم الى فلسطين والعمل من اجل إقامة الدولة اليهودية . وهكذا كانت مساعي تشرتشل موجهة بشكل مركز لتهجير اليهود صوب فلسطين باي شكل من الأشكال والعمل على استقرارهم فيها .
وكان من بين دعاة توطين اليهود في فلسطين أيضا ادوارد ميتفورد E. L. Mitford الذي قدم مذكرة الى الحكومة البريطانية يطلب.فيها اعادة توطين اليهود في فلسطين باي ثمن وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية . ومن جملة ما ورد في مذكرة ميتفورد ان إقامة مثل هذه الدولة اليهودية
يحقق مزايا كبرى لبريطانيا وذلك بجعل الممرات المائية لمواصفاتها البحرية المتجهة نحو الشرق خاضعة للسيطرة البريطانية مما يؤمن سلامة وامن الطريق المؤدية للهند ويتيح المجال للسفن التجارية البريطانية التزود بالوقود والمؤن التي تحتاجها.
ومما أشار اليه ميتفورد في مذكرته ان ايجاد كيان يهودي في فلسطين * سيحقق لنا مكانة قوية في الليفانت نستطيع من خلالها العمل على وقف ودحر أية محاولة من اعدائنا للتحكم في منطقة الشرق ( Barbra Tuchman , Bible and Sword , p. 139 ) . وكان ميتفورد من أوائل * الصهاينة الأغيار * الذين تعرضوا لقضية الوجود الفلسطيني فاقترح اجلاء الفلسطينيين وتوطينهم في اجزاء أخرى من الدولة العثمانية ، وكان مما قاله حول هذه القضية : * … يستحسن قبل القيام باي محاولة للاستيطان ان يتم تهيئة البلاد لاستقبال القادمين من المستوطنين ، ويمكن تحقيق ذلك بحث الحكومة العثمانية للعمل على جعل السكان المحمديين يتراجعون صوب تلك البلاد الشاسعة والمزروعة جزئيا في آسية الصغرى بحيث يتم تمليكهم قطعًا من الأرض مساوية في مساحتها ومتفوقة الى حد بعيد في قيمتها بالقياس الى الأراضي التي تخلوا عنها * .
وكان من اهم الصهاينة الأغيار في بريطانيا الكولونيل جورج جولر George Gawler الذي عمل فترة حاكما لمستعمرة جنوب استراليا . وقد استمر فترة طويلة يطالب بإنشاء مستوطنات يهودية في فلسطين كمرحلة تسبق مرحلة إقامة كومنولث يهودي في فلسطين تحت وصاية بريطانيا . وكان مما قاله في احدى المناسبات : * … تحتاج بريطانيا الى اقصر خطوط المواصلات وأكثرها امنا بالنسبة للمناطق التابعة لها ، وان استيلاء أي دولة على مصر أو سوريا يهدد تجارة بريطانيا . وقد ان الأوان كي تقوم بريطانيا باجراءات تنموية من اجل احياء سوريا الكبرى بواسطة ابنائها الحقيقيين من بني
اسرائيل * ( Israel Cohen , The Zionist Movement , p . 52 ) . وقد بذل جولر قصارى جهده في توثيق علاقاته مع الشخصيات اليهودية البارزة في بريطانيا واثارة حماس أفراد الطائفة اليهودية من اجل دعم وتاييدالدولة المقترحة في فلسطين ، اذ ان هذه الدولة ستكون – في نظره – الحل الحاسم لكل * المشاكل والمضايقات والقيود التي تحد من حرية اليهود في أوروبا * ( ibid ) . .
ومن اهم الشخصيات الأوروبية التي تعاطفت أيضا مع مشاريع الاستيطان اليهودي كان لورانس أوليفانت Lawrence Oliphant ( ١٨٣٩-١٨٨٨) ألدي ولد في جنوب أفريقيا من أبوين إنجيليين وخدم فترة من الزمن في السلك الدبلوماسي. البريطاني . كما عمل أوليفانت مراسلا لصحيفة التايمز اللندنية خلال حرب القرم التي دارت رحاها بين عامي ١٨٥٣-١٨٥٦ وأصبح فيما بعد عضوا في البرلمان البريطاني .
أبدى أوليفانت بادىء الامر اهتماما. كبيرا بالمحافظة على سيادة الدولة العثمانية وحمايتها من التهديدات الروسية ، وفي الوقت الذي اشاد فيه بنتائج مؤتمر برلين عام ١٨٧٨ وما تمخض عنه من ظهور تحالف أوروبي للوقوف في وجه أي مخططات عدوانية تضمرها روسيا للممتلكات العثمانية في أوروبا ، وبادر الى التحذير من مغبة الأطماع الروسية في الأجزاء الآسيوية من الدولة العثمانية اذ ان اطماعها تصاعدت – كما أشار أوليفانت – وذلك من خلال * اطماعها في ارمينيا وكردستان * لتصل في النهاية الى فلسطين التي كانت تشكل بمركزها الديني والاستراتيجي مصدر اغراء كبير بالنسبة للمطامع الروسية التوسعية ( David Vital , The Origins of Zionism , p. 94 ) . ولذلك فانه دعا الى تشجيع الاستيطان اليهودي بحيث لا يكون مقتصرا على فلسطين وحدها ، وإنما يمتد ليشمل الضفة الشرقية للأردن التي كانت خالية من الحركات الاستيطانية بالإضافة الى ان أوضاعها الإدارية كانت مضطربة وغير مستقرة ، وركز على المكاسب التي كانت ستعود على كل من المستوطنين والباب العالي ، اذ ان انتقال هؤلاء المستوطنين ليصبحوا رعايا للسلطان سيودي الى قيام تحالف حيوي قاىم على خدمة المصالح المتبادلة بين العثمانيين من جهة و* الشعب * اليهودي من جهة أخرى (ibid ) .
وأشار أوليفانت الى انه مقابل استقرار المستوطنين اليهود في فلسطين والأردن ، فان الدولة العثمانية ستحصل على حليف يتمتع بأهمية بالغة في المجالات المالية والتجارية والسياسية ، وسيكون سندًا فعالًا لمصالحها في أوروبا واسيا ( ibid ) . وقد دعا أوليفانت بريطانيا – من ناحية أخرى – الى دعم وتأييد مشروعه الرامي الى إنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها المستعصية عن طريق * ضخ عناصر اقتصادية نشطة في جسمها المتهاوي * ( Lawrence Oliphant , The Land of Gilead , p. 503 ) . وكان العنصر المقصود بالطبع هو العنصر اليهودي .
وقداصدر أوليفانت عام ١٨٨٠ كتابه * ارض جلعاد * The Land of Gilead الذي ضمنه آراءه وافكاره بخصوص توطين اليهود في فلسطين ونوعية العلاقات التي سيقيمها المستوطنون مع كل من الأتراك والعرب . وكان موقفه بالنسبة للعرب يعكس نظرة في منتهى العنصرية والسوفيتية ، اذ هم – في نظره – * غير جديرين باي معاملة إنسانية * ودعا الى طردهم * ليعودوا رعاة كما كانوا ، فهم ليسوا بحاجة الى اكثر من إبلهم ومواشيهم. لتسد أودهم * ( عبد الوهاب المسيري ، الأيديولوجية الصهيونية ، ج١، ص ١٣٨) .
*. *. *
غير ان تبني المشاريع الاستيطانية في فلسطين لم يقتصر على بريطانيا وفرنسا وإنما شاركتهما في ذلك غالبية الدول الاستعمارية الأخرى ، وان كان ذلك بدرجة اقل نسبيا ، فيروسيا منذ ان افتتحت قنصليتها في القدس عام ١٨٤٢ منحت حمايتها لكل من طلبها من اليهود دون الاهتمام بالتدقيق في الأوراق والمستندات الثبوتية التي تؤهل صاحبها لهذه الحماية . وهكذا امتدت الحماية البروسية الى الكثير من اليهود ممن هم ليسوا من اصل ألماني وممن كانت إقامتهم غير شرعية في المنطقة . وقد حذت قنصليات روسيا وهولندا والولايات المتحدة حذو القنصلية البروسية – ومن قبلها الفرنسية والبريطانية – في مساعدة اليهود على الاستقرار وتملك الأراضي في فلسطين ..
بدا الاهتمام البروسي في فلسطين يتزايد بشكل مستمر منذ مطلع القرن التاسع عشر ، فبالإضافة الى الإرساليات التبشيرية من بروسيا وباقي الولايات الألمانية أخذ الاهتمام يتحول تدريجيا الى مشروعات استعمارية ( علي محافظة ، العلاقات الألمانية – الفلسطينية ، ص ٩٧-٩٨ ) . ففي الفترة الواقعة بين عامي ١٨٣٥-١٨٣٩ نشر مولتكه Moltke الضابط في الحرس الملكي البروسي سلسلة من الدراسات بعنوان * ألمانيا وفلسطين * دعا فيها الى إنشاء * مملكة القدس * بهدف تحويل فلسطين الى * مركز متقدم للحضارة الأوروبية * كي تصبح نموذجًا اقتصاديًا متطورًا يحتذى به في المنطقة بأسرها . وأشار مولتكه في مشروعه أيضا الى أهمية قيام هذا المركز الاستيطاني في فلسطين كي يشكل منطقة واقية تفصل مصر وروسيا وتحمي المصالح الغربية من أي خطر يتهددها . كما دعا الى ان يتولى عرش المملكة امير ألماني يبعث القيم * الصليبية المسيحية * من جديد ويشجع المسيحيين واليهود على الاستيطان في المملكة متهما المسلمين بالتعصب الأعمى ( المصدر نفسه ، ص ١٠٧ ) .
ومن هنا بدا الألمان في نهاية ستينات القرن التاسع عشر بإنشاء مستعمرات ألمانية في فلسطين اشرف على تاسيس غالبيتها * جمعية الهيكل الألمانية * آلتي تأسست في القرن السابع عشر * كحركة دينية اصلاحيةفي الكنيسة الإنجيلية * الألمانية . وقد باشرت الجمعية نشاطها الاستعماري عام ١٨٦٩ في أعقاب صدور القانون العثماني عام ١٨٦٧ الذي أتاح للأجانب حق التملك في كافة اجزاء الدولة العثمانية . وكانت المستعمرة الأولى التي تم إنشاؤها مستعمرة الهيكليين في حيفا التي ضمت عددا من المستعمرين كان من بينهم مجموعة من اليهود الألمان وقد نقش على مدخل المستعمرة بالألمانية * لتنسني يميني ان نسيتك يا قدس * وهو نفس الشعار الصهيوني : * لتنسني يميني ان نسيتك يا أورشليم * .
ولم يتردد سكان المستعمرات الألمانية عن إقامة علاقات تعاون وثيقة مع سكان المستوطنات اليهودية المجاورة وتبادل الخبرات والمساعدات في مجال الزراعة والتجارة والحرف الصناعية . ومما زاد من تعاونهما اكثر معاداتهما للعرب ورغبتهما في التنسيق فيما بينهما لمواجهة أي خطر عربي يهدد وجودهما .
وقد.اشارت بعض الدراسات الى ان بسمارك تبنى عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين والمناطق المجاورة لخط سكة حديد بغداد برلين . فوجودمستوطنين يهود – في رأي بسمارك – ينعش المنطقة اقتصاديا ويضمن لهولاء المستوطنين السيطرة على المنطقة باكملها . وبالتالي فان المصالح الألمانية لن تتعرض لأي تهديد مباشر طالما ان هناك قوة يهودية تشكل مركز حماية متقدم لهذه المصالح .
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فانها كانت تعلن باستمرار التزامها بسياسة مبدأ مونرو الانعزالي الذي صدر عام ١٨٢١ . الا ان الأطماع الاستعمارية بدأت عدواها تمتد اليها بالرغم من انها قد أحاطتها بهالة دينية إنسانية ، حيث ان الاعتقاد بالبعث اليهودي في فلسطين أخذ يشكل جزءا هاما في اللاهوت الأمريكي المستمد من المسيحية المتهودة للمهاجرين البيوريتانيين الأوائل ممن استوطنوا القارة الأمريكية . وكان من اهم المبشرين بهذا الاعتقاد الممول والرحالة العالمي وليام بلاكستون W. Blackstone (١٨٤٧-١٩٣٥) الذي تزعم حركة نشطة في امريكا لمصلحة اليهود و *عودتهم * الى فلسطين . وقد وضع كتابا عام ١٨٧٨ بعنوان * المسيح قادم * اثار ضجة واسعة في امريكا ،وكان اكثر الكتب المتعلقة بعودة المسيح انتشارا . كما قام بلاكستون بتقديم عريضة الى الرئيس الأمريكي وليام هاريسون William Harrison مطالبًا بإلحاح تدخل امريك * لإعادة * اليهود الى فلسطين وإقامة *دولة الميعاد * . ولعبت القنصلية الأمريكية دورا هاما في حماية أعداد كبيرة من اليهود من ملاحقة المسؤولين العثمانيين لهم بحجة كونهم دخلوا البلاد خلسة وكانت إقامتهم فيها. بالتالي إقامة غير شرعية . وقام العديد من المبشرين الأمريكيين بتقديم يد المساعدة الى المهاجرين اليهود ، فقد وهبت المبشرة الأمريكية مينور Minor ممتلكاتها الواسعة لمنفعة المستوطنات اليهودية وخاصة مستوطنة * مكفيه يسراىيل * . كما قام القنصل الأمريكي كريسون W. Cresson عام ١٨٥٢ بإنشاء مستعمرة زراعية يهوديه لتدريب المهاجرين اليهود على شؤون الزراعة والإنتاج الزراعي ( Sokolow ,Vol 1 ,p. 12 ) .
وفي عام ١٨٧٠ تم تاسيس الجمعية الأمريكية لاستكشاف فلسطين The American Palestine Explofation Sociefy وذلك على غرار صندوق استكشاف فلسطين البريطاني . وقامت ببعض الحفريات في الضفة الشرقية للأردن بالإضافة الى إعداد خريطة دقيقة وشاملة للمنطقة . ولكنها واجهت مصاعب جمة كان أهمها منافسة البريطانيين لها ورغبتهم في الاستثار والسيطرة عليها دون مزاحمة من الأمريكيين أو من غيرهم . وهكذا ظل النشاط الاستعماري الأمريكي في فلسطين في هذه المرحلة متخلفا عن نشاط الدول الاستعمارية الأوروبية الأخرى وخاصة بريطانيا وفرنسا . وبعد مضي ما يقارب نصف القرن من الزمن استطاع الأمريكيون التفوق بأساليبهم الاستعمارية وقدراتهم المالية على غيرهم من الدول سواء كان ذلك في فلسطين أو غيرها .
وهكذا يتضح مما سبق ان عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين تم اعدادها وتهيئتها في محافل الدول الاستعمارية الغربية وخاصة بريطانيا وفرنسا ، اذ وجدت الطبقات الرأسمالية الحاكمة في هذه الدول ان توطين اليهود في فلسطين يحقق لها مكاسب جمة ويخدم مصالحها الاستعمارية . وللوصول الى هذا الهدف كان لا بد للمشاريع الاستيطانية ان تلقى الدعم والتأييد من الأوساط اليهودية نفسها ، فجاء تحرك البورجوازية اليهوديةبمصالحها المتداخلة مع الرأسمالية الأوروبية ، وكان ان تم عن طريقها تحفيز بسطاء اليهود لقبول فكرة الاستيطان في فلسطين . وهكذا كان التحالف الذي توثقت عراه بين البورجوازية اليهودية والرأسمالية الأوروبية مهد الطريق لقيام الحركة الصهيونية … الجسر الذي افرز الحركة الاستيطانية اليهودية أولًا ثم الدولة اليهودية لاحقًا .

قد يعجبك ايضا