من مشاكل الدّيون الخارجية – نموذج الأرجنتين / الطاهر المعز

نتيجة بحث الصور عن اقتصاد الأرجنتين

 الطاهر المعز ( تونس ) الأربعاء 30/5/2018 م …  

تتناول هذه الفقرة وضع الأرجنتين، وهي بلد كبير وغني بموارده وزراعته وصناعته وبتجربته، ولكن المقصود هو مقارنة ذلك بوضع الدول العربية التي تفاقمت ديونها الخارجية، دون أن يرتفع الإنتاج أو الإستثمارات في القطاعات المنتجة، مما يُشَكّل عبئًا ثقيلاً على الأجيال القادمة وعلى استقلال البلدان، ونذكّر أن الإمبريالية والفرنسية والبريطانية تَذَرّعَتْ بارتفاع الدّيون لاستعمار تونس سنة 1881 ومصر سنة 1882




عانى اقتصاد الأرجنتين من الأزمات خلال الحكم العسكري (1976 – 1983)، ولجأت الحكومات اليمينية الليبرالية التي أعقبته إلى الإقتراض الخارجي، بدعم من صندوق النقد الدولي، مع مواصلة نفس السياسة الإقتصادية اليمينية للحكم العسكري، وبلغ الإقتصاد الأرجنتيني حافة الإنهيار بسبب الأزمة المالية التي جعلت الدولة عاجزة عن تسديد مبالغ خدمة الدّيْن العمومي (فضلا عن أصل الدَّيْن البالغ 95 مليار دولارا سنة 2001 وقرابة 100 مليار دولارا سنة 2003)، وبعد خفض الإنفاق العام بنسبة 20% أو حوالي عشرة مليارات دولارا، وخفض رواتب العاملين في دوائر الدولة بنسبة 13%، فتراجع نمو اقتصاد البلاد، أمام ارتفاع الديون وتجميد الأرصدة المصرفية، وتراجع قيمة العملة المحلية بنسبة الثلثين وارتفاع نسبة البطالة إلي 20% من القادرين على العمل، وأصبح أكثر من40% من السكان يعيشون تحت خط الفقر (ارتفعت النسبة إلى 60% سنة 2003)، فانفجرت في كانون الأول/ديسمبر 2001 وكانون الثاني/يناير 2002 موجة احتجاجات ومظاهرات وغضب شعبي امتدّ إلى فئات البرجوازية الصّغيرة (ما تُدْعَى “الفئات الوُسْطى”)، فأطاحت الأزمة بالحكومة، وبدأ نزاع طويل امتد لأكثر من عشر سنوات بين حكومة الأرجنتين وصناديق التحوط الأمريكية بعد إعلان إفلاس الأرجنتين وتوقفها عن سداد ديونها بنهاية 2001، واقترحت حكومة الأرجنتين على الدائنين استرداد جزء فقط من الديون فوافق حوالي 93% من الدائنين، ورفضت صناديق المُضاربة الامريكية (مجموعة إن إم إل كابتال)، لأن القانون الأمريكي يحميها ضد الدّول الأجنبية، وتم انتخاب الرئيس “نستور كيرشنير” سنة 2003 ودعم توقف الدولة عن تسديد الديون، ونجحت حكومته خلال فترة رئاسية واحدة مدتها أربع سنوات من تجاوز آثار الإفلاس، وإنعاش الإقتصاد، عبر تمويل مشاريع التعليم والخدمات الصحية، وتنفيذ برنامج وطني لتحسين مستوي المعيشة لأغلبية السكان الذين أصبح 60% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وتضمّن برنامج كيرشنير (الزوج الذي كانت زوجته كرستينا نائبة في مجلس الشيوخ، قبل أن تُصْبِح رئيسة بعد وفاته الفجئية) إعادة جدولة الديون وتطبيق خطة إنقاذ تقشفية، وتخصيص حوالي مليار دولار لتحسين الخدمات العامة والتي تشمل إسكان الفقراء وإنشاء الطرقات الجديدة، وحوالي8,2 مليار دولار لخلق فرص عمل لإنعاش الاقتصاد، وساعد التعاون الإقليمي اقتصاد الأرجنتين، حيث تشكل تكتل إقليمي للتجارة بين الأرجنتين والبرازيل (التي عاشت أزمة مُماثلة) والأورغواي وباراغواي، وازداد التعاون مع فنزويلا وبوليفيا،، وبعد وفاته انتُخبت زوجته كرستينا فيرنانديز كيرشنير (التي سَبِقت زوجها في مجال العمل السِّياسي) لفترتين متتاليتين، واستكملت البرنامج الذي ساهمت في إعداده مع زوجها (وهو برنامج رأسمالي “كينزي”، أي بتدخّل الدولة عبر زيادة الإنفاق في عملية دفع الإنتاج وتحسين الخدمات)، ليصبح اقتصاد الأرجنتين ثالث أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية وبلغت نسبة النمو 9% سنة 2012، بعد أن كانت النسبة سلبية سنة 2001 و 2002… 
يَطْرَح العديد من النّقابيين والمعارضين (العرب) للسياسات المسماة “ليبرالية مُتَوَحِّشَة” (الرأسمال دائما مُتوحّش بطبيعته) تساؤلات من قبيل: هل يمكن نقل تجربة الأرجنتين إلى مصر أو المغرب أو تونس أو الأردن؟ والواقع إن لكل بلد مُحيطه وظروفه، وإذا كان لا بد من النّضال، فليكن لإرساء نظام مُغاير، تكون الكلمة الفصل فيه للمُنْتِجين مباشرة، من أجل توجيه الإنتاج نحو تلبية حاجات المواطنين ومنع تكديس الثروة، لأنها تتم على حساب عرق المُنْتِجين، وتُؤَدّي إلى إفقار جزء آخر (أكبر حجمًا) من السكان… تزخر الأرجنتين بالموارد الطبيعية وتعتمد في اقتصادها علي قطاع زراعي موجه للتصدير وقاعدة صناعية متنوعة، مما يُمَكِّن البلاد من توسيع قاعدة التبادل التجاري مع الجيران وفي مقدمتهم اقتصاد البرازيل الضّخم، وبقية بلدان أمريكا الجنوبية، ومع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية والشرقية… 
عاد شَبَح الأزمة إلى الظّهور بعد الحملة الشّرِسَة التي قادتها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وصندوق النقد الدولي ضد الرئيسة السابقة (كيرشنير) التي ابتعدت عن الصندوق وإملاءاته، وشملت الحملة المُعادية المترشح للرئاسة الذي دعمته الرئيسة السابقة، ودعمت أمريكا المرشح اليميني ورجل الأعمال (ماوريسيو ماكري) الذي أصبح رئيسًا سنة 2015 وأصبح بمثابة الناطق باسم الحكومة الأمريكية وداعمًا لسياستها الخارجية، ولكن اقتصاد البلاد عاد إلى وضع الركود، شبيه بالوضع السابق لانهيار 2001-2002، وأعلن الرئيس (08/05/2018) عن محادثات مع صندوق النقد الدولي للحصول على خط إئتماني بقيمة عشرين مليار دولار على الأقل لتمويل ميزانية الحكومة حتى نهاية الفترة الأولى من حكمه في أواخر 2019، وكان الحكومة قد عادت إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي الذي فَرَضَ إجراءات تقشفية، مما تسبب في عودة المُظاهرات إلى الشوارع ضد “برنامج الإنقاد وضد التّقشف وضد الحكومة وصندوق النقد الدولي” كما وَرَد في لافتات حملها متظاهرون خلال شهر أيار 2018، في تناقض صارخ مع إشادة “دونالد ترامب” بالرئيس الأرجنتيني وسياساته “الداعمة للسوق الحرة والتي أنعشت اقتصاد بلاده” بعد ارتفاع الدّين الخارجي للأرجنتين خلال سنتين إلى أكثر من 320 مليار دولار، أو 57,1% من الناتج المحلي الإجمالي، وأدى إعلان الرئيس اللجوء إلى خطة إنقاذ مدعومة من صندوق النقد الدولي إلى خروج رؤوس أموال المستثمرين الأجانب، وهروب رأس المال المحلي على الخارج، فتراجعت العملة المحلية (بيزو) وفقدت 25% من قيمتها منذ بداية سنة 2018 ورَفَع المصرف المركزي سعر الفائدة الأساسي إلى 40%، وهو الأعلى في العالم، في محاولة لاحتواء التّضخّم، لكن معدله السنوي ارتفع إلى 25%، مما يعني ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار مع انخفاض كبير في القيمة الحقيقية للرواتب، فيما أعلنت الشركات تسريح عشرات الآلاف من العاملين بسبب الركود، وبدأ أصحاب الشركات الصغيرة ينتقدون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وتطبيق سياسات التقشف التي يفرضها، والتي تعصف بالشركات الصغيرة، لأن الزيادة في أسعار الفائدة تحرمها من القُروض المصرفية، وأعلنت نقابات التّجار انكماش مبيعات التجزئة بنسبة 3% في آخر نيسان/ابريل 2018 مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي 2017، وأصبح الميسورون يستبدلون “البيزو” الذي هبطت قيمته، بالدولار، فانخفضت الودائع المصرفية بالدولار بنسبة 2% خلال الأسبوعين الأولين من أيار 2018، فيما يتذمر المواطنون العاملون من ذوي الدخل المحدود والمتاوسط من الارتفاع الكبير في الإيجارات والمرافق، مما دفعهم إلى الإستغناء عن شراء الأشياء الزائدة على احتياجاتهم الأساسية، ومن بينها العطور أو الملابس أو الأحذية، وفق نقابات تجارة التّجْزِئة… 
البيانات والأرقام من دراسة نشرتها جامعة “توركواتو دي تيلا” في العاصمة “بوينس آيريس” (أواخر نيسان 2018) + دراسة نشرتها شركة الإستشارات “كابيتال إيكونوميكس” (أيار 2018) + رويترز 26/05/18

قد يعجبك ايضا