لعنةُ المُعارضة السّياسيّة ..و” القدَر ” السّوريّ ..” مِن مَأمنِهِ يأتي الخَطَر” / د . بهجت سليمان


 د . بهجت سليمان* ( سورية ) الأربعاء 14/2/2018 م …




* مفكر عربي سوري .. سفير سورية السابق في الأردن …

لا يدخل تاريخُ الدّول و الشّعوب في الماضي ، إلّا بعد أن يكون قد قضى و إلى غير رجعة ، و مع ذلك فإنّ من طبع الوجود الإنسانيّ أن يلتفت المرء إلى ورائه لينظر في قيمة أعماله ساعياً إلى تقويمها ، في ضجيج حاضره الذي يتقاسم فيه التّأمّل مع “الموضوعيّة” ، فيخترق حكمة العقول التي تأتمّ بتجربة الماضي ؛ فيما هي تتطلّع إلى الحاضر في مجراه المقبل إلى الأمام ..

و تاريخ شعبٍ ما ، ليس هو رواية تحكي زمان و مكان الأحداث و الأفعال ، فقط ، أو وصفاً للأفراد و الجماعات ، بل هو جزء من هذا الشّعب ؛ و لهذا نرى أنّ ماضينا يتبعنا .. و ليس لنا ، إِنْ أرَدْنا ، من فكاكٍ منه .

في تاريخ (سورية) المعاصر ، القريب ، كان كثيرٌ من الأحداث و الأفكار و العلاقات .. يشير إلى مستقبل “إشكاليّ” ، على أنّه سوف يكون واقعاً منحرفاً ، و هذا على الأقلّ ..

و ظهرت ، بهذا الخصوص ، منظومات تفكير جزئيّة و كتاباتٌ و مواقف ، و عرفت آراء سياسيّة و اجتماعيّة و فكريّة ، على ندرتها ، تشيرُ إلى مستقبل صعبٍ أو خطر أو مدمِّر ، و بوضوح ..

فيما كانت “الأكاذيب الأيديولوجيّة ” و الأيديولوجيون و المثقّفون ” الثوريّون” ، بالجملة ، تمنح الأمل بمستقبل نقيّ و حيّ في صورة متفائلة كانت ، في حقيقتها ، تخفي وراءها أوضاعاً لمصالح مؤقّتة و آنيّة ، عمل ، من أجل ذلك ، أصحابها على تطريز سِفر المستقبل بكلمات من زهور و ورود ..

في الوقت الذي كان البعض ، القليل ، يقول العكس ، منطلقاً من واقع عمليّ له تأويلات وحيدة مستقبليّة من النّكوص و الارتكاس الشّديدين نحو الحرب : حرب ما .. و لكنْ ليس سلاماً و وئاماً اجتماعييَنِ ، على أيّة حال .

دخلت العلاقات الاجتماعيّة في نفق من الرّياء ، و شكّلت مصالحُ “المستثمرين” السّياسيين عصاباتٍ سرّيّة و علنيّة ، ترتبط في شبكاتٍ منيعة مع أصحاب المصالح الماليّة ، في المجتمع ، مدعومة ببعض أزلام “السّلطة” المتوحّشين بالنّهب و الكسب المتوحش ، و لو على حساب أمن البلد و مستقبله ، انطلاقاً من واقع مهمَلٍ ، و كان واضحاً أنّه بدأ بخطوات واسعة على طريق الجحيم ..

و في الجهة الأخرى كانت ” الحرّيّات ” في أوجها ، تلك التي تعمل على التّحضير السّياسيّ و التّنظيميّ “المسلّح” ، من قبل أعداء الدّولة و “المجتمع” ، و الذي كان واضحاً و مقروءاً لكل من يستطيع أن يفكّ الحرف الاجتماعيّ أو السّياسيّ ، كما يُقال ؛

و لم يكن كلّ ذلك ليشكّل صعوباتٍ في الاكتشاف و التّحديد و التّسمية و التوصيف ..

لأنّه لم يكن يدور في الخفاء و إنّما كان يتفاعل و “ينضج” على الملإِ دون خوف أو قلق من قبل الفئات التي كانت تنشط في اتّجاه التّحضير للمجزرة التّاريخيّة التي نعيشها اليوم ؛

و لقد كان من ضمن هؤلاء “أزلامٌ ” من مواقع المسؤوليّة السّياسيّة الرّفيعة ، سواءٌ منهم الذين يُدركون ما الذي يجري ، أو أولئك الذين كانوا يُدركون ، فقط ، كيف يمكن لهم أن يُبارزوا أو ينافسوا ملّاكي العالم بحجم مجموع الأموال التي يخزنونها ، في حمّى توحّش هدر المال العامّ و الإستخفاف ب حياة الفئات الاجتماعيّة الفقيرة ، هذه التي كانت تعتبر دوماً خارج دائرة الفعل الاجتماعيّ و السّياسيّ ، و التي كان ، في الوقت نفسه ، جزء منها يعيش ، مرغماً ، في فوضى القهر الإراديّ ، فيما كان الجزء الآخر يعيش منتعشاً ، في إطار خطاب تاريخيّ جمعيّ رجعيّ و محنّط و منحطّ و بليد ؛

إذْ كان يكفي بعضها ، و لو على حساب جوعها و قهرها ، أو دونيّتها التّاريخيّة ، أن تمارس “موتها” الصّامت البريء و البطيء ؛

في حين كان بعضها الآخر يكفيه أن يمارسَ طقوسه الرّجعيّة بحيويّة مدهشة و تستدعي التّأمّل العميق في الدّوافع و الخلفيّات و الحوافز و المغريات و الطّموحات ؛

و فيما كان بعضها يعيشُ كمكمّلة جماهيريّة قسريّة خلفيّة لمشاريع الخراب و التّخريب ؛

كان بعضها الآخر يشكّل الجزء العمليّ و المقول من عباراتٍ و خطابٍ و أرضيّةٍ دعاميّة اختياريّة أو مكمّلة لتلك التّنظيمات السّرّيّة و العلنيّة المتّجهة إلى صحارى الحرب .. !

كانت ، إذاً ، هناك ، قسمة أو انقسام استقطابيّ أو شبه استقطابيّ اجتماعيّ و سياسيّ ؛

و كان المشهد العامّ يُبدي أنّ الأشياء كلّها تنذر بخراب مقبل و أكيد ؛

و كان “الجميع” يرى ، و لكنّ غالبيّتهم كانت تُفضّل لو أنّها لم تَرَ أو تعرف ، ذلك لأنّ الأمر كان يُلهيها عن كلبيّتها الماليّة و المصلحيّة ، و لو كان ثمنها تخريب الواقع و المؤسّسات الاقتصاديّة و الإداريّة و السّياسيّة و دحرها نحو الهاوية و نحرها هناك بصمت .

لقد رأى البعض القليل ذلك المشهد المقبل ، على حقيقته الكاملة ؛

و لم يكن ليستطيع أن يكذّبَ الحقائق المشيرة إلى “الاتجاه” التراجيديّ ، كما أنّه لم يكن قادراً على جعل أحد يتعاطف معه لرؤية المشهد على حقيقته ؛

لقد كان من الأفضل ، إذاً ، التّكاذب و الوهم و التّوهّم المفضّلين على رؤية الحقائق على ما هي عليه .

يحتاج نقد ” المجتمع ” و “الدّولة” إلى علومٍ محدّدة و معروفة ، و نادراً ما كان يعمل البعض على هذه العلوم لتحديد مؤشّرات الانحراف و التّخريب المنظّم و المتعمّد ؛

و أمّا إن وجد أحد يستطيع التّعلّمَ و التّعليم ، في المؤسّسات الحكوميّة ، و السّياسيّة ، بخاصّة ، في هذا الصّدد ، فلقد كان يلقى المواجهة الحادّة و التّشنيع بالسّمعة و بالعقل و بالسّلوك ، و بالإقصاء ، و بالمحاربة بلقمة أكله .. و أكل أسرته و أهله و ذويه..

و لقد كان يُحارَبُ ، من قبل جيش من المنافقين و الخونة و العملاء و الجواسيس في “منظومات” متكاملة “التّنظيم” الذي يعمل على اختراق جميع الأنظمة و القوانين ، في عكس جهة سير “القرار السّياسيّ” السّياديّ ، بل و لتفريغه من أيّة قيمة اجتماعيّة أو سياسيّة معبّرة يمكن لها أن تنجم عنه .

لم يكن المشهد سرّيّاً ، و لو أنّه كان يتمّ تصديره بالشّعارات و “الخطب” الثّوريّة ، و المطوّلات الأخلاقيّة .. !

و على الجهة الأخرى ؛ و بالتّضامن التّاريخيّ الذّاتيّ و الموضوعيّ ، الواعي و غير الواعي ، المقصود و المتأتّي بمحصّلته مع الاتّجاه الخاصّ و مع الاتّجاه “العام” لهذه المَرذلة ..

كانت السّياسات الاجتماعيّة تجتمع على تواضعات و اتّفاقات ، ضمنيّة و مكتوبة ، يجمعها كلّ شيء إلّا المصلحة الوطنيّة : بلى ! جمعها الجشع السّياسيّ و الطّمع الشّخصيّ و الطّموح المسعور نحو “السّلطة” ، و جعل “المجتمع” مطيّة لأهدافها المسعورة ، بواسطة تجهيل النّاس و جعلها تعتقد بدينيّة الواجب للعمل على التّخريب و التّدمير و المواجهات الاجتماعيّة و السّياسيّة الشّاملة التي كانت تُرتسم في مستقبل البلاد ، بدافع فتاوى دينيّة و “أخلاقيّة” و اقتصاديّة و قانونيّة و إداريّة عدوّة للإنسانيّة ..

حتّى أنّ الأمر قد وصل إلى شطحاتٍ خرافيّة في تسمية بعض أصحاب المسؤوليّة الإداريّة و القانونيّة في بعض المؤسّسات الحكوميّة ، بِ”المفتي الإداريّ و القانونيّ” و “المفتي الماليّ” .. ، إلخ ؛

و كان من يُطلق هذه التّسميات على “مُستَزلمينَ” عندهم ، و معتمَدين و محبّبين و مقرَّبين و منتفعِين و خونة و طائفيين و قبليين و عنصريين .. ، صنفٌ من المسؤولين يُسمّى بعضهم “وزراء ..!” ؛ حيث كان “أولئك” يحكمون ، تماماً ، هؤلاء !!؟

 

لقد كانت معالمُ و مراسمُ الحاضر و المستقبل تتحرّك على صفيح من الحقد الاجتماعيّ و العداء السّياسيّ للدّولة ، في إطار مشروع واسع للنّهب و السّرقة و التّوسيخ و التّقذير ، في كلّ مكان يُعتبر من مرافق الدّولة أو يمتّ بصلة إلى الشّأن العامّ أو أنّه يُقارب ، و لو مقاربة ، جزئيّة ، و لو كانت مماسّيّة ، للدّولة ؛

كانت أن أصبحت “الدّولة” ، إذاً ، عشيّة الحرب هي العدوّ الحقيقيّ لِزُمَرٍ تتلاعَبُ بالمجتمع كما تتلاعب الرياح بالأشجار ، بينما هو – أي المجتمع بغالبيته – يظنّ أنه في كرنڤال ، و كأنّه بلا عقل و بلا إدراك .

نحن نرسم في ما تقدّم “الخلفيّة” العامّة ، عشيّة الحرب ..

و لكنّ لغرض موضوعنا ، هنا ، و الذي هو أبعد من ذلك بكثير ؛ و لو كانت هذه الخلفيّة في صورة الموضوع ضروريّة باعتبارها مكمّلاً لغرضنا في الحديث .

يتعلّق موضوعنا بتاريخيّة “المعارضة السّوريّة” التي هي جزء غير مباشر من صورة الخلفيّة الاجتماعيّة و السّياسيّة التّخريبيّة التّاريخيّة التي اختارت وجهاً ثانياً من مرذلة المجتمع و الدّولة ؛ إذ أنّ الكثير من القرّاء لم يُعاصروا تشكّل هذه “المعارضات” في التّاريخ اليوميّ ..

و علينا أن نرسم صورة لماضي هذه “المعارضات” لكي يستطيع القارئ ربط المقدّمات بالنّتائج ، و ليختبر بنفسه طريقة تشكّل هذا الواقع المخزي من تاريخ هذه الحرب و تاريخ السّياسة و السّياسيين في المجتمع السّوريّ .

في الجذور التّاريخيّة ، ظهرت ما تُسمّى بِ”المعارضة” السّياسيّة و العسكريّة المسلّحة ، السّوريّة ، في هئية “حزب” ، في ما كان يُسمّى عندها بِ”جماعة الإخوان المسلمين” ؛

و كان ذلك مع تسلّم “البعث” للسّلطة في (سورية) ، مع أوّل جمهوريّة عربيّة سوريّة مستقلّة القرار السّياديّ ، الاقتصاديّ و السّياسيّ ؛

و لقد تبدّى ذلك بأنّ “المعارضة” الأولى التي أخذت شكل “التّنظيم المسلّح” مع عام (1963م) ، إنّما ظهرت كتنظيم مسلّح ضدّ دولة ” البعث” و رموز هذه الدّولة المعبّر عليها في “القطاع العامّ” الاقتصاديّ و الإداريّ ، الذي أنقذ فئات واسعة من الشّعب السّوريّ ، من مجاعات و موت بالجملة ؛

إلّا أنّنا يمكن لنا أن نقول ، و بكامل الاعتقاد ، إنّ الشّكل الذي نشهده ، اليومَ ، للمعارضة السّوريّة ، و خفّتها و مأجوريّتها و حقدها على الواقع و على البشر ، كان أن اتّخذ حالته النّهائيّة منذ أوائل سبعينات القرن الماضي ، و في مواجهة الدولة السورية التي قادها (حافظ الأسد) ..

للحقيقة ، فإنّ العمليّة التّاريخيّة لنشاط “المعارضة السّوريّة” المحموم ضدّ الدّولة في ( سورية) ، كان في إطار مشروع دوليّ يهدف إلى استعادة السّيطرة المخابراتيّة العالميّة على مقدّرات “المنطقة” ، و إذلال المشروع السّوريّ الذي بدا واضحاً بعد (1967م) وتَبَلْوَرَ بعد عام ( 1970/م ) لبناء الواقع و الدّولة و الجيش و القوّات المسلّحة و الوعي الوطنيّ المتماسك من وراء هذه الأهداف الصّريحة ، بعدما تبينّ تعلّق الشّعب السّوريّ بالقضيّة الفلسطينيّة ، على خلاف جميع شعوب المنطقة

 [ انظر كمال ديب . تاريخ سورية المعاصر . ص(483) . ]

و كان (حافظ الأسد ) قد “وقف وحيداً من بين زعماء العرب في جرأته بعد حرب 67 إذ اعتبر أنّ الحرب هي التي تحرّر الأرض ، و هو منطق سوريّ بامتياز .. (…) ؛ فسورية فقط من بين الدّول العربيّة محكومة بالصّراع العربيّ الإسرائيليّ الذي يُهدّد وجودها كلّه ، و هي إذ تصمد في وجه (“إسرائيل”) تمثّل سدّ الدّفاع عن الأمّة العربيّة] .

 [ المصدر السابق . ص(483) .] .

كانت مهمّة “المعارضة” النّاشئة و المنظّمة ضدّ دولة (حافظ الأسد) ، التي هي أوّل دولة وطنيّة سوريّة و قوميّة عربيّة في تاريخ (سورية) ، أن تشغل (سورية) من “الدّاخل” لكي تصاب بضعف خارجيّ يُتيح للصّهاينة أجواء هادئة و ظروفاً حرّة في تحقيق المزيد من استعمار الأراضي الجديدة و بناء المستوطنات “الإسرائيليّة” في (فلسطين) ؛

بالإضافة إلى جعل (سورية) دولة قلقة و غير مستقرّة ، لتلتفت إلى “مشاكلها” و “جرائمها” الدّاخليّة ، فينفسح المجال للصّهاينة لتحقيق أغراضهم ، بعد وضوح أن سورية هي الدّولة “الوحيدة” الجادّة في مواجهة (“إسرائيل”) عسكريّاً .

تشكّلت “المعارضات” الجديدة ، إلى جانب “المعارضة القديمة” لدولة “البعث” و المؤلفة من “الإخوان المسلمين” ، تشكّلت من شراذم “بعثيّة” عمياء وقفت ضد دولة “الحركة التّصحيحيّة” لأسباب “شخصيّة” في الأغلب و ضيّقة الأفق ، بالإضافة إلى الشّقّ الرّاديكاليّ الذي انعزل عن “الحزب الشّيوعيّ السّوريّ” في برنامج عدائيّ للوطن (رياض التّرك) و هو ما سمّي جناح ” المكتب السّياسيّ” للحزب الشّيوعيّ السّوريّ .

ظهرت أعراض الخلاف داخل “الحزب الشّيوعي السّوري” في “المؤتمر الثّالث للحزب” عام (1969) م ؛ و بدأ منذ ذاك تبلور الجناح الانعزاليّ لِ”رياض التّرك” داخل “الحزب” ؛

و مع تفاقم “الخلاف” على أرضيّة الاختلاف على العلاقة مع “الاتّحاد السّوفييتيّ” ، و الموقف من “الدّولة السّوريّة” ، حيث أبدى جناح “التّرك” موقفاً راديكاليّاً و عدوانيّاً إزاء “الدّولة” ، انعقد ما سمّي بِ”المجلسالوطنيّ” للحزب الشّيوعيّ السّوريّ عام (1971) م في أجواء خلافيّة مستعصية قادت إلى الانشقاق النّهائيّ عام (1973) م .

و في الوقت الذي رأت فيه ” الجبهة الوطنية التّقدّميّة ” في سورية ، في ما بعد ، و بخاصّة عام (1979) م ، أن ” تحركات الاخوان المسلمين” هي وسيلة جديدة للضغط على سورية لإجبارها على “الاستسلام” أمام واقع مؤامرة ما سمّي بِ”تسوية كامب ديفيد” ، رأت فيه قوى (“جناح رياض التّرك” من الشّيوعيين) صراعاً من نوع آخر، إلى درجة أنّ”جناح رياض التّرك لم يقم بإدانة ” الإخوان المسلمين ” الذين تحرّكوا في عمليّات اغتيالات لشخصيّات وطنيّة و تأليب لقواها ضد “الدّولة الوطنيّة” ..

حيث تزامن هذا مع توقيع اتّفاقيّة “الاستسلام المصريّ – السّاداتيّ” في (كامب ديفيد) عام (1978) م ؛ و انضمّ (رياض التّرك) إلى صفوف معارضة ” الإخوان المسلمين” ، في تفاهمات و اتّفاقات تواطئيّة في ما بينهما ، بعد أن قدّم (رياض التّرك) أوراق اعتماده لحزب “الإخوان المسلمين” بحفظه للقرآن عن ظهر قلب – حسب ادّعائه – ، إثباتاً لتوجّهه الدّينيّ – الإسلامويّ الصّريح ، و هو “الشّيوعيّ” التّاريخيّ ، و لكن في أكثر الصّور و الأشكال تزييفاً للحقيقة .

في عام (1979) مجرى تحالف صريح ما بين أسوأ معارضة في التّاريخ ، ضدّ الدّولة الوطنيّة ، حيث تشكّل ما سمّي “التّجمّع الدّيموقراطيّ المعارض” أو “التّجمّع الوطنيّ المعارض” ، حيث ضمّ في مكوّناته “المعارضات السّوريّة” الموتورة من “أقصى اليسار المتطرّف” (و الطفوليّ حسب تعبير لينين) و حتّى “أقصى اليمين المتطرّف” ، بما في ذلك “جناح رياض التّرك – المكتب السّياسيّ- للحزب الشّيوعيّ السّوريّ”( حزب الشّعب الدّيموقراطيّ ، حديثاً)، و “حزب الإخوان المسلمين” و ما سُمِّيَ ” حزب البعث العربي الاشتراكي الدّيموقراطي” أو ما سمّي بِ”البعثيين الشّباطيين” ، منضافاً إليهم فلول أحزاب “ناصريّة” راديكاليّة ، و جماعات “ليبيراليّة” جديدة تقوم معارضتها على أسس اقتصاديّة ضدّ نظام “القطاع العام” الاقتصاديّ الحكوميّ ، و مؤلّفة من “بورجوازيين كومبرادوري” و ” بورجوازيّين صغار” ارتبطت مصالحهم الطّبقيّة برأس المال الأجنبيّ ، الغربيّ .

لم تستطع ” المعارضة السّوريّة “، على الرّغم من ذلك ، من تبنّي موقف مشترك واحد ، سوى الموقف العدائيّ للدّولة الوطنيّة السّوريّة ، بحيث عجزت عن إصدار “صحيفة” واحدة مشتركة تعبّر فيها عن موقفها السّياسيّ الواحد و المشترك ، إذ كانت تنخرها الخلافات حول قيادة و زعامة “التّجمّع” ، و على الفوائد الماليّة التي يجنيها كلّ “زعيم” من قادة “التّجمّع” من “المساعدات” و الرّشاوى و المكافآت التّمويليّة العربيّة الرّجعيّة و القوى الغربيّة المعادية لسورية .

اصطدم “التّجمع” ، سياسيّاً ، بحزب معارض يدعو ، أيضاً ، إلى “التّغيير الجذريّ” في (سورية) هو “حزب العمل الشيوعي” الذي كان أسّسه “معارضون” في سبعينات القرن الماضي ، العشرين ، تحت إسم ” رابطة العمل الشّيوعيّ ” ، لتصبح فيما بعد “حزب العمل الشّيوعي” الذي نشط سراً في “ثمانينات” القرن الماضي ؛ فرفض هذا ” الحزب ” أعمال “العنف” من جانب ” الإخوان المسلمين ” ، في الثمانينات ، على رغم الخلافات التي تعصف في صفوفه بشأن مواقف أعضائه ، القياديين ، المختلفة ، و غير المفهومة ، و غير واضحة المعالم ، حتّى اليوم .. ، بالنّسبة إلى الكثير من القضايا الوطنيّة ، بشكل خاصّ !

حتّى عام (2011) م كان “التّجمّع الوطنيّ الدّيمقراطيّ” المزعوم ، هو المُمثّل الوحيد و الأبتر لِ”أطياف المعارضة السّوريّة” ؛

 

و كان هذا ” التّجمّع” – بحسب أعضاء فيه – كياناً خاملاً و مشلولاً ، لا يتوحّد موقفه لا على نظرة سياسيّة أو برنامج سياسيّ واحد ، و لا ، كذلك ، في موقف عمليّ واضح سوى في عدائيّته للدّولة .

ثمّة أحزاب كرديّة ، أيضاً ، كانت تمثّل جهة من جهات المعارضة ، في إطار ما أسمته “التّحالف الدّيموقراطي الكردي” ؛

و في هذه الأثناء ظهرت أنشطة لِ”حزب التّحرير الإسلاميّ” في ( سورية )، و لكنّه سرعان ما قمعته “الدّولة” فاختفى أثره اختفاءً نهائيّاً .

بعد عام (2000) م و انتشار ما سمّي بحركة “ربيع دمشق” ، توالت ” الأحزاب السّياسيّة ” الجديدة في الظّهور ، فكانت أعدادها لا تُحصى و هي موزّعة بين معارضة جذريّة و أخرى مطلبيّة و ثالثة بين هذين الحدّين .

و من أسماء تلك “الأحزاب” ، ظهر حزب “التّجمّع الّليبيراليّ الدّيموقراطيّ” ، و “حزب النّهضة الوطنيّ الدّيموقراطيّ” ، و حزب “التّجمّع الدّيموقراطيّ الحرّ” ، و حزب “تحالف الوطنيين الأحرار” المؤلّف في (حلب) من تجّار و صناعيين يتطلّع إلى لعب دور سياسيّ ، بالإضافة إلى ما سمّي بِ”لجان إحياء المجتمع المدنيّ” التي لعبت دوراً أساسيّاً في ما يُعرف بحركة “منتديات ربيع دمشق ” ؛

بالإضافة إلى “شخصيّات مستقلّة” تنشط في “صفوف المعارضة” و لو كانت تنحدر تاريخيّاً من “تنظيماتٍ سياسيّة” انقرض نشاطها السّياسيّ ، فبقيت تنشط بوصفها “أفراداً مستقلّة” معارِضة ، و تعرف تلك الشّخصيّات بأنّها ” أشخاص مثقفون” ، معارضون !

إلى جانب ذلك ، نشطت معارضات سوريّة في “الخارج” ، بأعداد غزيرة حزبيّة و مستقلّة ، مثل “جماعة الإخوان المسلمين” التي غاب دورها السّياسيّ من “الدّاخل” السّوريّ بعد أحداث الثّمانينات من القرن الماضي ، العشرين ، حيث استقرّت قياداتها في أحضان معلمّيها في ( لندن) ، و هي تعمل ، اليوم ، بالتّنسيق مع ” البعثيّ” السّابق ، المنشقّ ، و نائب الرّئيس السّوريّ السّابق (عبد الحليم خدّام) .

يعمل “الإخوان المسلمين” ، اليومَ ، على ” مجلس تأسيسيّ” سوريّ جديد ، من أجل دستور “دينيّ” ينصّ على أنّ ” دين الدّولة الإسلام” ، و هو – أي الإسلام – المصدر الرّئيسيّ للتّشريع و الحاكميّة و المرجعيّة الأعلى للدّولة .

و من الأحزاب المُشَكّلة في الخارج ، أيضاً ، في صفوف المعارضة ، ما يُسمّى بِ”التّجمّع القوميّ الموحّد” ، بقيادة (رفعت الأسد) ، الذي يخلط في أهدافه السّياسيّة ما بين “القوميّة السّوريّة” و “القوميّة العربيّة” ، بشكل تضيع فيه – ولا تذوب – القومية العربية والسورية معاً .

و في (أميركا) ينشط حزب معارض إسمه ” حزب التّجمّع من أجل سوريا” ؛

و ثمّة “حزب الإصلاح” الذي تأسّس ، أيضاً ، في (أميركا) ، و يقوده المعروف و الغادر) فريد نهاد الغادريّ) ، و الذي تربطه علاقات “قويّة” مع شخصيّات في “الإدارة الأميركيّة” ؛

و في (أوربّا)، ينشط ما يعرف بحزب “التّحالف الدّيموقراطيّ السّوريّ” ،و هو ائتلاف من أحزاب سوريّة ناشئة جديدة من عرب و أكراد ؛

و ثمّة ما يُعرف بِ”المجلس الوطنيّ للحقيقة و العدالة و المصالحة” ، و هو عبارة عن منظّمة سوريّة معارضة تعمل على تقديم مبادرات في “حقوق الإنسان” بشكل رئيسيّ ، و من أشخاصها المعروفين الصّحفيّ السّوريّ غير المُتّزن عقلياً (نزار نيّوف) ؛

و في (الولايات المتّحدة الأميركيّة) أعلنت ، أيضاً ، مجموعة من الشّخصيّات السّوريّة المعارضة و المقيمة في ( أميركا( ، ما سمّي بِ”المجلس الوطنيّ السّوريّ” الذي يُركّز نشاطه أساساً على “تغيير النّظام في دمشق” ؛

كما أنّ هناك “المنظّمة الآشوريّة الدّيموقراطيّة” ، و لكنّها من “المعارضات” التي ترفض العنف في “الحلول السّياسيّة” .

يُضاف إلى “الأحزاب السّياسيّة المعارضة” للدّولة في سورية ، ما يسمّى بمنظّمات “حقوق الإنسان” ، و التي يتراوح مؤسّسوها ، في انتماءاتهم السّياسيّة ، ما بين أشخاص قادمين من “أحزاب” سياسيّة ، “يساريّة” و “قوميّة” و “إسلاميّة” ؛

و هي عديدة و من الصّعب إحصاؤها و لو أنّ منها ما يعرف بالمنظّمة “العربيّة لحقوق الإنسان” و المرتبطة بسميّتها في (مصر) برئاسة (محمّد فايق) رئيس “المجلس القومي لحقوق الإنسان” ؛

و “الجمعيّة السّوريّة لحقوق الإنسان” ، و هي اليوم بزعامة “الخَرِف” (هيثم المالح) ، و مقرّها في سورية ، في العاصمة ، دمشق ؛

و هناك “المنظّمة السّوريّة لحقوق الإنسان (سواسية) ، و التي تأسّست حديثاً في سورية ؛

و هناك ، أيضاً ، “لجان الدّفاع عن حقوق الإنسان و الحرّيّات و الدّيموقراطيّة” و هي التي أسّسها “الصّحفي الممسوس” نزار نيّوف ” ..

و أيضاً ، هناك ، في لندن ” الّلجنة السّوريّة لحقوق الإنسان” ، و هي المقرّبة من جماعة “الإخوان المسلمين” .

و هناك ما يُعرف ، في المعارضات السّوريّة ، بمنظّمة “حقوق الأكراد في سوريا” ماف” .

في الحقيقة ، فإنّ هنالك الكثير الآخر ، أيضاً ، من المعارضات السّوريّة المنتشرة بنشوتها السّياسيّة الخلّبيّة و المؤقّتة و المُخجلة التّكوّن و الأهداف و التّكوين ، في (سورية( و في خارج (سورية) ممّا لم نرَ أهمّيّة توثيقها ، فطوينا الكشح عن تعدادها ، لأنّ ذلك لا يُقدّم و لا يؤخّر ، أمام هذا السّيل “العرمرم” الواهي من المعارضات و المناهضات .. البذيئة التي لا دين لها و لا فكر و لا سياسة و لا أخلاق .

في الحرب ، انضمّ جميع هؤلاء ، في “المعارضات” ، إلى “قوى الإرهاب” في فصائلها العديدة أو التي لا تُعدّ ، أيضاً ، و التي أصبح غالبيّتها معروفاً للجميع ، و ذلك من (داعش) و (جبهة النّصرة) و (الجيش الحرّ) ، و ملحقاتها الإرهابيّة في كلّ مكان ، في سورية ، اليوم .

في تقويم هذه ” المعارضات” فإنّه من غير المجدي أن نتناول كلّاً منها ، كحزب أو كحركة أو كواقعة ، لا سيّما أن “الظّاهرة” ، كلّها ، لم تعبّر عن معارضة حقيقيّة سوريّة في برنامج سياسيّ متكامل ، ليكون الحكم النّقديّ العقلانيّ عليها ممكناً من حيث أداؤها و مصيرها الذي دخلت فيه مع الحرب .

كانت تلك “المعارضات” قد نشأت ، غالبيّتها ، بالعدوى أو بالمجاملات و التّقليد و الطّموح الأرعن لتقاسم منافع البلد عند “سقوط النّظام”(!) كما يحلمون بمختلف عقولهم التي أثبتت أنّها أصغر من عقول الجمادات و العجماوات من الكائنات الحيّة ، و بخاصّة منها المجهريّة و غير المتعضّية ، بعد .

قدّمت “المعارضة” السّوريّة ، بمختلف تنظيماتها و فئاتها و ائتلافاتها و هيئاتها و “منصّاتها” ، أسوأ “عَرْضٍ” سياسيّ لأسقط معارضة سياسيّة في تاريخ الشّعوب الحيّة ، حتّى صارت مناسبات و موادّ جاهزة و مصنّعة للسّخرية و العبث بها و “الّلغبصة ” بأدمغتها في أروقة و أقبية الرّجعيّة العربيّة و الإقليميّة و في بيوتات المخابرات الغربيّة و الأميركيّة بشكل خاصّ ؛

و كانت أدمغتها عاجزة ، و لا تزال ، عن إدراك الدّور الأرعن الذي رسم لها من قبل أعداء سورية في كلّ مكان ، فأدّته أغبى أداءٍ ، بحيث كانت عاجزة حتّى عن إتقان الأدوار المرسومة لها ، بدليل دخولها ، هي ، نفسها ، في ما بينها ، بصراعات و خلافات و تسابقات على الدّونيّة و المسوخيّة التي ولدت فيها قبل و بعد الحرب .

و المفارقة المؤسفة ، هي في أنّ هذه المعارضات استطاعت احتكار ادّعاءها تمثيلها لشريحة هامّة و “وضيعة” من فئات الشّعب السّوريّ ، فصارت بديلاً عنه في “المفاوضات” السّياسيّة التي نشهدها ، اليوم ، مع “الدّولة” السّوريّة ، في (جنيف) و (أستانة) و (سوتشي) ، و ربّما في غيرها ، أيضاً .

ما يُظهره تاريخ “المعارضات” السّوريّة ، على مختلف منابتها و مقاصدها و صفاتها المُخجلة و الذّليلة ، هو أنّ جانباً كبيراً من “المجتمع” في سورية متخلّف ، لا يزال يلهث وراء القوى العربيّة الرّجعيّة و يأتمر بأمرها ، إلى جانب الأوامر التي يتلقّاها من الرّجعيّة الإقليميّة و دوائر الغرب المخابراتيّة التي تعادي جميع شعوب العالم ، بهدف السّيطرة عليه و التّحكّم بمقدراته الحاضرة و المستقبليّة ، لا سيّما منها تلك القوى المعادية للإنسانيّة في الغرب الأوربّيّ و في “الولايات المتّحدة الأميركيّة” .

هذا و لا تُخفي تلك “القوى” في الغرب الرّأسماليّ طموحاتها العلنيّة في ذلك ، كما أن تلك “المعارضات” تفخر علناً بقياداتها الغربيّة و بانصياعها للأوامر الصّهيونيّة في (“إسرائيل” ) و في خارج (“إسرائيل”) ، علناً و من دون أيّة تحفّظات أو حياء سياسيّ و أخلاقيّ .

على جميع الأحوال ، فإنّ للمعارضات العالميّة ، اليومَ ، أهدافاً شبه مشتركة ، في إطار توظيفات غربيّة و رجعيّة و صهيونيّة واحدة ، و بخاصّة في منطقة “الشّرق الأوسط” ، و ذلك من أجل إخضاعه و من أجل المزيد من إخضاعه من قبل “الغرب” الطّامع في حضور دائم في المنطقة لأسباب يطول شرحها ، منها استراتيجيّة هذه المنطقة العالميّة كبؤرة متوسطة بين دول العالم القديم و الحديث ، في الشّرق و الغرب ..

إضافةً إلى سعي رأس المال الغربيّ إلى الحفاظ على مواقعه التّقليديّة من الأسواق العالميّة البكر و المواد الخام الرّخيصة و طموحه المتطوّر في توظيف أمواله في أسواق عمل رخيصة الأجور بالنّسبة إلى مختلف الموارد البشريّة و غيرها من موارد الطّاقة الأخرى ، كما و يضيف محلّلون معاصرون أهميّة “الشّرق الأوسط” لما يحتويه على نسبة عالية من مخزون العالم من النّفط و الغاز ، ولموقعه الإستراتيجي المتميّز ..

لقد كان ، إزاء ذلك و غيره ، أيضاً ، من أسباب ، أن يجد العالمُ الاستعماريّ ركائزَ سياسيّة له في “دول” وظيفيّة تخدم مصالحه و تأتمر بأوامره ، فصنع القوى المرشّحة لذلك ، و لم يكن أمامه أغبى و أتفه من صيغ المعارضات العربيّة و الإسلاميّة ، بخاصّة ، فشجّع بعضها و اختلق بعضها الآخر و ساعد و موّل و نظّم الجميع في قوى إرهابيّة مسلحة لقتال حكوماتها الوطنيّة في مختلف دول هذه المنطقة من العالم .

لقد تكرّست أخيراً و نهائيّاً صيغة “الدّول الوظيفيّة” في المنطقة ، مضافاً إليها هذه “المعارضات” الممسوخة في مهمّات وظيفيّة أيضاً لتكريس واقع تقليديّ لا تخرج منه شعوب المنطقة كلّها إلّا بالموت .. !

يُريد “النّظام العالميّ” تأبيد الصّيغة البدائيّة و المتخلّفة للثّقافة الاجتماعيّة و السّياسيّة في منطقتنا ، و ليس أمامه أفضل من هؤلاء الذي أظهروا خنوعهم و ولاءهم للأجنبيّ في صيغ “المعارضة المعاصرة” في إطار تحقيق مشاريع سياسيّة في دول المنطقة من أجل تكوينها ك”حمير طروادة”(!) ، و استخدامها ضدّ شعوبها و مجتمعاتها من أجل إخضاع المكان و إذلال ساكنيه و نهب أمواله و تجفيف مقدّراته و إلحاقه بالحيوانات ..

و لقد كانت “المعارضات السّوريّة” نموذجاً متقدّماً من الأمثلة الحيّة و العمليّة و المعدية بالنّسبة لمستقبل الآخرين ، حيث شكّلت ما قوامه جسمٌ شاذٌ و غريبٌ عن الوطن ، في الوطن ، و تحوّلت إلى عدوّة للوطن عداءً صريحاً مقابل حفنة من “الدّولارات” .

كان من بين “عدّة الشّغل” في “الورش” و “غرف القيادة و التّحكّم” التي ظهرت و كرّست من أجل الحرب على سورية ، و في حقول التّعبئة و التّدريب ، كانت ثمّة أيديولوجيا قديمة جديدة ، كإعداد “ثقافيّ” و “سياسيّ” لهؤلاء “المرتزِقة” من “المعارضات” السّوريّة ، فأطلق الغرب جملة من “الشّعارات” القابلة لتصبح خطاباً مباشراً و سريعاً في التّكوّن ، مضمونه إعداد هؤلاء ليكونوا أعداءً لمجتمعاتهم و دولهم ، عن طريق إظهارهم بمظهر “التّحضّر” السّياسيّ مردّدين مصطلحات عن “الحرّيّة” و “الدّيموقراطيّة” و “حقوق الإنسان” ؛

و يظهر ذلك في بعض خطابات هؤلاء الشّعبويّة ، كما يظهر في العناوين التي حملتها “تنظيماتهم” السّياسيّة الممسوخة ، كما رأينا في أسمائها ، أعلاه ، من بريق خادع للأغبياء ، فيما لم يتمكن هذا الخداع من أن ينطلي على أبسط المواطنين السّوريين الشّرفاء الذين قاوموا هذه “الظّاهرة” ، ظاهرة المعارضات السّوريّة السّخيفة ، بكلّ القوى الاجتماعيّة و الوطنيّة ، لتقطع الطّريق على تلك “المعارضات” المأجورة ، و قد استطاعت أن تفعل ذلك ، لتعرّي تلك “النّفايات” السّياسيّة التّاريخيّة ، تعرية مباشرة أثبتت معها قوى المجتمع وعياً متقدّماً على تلك “المعارضات..

غير أنّه ، و على رغم ذلك ، فإنّ تلك “المعارضات” قد لاقت لها بعض الآذان الصّاغية التي فعّلتها في عصابات القتل و الإرهاب و التّدمير و التّخريب الاجتماعيّ و ما زالت إلى اليوم ، بحيث عزّزت لها مواقع “إرهابيّة” مسلّحة أجرمت بحقّ المواطن السّوريّ المدافع عن مكتسباته الاجتماعيّة و السّياسيّة و عن نظامه السّياسيّ بإيمانٍ و ثقة بالنّصر .

من جانب آخر ، فلقد تعاضدت “المعارضات” السّياسيّة السّوريّة مع آلات القتل البشريّة التي استوردتها الأموال النّفطيّة و الرّجعيّات العربيّة و الإقليميّة مع دوائر الغرب الإمبرياليّة ، و بتنسيق مع هذه الجهات الأجنبيّة ، من أجل قتل الشّعب السّوريّ بالجملة ، في إطار ما أسمته “الثّورة” ؛

فأضافت إلى إشكاليّات وحدة الهويّة الوطنيّة ، و إلى عوامل عدم الاندماج الاجتماعيّ في المجتمع السّوريّ ، تمزيقاً جديداً لوحدة هذا “المجتمع” ، و كرّست الوقائع التي كانت و ما زالت تحول دون الاندماج النّهائيّ للمجتمع ، هذا الاندماج الذي يُعدّ شرطاً أوّليّاً لتحقيق التّنمية الاجتماعيّة و تفتّح “الدّيموقراطيّة” في مناخ سليم و صحّيّ ..

بدلاً من أن يتوهم الجميع أنّ “الدّيموقراطيّة” يمكن لها أن تتحقّق في إطار الجريمة الثّقافيّة و الاجتماعيّة الدّمويّة ، أو في إطار التّفتيت الاجتماعيّ القبليّ و الدّينيّ و الطّائفيّ ، و سائر الأشكال العنصريّة الأخرى التي تظاهرت في أتون هذه الحرب .

فالدّيموقراطيّة تكون نتيجة لمجتمع صحّيّ و سليم في علاقاته الثّقافيّة ما بين فئاته المختلفة و أطرافه المتفاوتة النّمو الثّقافيّ و الحضاريّ ، و ليست سبباً لهذا ” النّموّ السّياسيّ” في ثقافات الجماعات و الأفراد ، حيث من المعلوم أنّ تحقيق الفائض السّيكولوجيّ الاجتماعيّ و المراكمة الأنثروبولوجيّةالمتقدّمة و ما ينتج عنهما من “ثقافة” اجتماعيّة سياسيّة ، هي الشّروط التي لا بدّ منها للوصول إلى علاقات اجتماعيّة سياسيّة معاصرة تمهّد الأرض أمام خطوات التّطور الاجتماعيّ العامّ و خلق الفرص لعلاقات العمل الصّحيحة و ذات الأهداف العموميّة الواحدة ..

ما يجعل من الدّيموقراطيّة و التّنمية شرطين متلازمين و أوّليين لكل تحوّل اجتماعيّ مؤسّساتيّ يوطّد من ثقافة “المؤسّسة” نفسها ، في الدّولة و في المجتمع ، ليجعل منها بيئة طبيعيّة لتطوّر المعطيات الواقعيّة في إطار الأهداف الملحّة على الشّعوب التي لم تحقّق ، بعد ، فرص الحياة العادلة من أجل التّقدّم في وضعها البشريّ و الإنسانيّ الشّامل .

لقد اخترقت “المعارضاتُ” السّوريّ ما كان يتوالد بتواضع و خجل من وحدة وطنيّة ، اجتماعيّة و سياسيّة ، من أجل بيئة ثقافيّة واحدة أو مشتركة ، فسدّدت رصاصة الرحمة إلى صدر الحياة المشتركة للسّوريين لتمزّق بها لحمة جسد “المجتمع” ، و أطلقت رصاصة أخرى في دماغ “الثّقافة” العامّة التي كانت تجهد في سبيل الانتقال من مجتمع “القبيلة” إلى واقع “المؤسّسات” ، السّياسيّ ، الضّامن للمجتمع المتطوّر و المفتوح .

في الطّور السّياسيّ الذي تشهده هذه المحطّة من “الحرب السّوريّة” ، تنبري “المعارضات” السّوريّة لتقدّم أوراق اعتمادها من جديد للرّجعيّة العربيّة و الإقليميّة ، و إلى “الأجنبيّ” الذي تظنّ أنّه قادر على خلق شكل الدّولة السّوريّة الجديدة ، متجاهلة إرادات الأفراد و الجماعات الوطنيّة السّوريّة التي يحقّ لها ، وحدها ، أن تمارس حقّها في اختيار واقع “النّظام السّياسيّ” للدّولة المعاصرة في سورية ..

وواصَلَت تقديم أوراق اعتمادها إلى كُلّ غادٍ و بادٍ من أعداء سورية ، بما في ذلك ” إسرائيل ” .

و تجهد ” المعارضات ” بكلّ الدّعم الذي يسندها من مموّليها و مشغّليها لتشرخَ ، من جديد ، واقع المؤسّسات السّوريّة شرخاً بنيويّاً سياسيّاً ، بعد أن مزّقت بنية المجتمع ، و أعادتها إلى الخلف عشرات من السّنين ..

و في هذه الأثناء لا تدّخر صنوف هذه “المعارضات” جهدها في سبيل تكريس ثقافة “البداوة” السّياسيّة في جسد الدّولة ، عن طريق أوهام “جمعيّة تأسيسيّة” ، جديدة ، لسوريّة ، و كأن (سورية ) واقعٌ وهميّ تُعوِزُه أبسط مفاصل النّظام السّياسيّ ، متناسية أنّ “الدّولة الوطنيّة” في (سورية) هي نتاج نضالات تاريخيّة مديدة ، و أنّ الدّماء التي أهرقت في هذه الحرب من قبل أبطال الجيش العربيّ السّوريّ ، إنّما كانت للحفاظ على مؤسّسات الدّولة و “النّظام” ، و هذا قبل أيّ سبب آخر استدعى هذه التّضحيات .

ما زالت “الدّولة” تنظر بعين “الواقعيّة السّياسيّة” إلى مظاهر هذه “المعارضات” ، متجنّبةً أيّ شكلٍ من أشكال “الانتقام ” أو “الثّأر” الّلذين يمكن أن يترتّبا على مواقف المعارضات الحاقدة و الّلئيمة نحو المجتمع السّوريّ و فئاته و مؤسّساته التي صمدت ، عنوة ، على طول تاريخ هذه ” الحرب ” ؛

إلّا أنّ هذا الأمر لا يعني ، مطلقاً ، أنّ قطعان هذه “المعارضات” قادرة على فرض شروطها السّياسيّة على مستقبل العلاقات و المؤسّسات السّياسيّة الدّستوريّة الجديدة .

و إذا كان “البلد” قد ابتلي بهذه الّلعنة التّاريخيّة التي جسّدتها “المعارضات” السّوريّة كأنذل و أحطّ أنواع “المعارضات” السّياسيّة ، في التّاريخ ؛ فإنّ هذا الأمر لا يمكن أن يمنع “الدّولة” من التّطلّع إلى وضع حدّ لهذه الحرب عن طريق حلول “سياسيّة” كما يُسمّيها “الدّبلوماسيّون” ..

وإذا كان الوقت قد “حان”(!) من أجل “الحلّ السّياسيّ” ، فما من قوّة “عالميّة” أو “دوليّة” تستطيع الوقوف في وجه حلّ كهذا أو حلول .

نحن ، في الحقيقة ، من غير النّاظرين إلى “الحلّ السّياسيّ” العتيد ، على أنّه أولويّة ملحّة أو ملحّة جدّاً أمام “المجتمع الدّوليّ” ؛ إلاّ بما يُمَكّنُ أقطابَ ذلك ” المجتمع الدولي ” من وضع اليد على سورية .

و إذا كنّا نعتبر هذا الرّأي رأياً شخصيّاً لا يُعبّر إلا عن قراءتنا ، نحن ، لتطوّرات الأحداث ، سواءٌ على “الأرض” أو في “محافل” السّياسة و كواليس “الدّبلوماسيّة” ، فإنّ الكثير من الماء البارد يجب أن يُصبَّ على أدمغة “المعارضات” من أجل إطفاء نار النّشوة التي يعتقدون بأنّهم يتمتّعون بها على أشلاء و فوق دماء الشّهداء و الضّحايا السّوريين الذين راحوا ثمناً لمأجوريّة “المعارضات” و خياناتها و عمالاتها المنظّمة .

و من “الواقعيّة” أن نقرّ بضرورة إشراك جميع الّلاعبين السّياسيين و جميع العابثين بدماء الأبرياء ، إلى حينٍ ، من مختلف صنوف “المعارضات” السّياسيّة السّوريّة ؛

إلّا أنّه من غير الواقعيّ و من غير الصحيح ، الاستهتار بكلّ الأثمان التي تكبّدها الشّعب العربيّ السّوريّ ، من الأرواح و الأجساد و الأمن و الأمان .. إلخ ؛ بحيث نقبل بحلولٍ يُريدها “هؤلاء” المعارضون .. مفصّلة على قدودهم المتوحّشة أو على خيالاتهم المريضة أو على طموحاتهم المسعورة .

لقد أضحى الشّعبُ السّوريّ في مرحلة متقدّمة من ” الصّبر ” و تعوّدَ القهر و تحمّل الألم في استبداد هذه ” المَنيّة ” و سعارها الذي أضرمته ” المعارضات ” و أصحابها في المنطقة و في الإقليم و في العالم ..

و ينتظر المجتمع السّوريّ ، بغالبيّته “المنسجمة” .. حلّاً سياسيّاً يليق بتضحياته و صبره و آلامه الطّويلة ، في “دستور” علمانيّ لائق بمجتمع جريح ، و في مؤسّسات ضامنة لحياة و كرامة الجميع في هذا البلد ، من مختلف الفئات و العناصر المجتمعيّة و القوى الوطنيّة الشّريكة بالصّمود .

و إذا كان على “الدّولة” ، و لا بدّ ، قد ترتّبت ، من خلال الظّروف المختلفة ، ضرورة معاملة هؤلاء “المعارضات” ، معاملتهم كمواطنين(!) ، و هذا قدر هذه “الّلعنة” التّاريخيّة السّوريّة ..

فإنّ الأمر لا يدخل في فروض الإلزام و القهر ، أن نُقَدِّمَ تنازلاتٍ سياسيّة ، أو غيرها ، في سبيل إرضاء أيّ جشع سياسيّ أو ماليّ قامت من أجله “الحرب” أو استعرت في أواره ، على وقع “إرادات” أسياد ومُشَغّلي تلك المعارضات المرتزقة التي ضربت أفظع الأمثال في احتقار دماء الضّحايا السّوريين و إنهاك معيشة الأحياء المواطنين ، و العمالة للأجنبيّ ..

إنّ بناء و عمران ( سورية ) المستقبل قدرٌ لا مفرّ منه ، و لكنّه لا يقوم ، و لا في أيّ جانبٍ منه ، على نوايا هؤلاء المجرمين ، لأنّ من أشعل هذه الحرب ، لا يهمّه ، حتماً ، كيف يُبنى ما دمّرته الحرب ؛

هذا و لن يقدّم هؤلاء أيّة مساهمة في بناء “سورية الغد” و المستقبل ، إلّا على الأساس الذي انطلقوا منه ، عندما أعلنوا الحرب على المجتمع و على الشّعب و على الوطن و على الدّولة و على “الجميع” ..

و سيذكر التّاريخ الذي سيكتبه “الصّابرون” النّاجون من هذه الحرب ، أنّها كانت شتيمة من قبل الأقدار و صفعة وجّهها التّاريخ إلى السّوريين ، هذه الحرب ، جرّاء عدم احتراس العقل السّياسيّ والإجتماعي والامني والثقافي السّوريّ من مفاجآت الجهل و التّخلّف و العمالة و الإجرام التي تنتشر في كلّ منعطف سياسيّ تمرّ فيه هذه البلد كجزء من أقدارها المكتوبة في الخلود ؛

و لذلك فإنّ على ” العقل” السّوريّ ألّا يُكرّر افتراض المأمن في قلب الخطر ، مع أنّ ” المثل العربيّ” يقول أبعد من هذا ، إذْ أنّه ” من مأمنه يأتي الخطر”..

و إنّه قدرنا في ( سورية ) أن تكون لنا هكذا “معارضة” !! أو أن تكون لنا هذه ” المعارضات” !!..

قد يعجبك ايضا