نظرية “الثقافة الإجتماعية” أو “البناء الإجتماعي” – دَور اللغة في التعليم / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الثلاثاء 10/5/2022 م …  

تختلف مناهج التعليم بحكم اختلاف المجتمعات واختلاف الموارد والأهداف التي تُحَدّدُها الحكومات، وتهتم برامج التعليم عمومًا بتعليم القراءة والكتابة للصغار وفك الرّموز وحل المسائل الرياضية واكتساب مجموعة من المهارات والقدرة على التفكير والإستنتاج، والقُدْرَة على التّوسُّع والبحث، في مراحل التعليم الجامعي، كما يمكّن التعليم من التّأهيل واكتساب مهنة والحصول على وظيفة…




تبحث عُلُوم التربية في كيفية التّعلُّم والفهْم، والتّدرّج في اكتساب المهارات، والرّبط بين المُجَرَّد والمَحْسُوس، وتطوير القُدُرات، ما قد يُنَمِّي حب الإكتشاف والاستطلاع، في إطار المُؤَسَّسَة التّعْلِيميّة أو خارجَها.

تنطلق المَدْرَسة من مكتسبات الطفل التي تعلّمَها منذ الصّغَر، من خلال الملاحظة وتقليد الكبار وتخزين المعلومات والمَعَارِف في الذّاكرة، أي تنشيط الدّماغ، وتنمية المكتسبات، ويُعتَبر الباحث السويسري “جان بياجيه” ( Jean Piaget– 1896 – 1980 ) من مُطَوِّرِي نظريات التّدرّج المَعْرِفِي حيث قَسَّم عملية التّعَلُّم وتطور الإدراك إلى عدّة مراحل، ارتبطت كل منها بمرحلة من النّمُو، من الولادة ومرحلة الحَرَكَة الشُّعُورِيّة إلى المُراهَقَة ومرحلة النّضْج والقُدْرة على التّجْرِيد، ويُعاب على “بياجيه” عدم اهتمامه بالبيئة الإجتماعية والإقتصادية للمُتَعَلِّمِين، والتي يُمكن أن تُشكّل عقبة هامة أمام المُتعلِّم والمُعَلِّم، لأن عملية التعليم تتم ضمْنَ سياق تاريخي (زماني) ومكاني واجتماعي، حيث تتفاعل المدرسة، أو منظومة التّعليم، مع المُحيط، لكي يستوعب التلميذ المعارف الجديدة، انطلاقًا من مكتسباته المعرفية السابقة….

كانت شُهرة ليف سيمكوفيتش فيغوتسكي 1896 – 1934 (الإتحاد السوفييتي)، الذي تُوفِّيَ في سن مُبكّرة، تُضاهي شهرة “جان بياجيه”، رغم عدم ترجمه سوى القليل جدًّا من أعمال “فيغوتسكي” من الروسية إلى الإنغليزية، بعد وفاته، ولم يلتق الرجلان، ولكن اختلف فيغوتسكي مع فهم بياجيه للتعلم والتطوير، حيث أكد بياجيه أن الكلام المتمركز حول الذات لدى الأطفال “يتلاشى” مع نضوجهم، بينما أكد فيغوتسكي أنه لا يتلاشى، وإنما يُصبح داخليًا، أي إنها عملية التّفكير الهادئ، وكان “فيغوتسكي” قد اهتم في سنواته الأخيرة بنمو التفكير واكتساب المعرفة لدى المُراهقين…

تتمثل المهمة الأساسية للمُعَلِّم في اختيار المنهاج المناسب لتحفيز المُتعلِّم ومُساعدته على تركيز الإنتباه من أجل اكتساب المعلومة ومُعالجتها وتنظيمها، بهدف استرجاعها وإعادة استخدامها عند الحاجة، وتَتَيَسَّرُ عملية التّعلُّم والفهم والإستيعاب، وتبلغ أهدافَها عندما تقترن بالمُتْعة وبالمَرَح تطبيقًا لمقولة “عَلِّم الأطفالَ وهم يلعبون”، بدل التهديد والعُقُوبة، وتُساعد بعض التطبيقات التربوية على التّعلُّم بواسطة إنشاء مجموعات صغيرة من التلاميذ يتفاعل أعضاؤها ويتعلّمون مَعًا، ومن بعضهم البعض، وهذا يتطلب بيئة مدرسية (قاعات ووسائل وأدوات بيداغوجية ووقت…) واجتماعية لا تتوفر في معظم البُلدان العربية.

 

لمحة عن نظرية “الثقافة الإجتماعية” أو “النّمُوّ النّفسي الإجتماعي”  

تأثَّر الباحثون في مجال عُلُوم التّربية بالنّظرية الإشتراكية، ومن أشهرهم الأديب والخبير في علوم التربية “أنطون سيمونوفيتش ماكارينكو” (1888 – 1939) الذي أنشأ، مع مجموعة قليلة من المُرَبِّين، مأوى للأطفال الذين شرّدتهم الحرب الأهلية في روسيا، بعد ثورة 1917، والحِصار الإمبريالي، وتميّز “ماكارينكو” بتأسيس نظرية ومنهج تربوي، يراعي المُحيط، أي المجتمع الخارج من حالة الحرب ومن حالة الثورة والحصار الإمبريالي، فشملت نظريته ومنهجَهُ التّربوي المحيط البشري والجوانب المتعلقة بحياة الأطفال، ومنها التعلُّم واللعب والحُب والعمل، وحاجتهم إلى الأُسْرة والمجتمع، وطَبَّقَ هذه النّظرية، عبر تأسيس “مُعسْكر” لإيواء أطفال الشوارع، والجانحين من القاصرين، بهدف إعادة تأهيلهم، عبر التّعليم والعمل، والإبداع الفَنِّي، ويعود الفضل لهؤلاء الأطفال والفريق التربوي في تطوير آلات التصوير الروسية… من جهة أخرى يشترك الأطفال والفريق التربوي، في تنظيم الحياة الجماعية في المُعسكر أو المُخيم، ولخّص “ماكارينكو” نَظَرِيّتَهُ وخلاصة تجاربه (مع الفريق التّرْبَوي) في كُتُبِه، وأهمُّها وأشهَرُها كتابه الضّخم “قصيدة تَرْبَوِيّة” (1935)، و “كتاب للأبَوَيْن” (1937)، و “رايات (أو أَعْلام) على أَبْراج”، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء، كَتبه “ماكارينكو”، سنة 1938، قبل سنة واحدة من وفاته، سنة 1939، في حادث قطار، ونُشر الكتاب بعد وفاته، وأصبح ماكارينكو عُضْوًا في اتحاد الكُتّاب السوفييتيين، سنة 1934

كان “ليف سيمكوفيتش فيغوتسكي” ( 1896 – 1934 ) طبيبًا نفسيا، مُعاصِرًا لماكارينكو وللثورة البلشفية، ويرى “فيغوتسكي” أن التفاعل الاجتماعي هو العامل الأساسي في التطور الإدراكي عند الطفل، وترتكز نظريته للتطور المعرفي على دَوْر المجتمع ومساهمته في تنمية الفرد الذي يتفاعل مع مُحيطه البشري (المُجتمع) لتطوير المهارات والاستراتيجيات، ويقترح على المُعَلِّمِينَ استخدام تمارين التعلم التي تعتمد على هذا التفاعل الذي يُشكل أحد عناصر النّمو العقلي، إلى جانب اللغة والثقافة، وتجدر الملاحظة أنه يتم تدريس الرياضيات والعُلُوم في جل البلدان العربية بلغة أجنبية، لغة المُسْتَعْمِر، وهل ليست من ثقافة الطفل ولا من مُحيطه الإجتماعي، ما يُعرْقِلُ عملية التّعلُّم ونمو الأطفال والمُراهقين العرب، فاللُّغة هي أساس التّعَلُّم، فالعديد من العمليات الذّهنية كالقراءة والكتابة والعمليات الإدراكية والعقلية والتفكير والمنطق والاستدلال، قائمة على اللغة، واللغة أساس النمو المعرفي والتفاعل الاجتماعي، وكان فيغوتسكي قد درسَ بعمق العلاقة بين “التّعلُّم” والتفاعل مع البيئة، أي المُجتمع، واكتساب المعرفة عن طريق السلوكيات والانشطة والمناقشات والتعاون والثقافة، واستنتج أن اللغة أداة فعالة وأساسية للتكيف الفكري ، وهي أداة أساسية لنقل المعلومات داخل الأُسْرة أو في المُجتمع أو في المدرسة…

عمل ليف فيغوتسكي (Lev Vygotsky) ، سنة 1924 في معهد علم النفس بموسكو، واشترك في تطوير برامج تعليمية، ومنها خاصة تعليم الأطفال الصم والبكم، وكان مُشاركا مع ألكسندر لوريا وآن لينتيف في تأسيس “نظرية الثقافة الاجتماعية” والتي لم تعرف في الغرب، ولم تنشر قبل سنة 1992.

أكَّدَتْ نظرية الثقافة الاجتماعية لفيغوتسكي على مبدأ المشاركة داخل المجتمع (المُمارسة ) والتشجع على المشاركة والتعاون، من أجل تطورالمجتمع ككل، وتؤكد هذه النّظرية أن البشر هم الجنس الوحيد الذي يصنع الثقافة التي تُعتَبَرُ المحدد الأساسي لنمو الفرد، فالطفل يتأثر بثقافة مُحيطِهِ ويتطور انطلاقًا من المعارف التي اكتسبها من العائلة ومن المُحيط والمُجتمع، ويشمل ذلك اللغة وعملية التفكير والتطور العقلي التفكير، وهو ما يُسميه فيغوتسكي “التفاعل الإجتماعي” الذي يُطَوِّرُ عملية الإدْراك للمُتعَلِّمِين، مُعتَبِرًا أن عملية التعلُّم في المدرسة تعتمد على السياق المعرفي للمجتمع، الذي ينشأ من خلال اللغة (التخاطب والقراءة والكتابة) ومن خلال الأدوات البيداغوجية والفُنون، ويتمثّل دور المُعلّم في اختيار أو ابتكار الوسائل وأشكال التّدريس، لِربْط المعارف التي اكتسبها الطفل في محيطه، بالمفاهيم العلمية، والإنطلاق من المَحْسُوس إلى المُجَرّد، في عملية تجاوب بين المدرسة والمُحيط أو المُجتمع…     

وجب التأكيد على أهمية اللغة في نظرية فيغوتسكي، فاللغة تعزز الثقافة والنمو المعرفي، وهي أهم أداة لتعلُّم المفاهيم العِلْمِيّة للأطفال، وما على برامج التعليم سوى الإنطلاق من مكتسبات الطفل، فالطفل قادر في سن الرابعة على تصنيف الأشياء أو الأشخاص عبر عدد من الصِّفات، ثم يبدأ في تصنيف الأشكال ومنها الأشكال الهندسية، وتُخزن ذاكرة الطّفل خصائص الأشياء، لاستخدامها في سن لاحقة (حوالي الثامنة) في تنمية القُدْرة على التّجْرِيد، أو الربط بين الحِسِّي (المحسوس) والمُجَرّد ، وهو ما طوَّرَهُ علم النفس بالإتحاد السوفييتي في السنوات الأولى للثورة البلشفية، وبدأ تطبيقه في مؤسسات التعليم، انطلاقًا من مبدأ أن تنمية الفرد تجد جذورها في السياق الإجتماعي والثقافي للمُتَعَلِّم، فالطفل يتأثر حتمًا بالبيئة التي كَبُرَ ونما داخلها، وتُؤثِّرُ على جريقة ومُحتوى تفكيره …     

قد يعجبك ايضا