دراسة هامة … مسألة “الأقلّيات” في العالم العربي – بلاد الشام والعراق نموذجاً / علي حميّة

الأردن العربي – الأربعاء 27/4/2022 م …

تتناول هذه الدراسة موضوع الأقليات والمهمّشين وحقوقهم ومشكلة التعصّب عموماً، في العالم العربي، لاسيّما في بلاد الشام والعراق. مبرّرات الدراسة كثيرة، وتستجيب لحاجة قومية راهنة، خصوصاً في هذه الحقبة من تاريخ المشرق العربي الحديث.

تتناول هذه الدراسة موضوع الأقليات والمهمّشين وحقوقهم ومشكلة التعصّب عموماً، في العالم العربي، لاسيّما في بلاد الشام والعراق. مبرّرات الدراسة كثيرة، وتستجيب لحاجة قومية راهنة، خصوصاً في هذه الحقبة من تاريخ المشرق العربي الحديث، حيث تتألب على شعوبه قوى دولية وإقليمية ذات نفوذ واسع ومطامع كبيرة، مستغلّة حال الإنقسام الطائفي والمذهبي والإثني، وتنبعث، في اللحظة ذاتها، الجماعات المتطرّفة من أوكارها، نابشة أحقادها الدفينة، ململمة صفوفها، مستفيدة من حال الإستياء الشعبي المتعاظم جرّاء تدهور الحال الإقتصادية- الإجتماعية المزرية، منذرة بعواقب وخيمة.

وعليه، تصبح المواطنية العلمانية- كما سيجيء في البحث – خيار مجتمعنا وخيار كل المجتمعات متعدّدة الطوائف والإثنيات- إذا ما قرّرت الخروج من المأزق الطائفي والإثني المؤدّي- حتماً – إلى الإنتحار الجماعي، والشروع، تالياً، في بناء الوحدة الإجتماعية – الروحية على قاعدة المواطنية، قاعدة البناء الجديد في الدولة المدنية الحديثة.

مشكلة التعصّب الديني والإثني

إن التعصّب الطائفي والعنصري (الإثني) هو إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه العالم العربي – خصوصاً بلاد الشام والعراق – في العصر الحديث. هذه المعضلة التي تغرق المجتمعات العربية في أتون الإنقسامات الداخلية، وتعرّض شعوبها للتمزّق النفسي والروحي والإجتماعي، وتعيق التطوّر السياسي والإقتصادي والثقافي، تشرّع أبواب العالم العربي- على مصاريعها – للتدخلات الأجنبية التي تجد في هذه الإنقسامات تربة خصبة لحشر أنفها ، في كل كبيرة وصغيرة.

في بلاد المغرب العربي تتجلّى هذه المعضلة في الإنقسام الإتني بين بربر – وهم أبناء البلاد  الأصليّون – وعرب استوطنوا المنطقة إبّان الفتح الإسلامي لأفريقيا الشمالية – أو هكذا تُصوِّرالأطراف المعنية الأمر.  وفي حوض النيل (مصر والسودان) الإنقسام على نوعين: إثني بين عرب وأفارقة زنوج، وطائفي بين مسلمين ومسيحيين. وفي الجزيرة العربية الإنقسام طائفي بين وهابيين وشيعة وزيديين. أما في بلاد الشام والعراق، أي مجموعة دول الهلال الخصيب، فالإنقسام أشدّ وأعمق. إنه انقسام، أفقي وعمودي، إثني وطائفي ومذهبي، في آن.

وإذا كان الوضع في المغرب العربي والجزيرة العربية يراوح بين الثابت والمُتحوّل نظراً إلى حداثة عهد الدعوات الإعتراضية الإنفصالية هناك – على اختلاف عناوينها وشعاراتها – فإنه منفلت في دول حوض النيل العربية حيث السودان انقسم بين شمال وجنوب، وأقباط مصر منكفئون – لأسبابهم – داخل متّحداتهم الإجتماعية ومنعزلون – إلى حدّ كبير – عن مجرى الحياة المصرية العامة، وأعداد كبيرة منهم هاجرت وآخرون ينتظرون دورهم.

أما الوضع، في مجموعة دول بلاد الشام والعراق، فمختلف تماماً نظراً إلى حدّة الإنقسامات الداخلية وتعاظم النفوذ الصهيوني واشتداد الضغط الدولي والإقليمي. يضاف إلى ذلك أن القوى الإقليمية (تركيا والسعودية ومصر وإيران) ذات الأطماع التاريخية في المنطقة، تتدخّل في شؤونها الداخلية عبر بوابة الإنقسامات المذهبية والعنصرية.

إن التعصّب الطائفي والعنصري (الإثني) هو إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه العالم العربي – خصوصاً بلاد الشام والعراق – في العصر الحديث. هذه المعضلة التي تغرق المجتمعات العربية في أتون الإنقسامات الداخلية، وتعرّض شعوبها للتمزّق النفسي والروحي والإجتماعي، وتعيق التطوّر السياسي والإقتصادي والثقافي.

إن بلاد الشام والعراق – اليوم – هي في قلب العاصفة، والهجمة السافرة التي تستهدفها مزدوجة: إنها هجمة غربية – صهيونية إعتدائية، من جهة، وهجمة عربية – إقليمية متواطئة مع الأجنبي، من جهة ثانية.  ولذلك هي، عملياً، حجرالزاوية في الصراع الدائر، منذ قرن من الزمان، مع “الدولة” اليهودية الغاصبة ومن يقف وراءها من قوى دولية عاتية ومتجبّرة.

لذلك، فإن هذه الدراسة عن التعصّب الطائفي والعنصري ومخاطره على المجتمعات متعدّدة الطوائف والإثنيات والحلول المرتجاة تتّخذ من بلاد الشام والعراق نموذجاً، ومن نظرة أنطون سعاده العلمانية منهجاً ودليلاً.

المشكلة في أساسها التاريخي

تُلقي مسألة ما يسمَّي بالأقليات الدينية والإثنية في مجموعة دول الهلال الخصيب بثقلها على المشهد السياسي الراهن لدول المنطقة، وتشكِّل اليوم، كما كانت على الدوام، ذريعة تستخدمها الدول الأجنبية الطامعة بثرواتها لإخضاعها وإحكام سيطرتها عليها، جاهدة في تمزيق نسيجها الاجتماعي الثقافي النفسي، عاملة على إظهارها، على الملأ،  بقايا عصبيات وجماعات منحطّة لا شعباً ذا كيان واحد، موحّد النظرة إلى الحياة والكون!

وإذا كانت مسألة الأقليات، بشكل عام، تعود في جذورها إلى القرن التاسع عشر حيث تزامنت إرهاصاتها الأولى مع بداية تفكّك الإمبراطورية العثمانية بعامل التدخل الأوروبي في شؤونها الداخلية وتنامي حركات التحرير القومية في البلقان وشرقي المتوسِّط، فإن تكريسها، قانونياً، تمَّ بفعل التسوية العشوائية التي أقرّها مؤتمر الصلح في فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1).

أنطون سعاده وعى باكراً هذه المسألة وأدرك مبلغ الخطر الذي تمثِّله على وحدة بلاده ومستقبلها، خصوصاً وأن شعبه، في تلك الفترة، كان قد بدأ يتلمَّس طريقه إلى الحرية والسيادة والاستقلال:

– فمن جهة، كان سعاده يراقب تطوّر مسألة الأقليات في البلقان، منبِّهاً إلى خطورة تزاحم الدول الأوروبية المعنيَّة حينذاك بالوضع البلقاني كإيطاليا وفرنسا وروسيا في الدرجة الأولى، على الاهتمام بالأقليات، إنفاذاً لمصالحها في البلقان.

– ومن جهة ثانية، كان يُشاهد بأمّ عينيه تنامي الدعوات الانعزالية الدينية والعنصرية، في الهلال الخصيب، تغذِّيها السياسات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، متّخذة من الدين أو العرق ذريعة لمطالبها في الانفصال و”الاستقلال” في شؤونها الداخلية.

لعبت الحكومات المحلية الناشئة، حديثاً، في كنف الإنتداب البريطاني – الفرنسي دوراً بارزاً في إذكاء نزعة “التمايز” لدى ما بات يُعرف بـ “الأقليات ” وفي تحريض” الأكثرية” ضدّها، مستفيدة من الخطاب السياسي العروبي العنصري ضدّ هذه الجماعات، رافضة الإعتراف بوجودها، واصفة إياها بـ” شذّاذ الآفاق”، مبشّرة إياها بالمصير السيّىء الذي ينتظر أبناءها، ما دفع بهؤلاء الخائفين على وجودهم إلى التنكر لوحدة الحياة والمصير التي تربطهم بـ” أكثرية” أبناء البلاد، مفضّلين الإستقلال بشؤونهم الخاصة، ناشدين الحماية من خارج الحدود، معبّرين عن طموحاتهم الإنفصالية بـ”انتفاضات” متفرّقة جرت في البادية السورية، والسويداء، والجزيرة، ولواء الإسكندرونة، وجبال كردستان، منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

إنَّ أكثر ما لفت انتباه سعاده إلى مشكلة الأقليات في الهلال الخصيب هو:

– التركيب الإثنولوجي لسوريا التاريخية الذي يشير إلى حقيقة وجود عنصريات إثنية ودينية كالأكراد والآشوريين، حافظت ولا تزال، لأسباب عديدة، على عصبياتها.

– الهجرات الكبيرة التي دخلت البلاد في طور انحطاطها، ما عدّلت في تركيبها الاجتماعي – النفسي كالشركس والأرمن مثلاً.

– الهجرة اليهودية.

– النـزعة الانعزالية اللبنانية.

وقد لعبت الحكومات المحلية الناشئة، حديثاً، في كنف الإنتداب البريطاني – الفرنسي دوراً بارزاً في إذكاء نزعة “التمايز” لدى ما بات يُعرف بـ “الأقليات ” وفي تحريض” الأكثرية” ضدّها، مستفيدة من الخطاب السياسي العروبي العنصري ضدّ هذه الجماعات، رافضة الإعتراف بوجودها، واصفة إياها بـ” شذّاذ الآفاق”، مبشّرة إياها بالمصير السيّىء الذي ينتظر أبناءها، ما دفع بهؤلاء الخائفين على وجودهم إلى التنكر لوحدة الحياة والمصير التي تربطهم بـ” أكثرية” أبناء البلاد، مفضّلين الإستقلال بشؤونهم الخاصة، ناشدين الحماية من خارج الحدود، معبّرين عن طموحاتهم الإنفصالية بـ”انتفاضات” متفرّقة جرت في البادية السورية، والسويداء، والجزيرة، ولواء الإسكندرونة، وجبال كردستان، منذ ثلاثينيات القرن الماضي (2).

عندما أثيرت مسألة” لواء الجزيرة” السوريّة وضمان الأقليات في” المعاهدة” الشامية – الفرنسية، عام 1939، قامت قيامة نوّاب” الكتلة الوطنية” التي كان يتزعّمها نفر من الإقطاعيين والرأسماليين ووجهاء العائلات، وانهالت التصريحات وكلها تقول:” لا أقليات في سوريا”.

ولما تضايقت “الكتلة الوطنية” من تمرّد الأقليات في الجزيرة، قالت إن اللوم يقع على الأصابع الفرنسية، وراح بعض متزعّميها يمتدح الأكراد لنيل أصواتهم في الإنتخابات البرلمانية. ولكن هذا المديح وغيره لم يكن سوى تدجيلاً وتضليلاً لم تأخذ به “الأقلّيات” لأن الحملة الكتلية” العروبية” على العناصر غير العربية كانت كسيف مسلط فوق رقاب هذه العناصر.  فــ “تجاهل الواقع لا يُزيل الحقيقة بل يؤدّي إلى اختبارات مؤلمة”، كما جاء في مقال لسعاده نشره تحت عنوان:”أقليات – لا أقليات”(سوريا الجديدة، سان باولو، آذار/مارس1939).

وكيف يُمكن لهذه العناصر أن تُصدّق مثل هذه الأقوال الخطابية العاطفية المختلفة عن الواقع، في حين أنّ هنالك وقائع وأقوالاً تدلّ على العكس. فالأكراد والأرمن خبروا هذه الأقوال في الإسكندرونة حيث ضحّت بهم السياسة الكتلية. وهو ما جعلهم يعودون إلى الرضى عن الأتراك الذين ثاروا عليهم عدّة ثورات وحاربوهم.

وفي حين ظنّت” الكتلة الوطنية” أنها تقدر أن تحُلّ مسألة الأقليات بتجاهل وجودها فكانت النتيجة أن الفرنسيين تمكّنوا من الإستفادة من هذا العجز الكتلوي السياسي بمطالبة الكتلة بحماية هذه الأقليات التي سلّمت بها، كما سلّمت بامتيازات النفط والإمتيازات الحربية (3).. اعترف سعاده، على العكس منها، بوجود أقليات ومشكلة أقليات، على الصعيدين الديني والعنصري، فدرسها وحلّل أسبابها وعواملها، وقدّم حلاً جديداً يرتكز على مبادىء الحزب الذي أسّس (1932) حيث انتسب إلى صفوفه، تباعاً، عشرات آلاف الأعضاء من كل الطوائف والمذاهب والأعراق مشكّلين مجتمعاً جديداً.

ظاهرة “الأكثرية” و”الأقلية”

حكم “منطق” الأكثرية والأقلية الذي كرّسته القوى الإقطاعية والرأسمالية النافذة الحياة السياسية والروحية والإجتماعية، وما يزال:

سياسياً: في تكريس انعدام المساواة بين المواطنين. فالإنتماء للأكثرية الدينية، وليس المواطنة أوالكفاءة العلمية ، هو المعيار الرئيس في اختيار رجال الدولة وموظّفيها الكبار. وفي هذا السياق، حرصت دساتير الدول السورية في الهلال الخصيب على التأكيد (تارة) على أن دين الدولة هو الإسلام (وطوراً) على أن الإسلام هو أحد مصادر التشريع في الدولة (وحيناً) على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام.

إجتماعياً: في تكريس نزعة الإنطواء على الذات الفئوية قاعدة للتوسّع الديموغرافي، فالمجموعات الطائفية والإتنية تعيش، تقريباً، في متّحدات خاصة أشبه ما تكون بالكانتونات المغلقة، فلا اشتراك فعلي في الحياة ولا تضامن حقيقي في الملمّات، مع محيطها الأكبر. لا زواج مختلط، خصوصاً بين المسلمين والمسيحيين، إلا في حالات قليلة جداً يجري معظمها في الخارج، لأن القضاء المذهبي المعمول به لا يعترف بشرعيّة أيّة زيجة ما لم تكن جارية بحسب قوانينه.

كل ذلك، على الرغم من أن قضايا ” الأكثرية” و”الأقلّية” التي تكوّن مدار الحياة السياسية والإجتماعية في البلاد السورية هي- في حقيقتها – قضايا القرون الوسطى، قضايا الإقتتال على السماء، لاعتقاد كل جماعة دينية بامتلاكها – لوحدها- السماء! وما دام السوريون يقتتلون، في ما بينهم، على السماء فلن يربحوا الأرض التي تُسرَق من تحت أقدامهم، في غفلة منهم. إن قضايا السماء تحلّ في السماء – هذا ما تقوله المسيحية والمحمدية – لأنها قضايا بين الفرد والله، لا بين جماعة وجماعة. فلا فائدة، إذاً، من اقتتال جماعة وجماعة لأجل السماء ما دام الله هو الديّان الذي يقضي يوم الحشر، وما دام الناس قد أسلموا لله (4).

1 – الهجرة اليهودية: منذ البداية، حسم سعاده الجدل حول مسألتين أساسيتين هما: الهجرة اليهودية، والمسألة اللبنانية. ففي شرحه للمبدأ الأساسي الرابع من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ينصّ على أن “الأمّة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولِّدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”، حيث يؤسِّس مفهوم الأمّة على قاعدة الاشتراك في الحياة، لا على وهم العرق أو المذهب الديني، يرفض سعاده أن يؤول هذا المبدأ بأنه “يجعل اليهودي مساوياً في الحقوق والمطالب للسوري، وداخلاً في معنى الأمّة السورية. فتأويل كهذا، يقول، بعيد جداً عن مدلول هذا المبدأ الذي لا يقول، مطلقاً، باعتبار العناصر المحافظة على عصبيات أو نعرات قومية أو خاصة، داخلة في معنى الأمّة السورية، داعياً السوريين إلى دفع الهجرة اليهودية خارج حدود البلاد لما تمثِّله من خطر على مبدأ القومية السورية (5).

يميِّز  سعاده بين “وهم” ما يسمَّى بــ “القومية اللبنانية” المستند إلى خرافة الأصل الفينيقي من جهة، و”واقع” وجود ما يسمِّيها “المسألة اللبنانية” من جهة ثانية، بوصفها مسألة جماعة دينية بحت.

2- المسألة اللبنانية: أما بالنسبة إلى المسألة اللبنانية فإن سعاده يتّهم في مقال بعنوان “الموارنة سريان سوريون” من أسماهم “جماعة من اللبنانيين الجاهلين الذين لم يدرسوا التاريخ ولا العلم الإثني بإيهام الناس أنه يوجد في لبنان شعب خاص ليس جزءاً من الأمّة السورية القائمة شعباً واحداً في جميع سورية الطبيعية” (6).

ويعتبر أن أساس هذه الدعوة هو في لجوء المهتمِّين بتأمين مصير الجماعة المسيحية في لبنان (ويقصد هنا قوى الإنتداب الفرنسي) إلى فكرة إيجاد “قومية لبنانية” خاصة، بالاستناد إلى خرافة الأصل الفينيقي في لبنان (7)، نافياً أن يكون الموارنة فينيقيين، ذاهباً إلى الإستنتاج العلمي بأنهم متحدِّرون من أصول آرامية وحثّية، أي أنهم من الداخل السوري، خالصاً إلى القول إنَّ الموارنة هم جزء من الشعب السوري وهم سريانيو اللسان لا فينيقيوه، وهم ثقافة ودماً سوريون كغيرهم، وأدبهم الديني والاجتماعي هو بعض الأدب السوري السرياني عامة الذي كان له ازدهار عظيم في ما بين النهرين، دجلة والفرات، كما في أورفه وغيرهما.

أما المسألة اللبنانية فهي برأيه “لم تكن قط مسألة أمّة خاصة أو جنس خاص أو بلاد خاصة بل مسألة جماعة دينية دفعتها الحروب الدينية وفقدان الحقوق المدنية والسياسية العامة إلى طلب وضع تؤمّن فيه على معتقداتها الروحية وتقاليدها حفظاً للتراث القديم لا تهديماً له” (8). الأمر الذي تتعهَّد الدولة القومية الاجتماعية بتأمينه والمحافظة عليه.

إنَّ مبرِّرات انعزال جماعات لبنانية عن محيطها القومي في الهلال الخصيب، إذن، تعود إلى أسباب دينية بحت، إلى عهد الدولة الدينية، وهو زمن سابق على نشوء الكيان اللبناني، ولم يعد له ما يبرّره هذه الأيام: “إن مخاوف الحرمان من الحقوق تدفع الجماعات الخائفة على حقوقها ومصيرها إلى الانعزال، فإذا ما زالت هذه المخاوف عملياً وأمّنت هذه الجماعات على حقوقها ومصيرها، لم يبقَ هنالك ما يبرِّر انعزالها، وقد زالت بالفعل ضمن نطاق الحزب وستزول حتماً بامتداد مبادئه إلى الأمة كلها” (9).

سعاده، إذن، يميِّز بين “وهم” ما يسمَّى “بالقومية اللبنانية” المستند إلى خرافة الأصل الفينيقي من جهة، و”واقع” وجود ما يسمِّيها “المسألة اللبنانية” من جهة ثانية، بوصفها مسألة جماعة دينية بحت. ويعترف، من جهة أخرى، بوجود “المسألة اللبنانية” ووجود “الكيان اللبناني” واصفاً مبرِّرات وجودهما بأنها مبرِّرات دينية وجزئية وطارئة وليست مبرِّرات إثنية أو عامة.

3 – مسألة الأقليات الإثنية: هذا بالنسبة إلى المسألة اللبنانية والهجرة اليهودية الاستيطانية، أما بالنسبة إلى الأرمن والشركس والأكراد، فطريقة المعالجة تختلف باختلاف الحال، فالأرمن والشركس هجرتان أجنبيتان تختلف أسبابهما عن الهجرة اليهودية، فضلاً عن أن الأرمن والشركس على العكس من اليهود قابلون للذوبان في المجتمع السوري، بعد مرور الزمن الكافي لذلك، شأن كل الهجرات التي اتجهت إلى سوريا، طلباً للأمان والاستقرار واختيار حياة جديدة لها خارج مواطنها الأصلية. أما الأكراد فهم جزء من المجتمع السوري وينطبق عليهم المبدأ القومي القائل بإبطال المُبررات التي أوجبت انعزالهم، ومساواتهم بسائر المواطنين السوريين.

أ‌- الأرمن

في مقال بعنوان “الجنسيات” (المجلة، سان باولو 1925) وفي ردِّه على كتاب المندوب السامي الفرنسي في سوريا الغربية إلى رئيس الدولة الشامية، يرفض سعاده “اعتبار الأرمن سوريين” لمُجرَّد أنهم كانوا “رعايا عثمانيين”، مُسَفِّهاً منطق المندوب السامي، واصفاً إياه “بالعقم الباهر المختص بسياسيي فرنسا” (10). فلو قبلت الدولة السورية هذا “المنطق” لوجب عليها قبول جميع رعايا الامبراطورية العثمانية الراغبين في اللجوء إلى سوريا واعتبارهم مواطنين سوريين ومنحهم حقوق الجنسية السورية كاملة.

سعاده، هنا، لا يرفض الأرمن كأرمن، إنما يرفض المبدأ أو المنطق الذي يلجأ إليه المندوب السامي الفرنسي لتبرير منح الجنسية السورية إلى الأرمن، فهو مبدأ أخرق ومنطق أعرج، ولا يمكن لسعاده، المعني بالمصير القومي العام، أن يقبل بهكذا منطق، أياً كانت الجهة التي تعتمده، وأياً كانت النتائج التي تترتَّب عليه.

وعليه، يستمر اعتبار الأرمن اللاجئين إلى سوريا مهاجرين أرمن إلى أن تمر عليهم الفترة الكافية لانخراطهم العملي في المجتمع السوري وامتزاجهم الكلِّي بالحياة السورية واكتسابهم المزاج السوري والنفسية السورية وقطع كل صلات لهم بأصولهم الإثنية والثقافية الأرمنية السابقة.

ب- الشركس

إنَّ أول مشكلة إثنية واجهت سعاده بعد تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي – ما خلا الهجرة اليهودية – هي مسألة الشركس. وقد تصدَّى لمعالجة هذه المشكلة في مقال له بعنوان “وطن قومي للشركس” (سورية الجديدة، سان باولو 1939)، تناول فيه مسألة الشركس والأقليات، بشكلٍ عام، بعد ورود تقارير إليه من الوطن تتحدَّث عن محاولات شركسية حثيثة للمطالبة “بحقهم” في إنشاء “وطن قومي” لهم في منطقة الجولان السورية المشرفة على كل من فلسطين والشام والأردن والتي يتمركز فيها الشركس القادمون أو المستقدمون من آسيا الوسطى منذ أواخر القرن التاسع عشر.

ويعلِّق سعاده على هذه التقارير بقوله: “هذا الحادث يعطي مثالاً حسّياً لمشاكلنا القومية”(11). و قد دفعه هذا الحادث إلى الإنكباب مجدداً على دراسة مسألة الأقليات، وإن كان قد عالج الموضوع سابقاً في غير مرَّة، لا سيَّما في كتابه “نشوء الأمم”(1938) الذي يرفض فيه اعتبار العنصر أو الإثنية أمة لأنَّ الأمة لا تتأسّس على العنصر بل على وحدة الحياة، وكذلك في كتاب “التعاليم السورية القومية”(1936)، لا سيما المبدأ الرابع القائل بأن “الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولِّدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي”.

إن مدرسة التفكير القومي الاجتماعي التي أرسى سعاده قواعدها تتناول المسائل من أساسها، إنها لا تذهب أفقياً مندفعة مع رياح النـزعات الجامحة، ولهذا عندما اعترضت سعاده مشكلة الأقليات لم يرتجل الحلول ارتجالاً كما كان يفعل الآخرون، بل عاد إلى أساس المشكلة، إلى أساس التركيب الإثنولوجي لسوريا وما طرأ عليه من هجرات عناصر غريبة في نفسيتها وتكوينها وثقافتها لأن “كل بحث في وحدة سوريا ونهضتها لا يتناول بالدرس قضية تركيبها الأثنولوجي لا يصل إلى نتيجة ناجحة”.

في المقال المذكور أعلاه، يعترف سعاده بوجود مسألة إثنية هي المسألة الشركسية، متفهِّماً دعاوى الشركس في المطالبة بالاستقلال في شؤونهم الخاصة، وذلك كلّه في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا، فاضحاً سياسة “الكتلة الوطنية” في الشام تجاه الشركس والأقليات الأخرى، تلك السياسة العنصرية الخرقاء التي دفعت الشركس وغيرهم من الأقليات دفعاً إلى الانعزال والتقوقع والتشبث بعصبياتهم الفئوية ومطالبتهم في الانفصال عن المجموع السوري وإنشاء “أوطان قومية” لهم داخل جغرافية الهلال الخصيب، منبِّهاً إلى الفتنة التي تذكي نيرانها تلك السياسة العرجاء، مطمئناً الشركس إلى أن مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي أوجدت الأساس الروحي الاجتماعي – الثقافي الذي يتمكَّن من صهرِ الجماعات الدينية والإثنية في سوريا وتحويلها إلى عناصر متجانسة متلاحمة في صلب الأمة السورية (12).

ج – الأكراد

منذ بداية الدعوة القومية الاجتماعية في مطلع الثلاثينيات من القرن المنصرم، عبَّر سعاده عن إمكانية ذوبان الأكراد في النسيج الاجتماعي للأمة السورية، وقد جاء في النص الأول لمبادئ الحزب السوري القومي، (طبعة بيروت 1936)، وفي شرح المبدأ الأساسي الرابع  “إن في سوريا عناصر كثيرة كالأكراد مثلاً وهجرات كبيرة يمكن أن تهضمها الأمة إذا مرَّ عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول عصبياتها الخاصة” (13) مستثنياً طبعاً الهجرة اليهودية.

سعاده، هنا، لا يتحدَّث عن هجرة كردية، بل عن عناصر إثنية موجودة في سوريا. فالأكراد هم جزء من الشعب السوري – وإن لأسباب معيَّنة – حافظوا على عصبيتهم، وانعزل بعضهم عن مجرى الحياة السورية القومية.

بعد الحرب العالمية الأولى، وقد دخل الأكراد طرفاً في لعبة الصراع بين الدول العظمى، كروسيا وبريطانيا، على النفوذ في منطقة الشرق الأدنى، تطورت المسألة الكردية تطوراً خطيراً، ولم يعد الأكراد مجرد مجموعة إثنية عنصرية منعزلة على نفسها يجب إخراجها من عزلتها، بل تحوَّلوا إلى كرة يتقاذفها المتصارعون الكبار على المنطقة، بعد أن شكلوا كتلة بشرية هامة في أعالي المنطقة المعروفة بالمثلث السوري – الإيراني – التركي، كتلة لها وزنها في استراتيجيات القوى العظمى المعنية بالوضع الجيوسياسي للهلال الخصيب.

كان الوجود الكردي، قبل هذا التاريخ، مقتصراً على الأكراد المتواجدين في شمالي سوريا، الإسكندرونة وديار بكر، وبعض المدن السورية الكبرى. وكانوا قد بدأوا في الانصهار في المجتمع السوري ولم يظهر منهم ما يشي باعتراضهم على الانصهار أسوة بغيرهم من العناصر والإثنيات الأخرى لولا بعض الحوادث المتفرقة التي كانت تجري، من حين إلى آخر، في الجزيرة، واللواء، احتجاجاً على ممارسات “الكتلة الوطنية” في دمشق، تلك الممارسات التي عبَّرت عن نعرة عنصرية عروبية معادية للأكراد ولغيرهم من الأقليات الأخرى، وأدّت إلى النتيجة الوحيدة لكل سياسة عنصرية: تنافر العناصر الداخلة في النسيج السوري وتصادمها، ما أدى إلى انصراف بعض العناصر الكردية عن تأييد الحكم السوري الوطني، وإلى تودد بعضهم الآخر إلى الأتراك إظهاراً لنقمتهم على سياسة الكتلة (14). وفي هذه الفترة، كان سعاده قد انتهى من مسألة تعديل حدود الوطن السوري لتشتمل الصيغة النهائية لها على العراق كله، بما فيه كردستان، وعربستان (الأحواز).

هنا، وجد سعاده نفسه أمام مشكلة حقيقية، فلم تعد المسألة مسألة تأمين الأكراد السوريين على حقوقهم ليندمجوا، بل تحولت إلى مسألة انفصال جماعة سورية عن الوطن، واختراع قومية خاصة هي “القومية الكردية” التي لا يمكن أن تتفق، بأيّ شكل من الأشكال، مع القومية السورية الجامعة.

وقد ظهر تخوف سعاده من تطور المسألة الكردية في جوابه على أسئلة مجلة “أثرا” الآشورية الناطقة باللغة الإنكليزية، حيث أجرت معه في أواخر شهر كانون الأول/ ديسمبر 1947 حديثاً، اختار هو أن يأتي جوابه في صفة رسالة مكتوبة إلى المجلة بعد أن سألته رأيه في مشروع “دولة كردستان” الذي بدأ الأكراد يدعون إليه، تساندهم في ذلك بعض الدول الأجنبية ذات المصلحة.

لقد كان سعاده مقتضباً جداً في رسالته (15) التي لم تتجاوز الأسطر السبعة، وهو ما يشي برغبته في عدم التسرع في إطلاق أحكام قد لا تكون مدروسة كفاية، خصوصاً وأن روسيا وبريطانيا كانتا مهتمتين، بشكلٍ كبير، بتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والحربية في منطقة الهلال الخصيب والخليج العربي.

 ما كادت الحركة السورية القومية تحمل مشاعلها وتسير حتى أقبل على ضوئها جميع العناصر الدينية والإثنية في سوريا فوجدت فيها النور والحرارة. لم تبقَ في سوريا هجرة واحدة، غير اليهودية، إلا ورأت في مبادىء الحزب العدل الإجتماعي الإقتصادي لجميع العناصر الإثنية التي يتكون منها الشعب السوري. لم يقتصر الإقبال على الحزب على السوريين الأصليين بجميع مذاهبهم الدينية، بل تناول الهجرات أيضاً. فهي قد وجدت في مبادىء الحزب التأمين على حقها في الحياة السورية لقاء قيامها بواجب الدفاع عن هذه الحياة والإشتراك فيها اشتراكاً فعلياً.

وقد ميز سعاده في رسالته، بين المسائل القومية والمسائل الخارجية. فالأكراد السوريون ومن يقع في حكمهم من الإثنيات الأخرى تنتظم مطالبهم ودعاواهم في باب المسائل القومية التي تحل على قاعدة الانتماء القومي لوطن واحد هو الوطن السوري، وهو ما يعني أنهم مدعوون إلى الاشتراك في وحدة الحياة السورية التي تتأسس عليها وحدة المصالح ووحدة المصير. وهو ما يعني أيضاً، أنَّ السوريين، على اختلاف أصولهم الإثنية والمذهبية، هم شعب واحد، ولهم قومية واحدة، ولا يمكن أن ينقسموا إلى قوميات، عددها عدد الأعراق والطوائف والملل التي يتحدرون منها.

ويضيف سعاده أن مصير الجماعات الأخرى التي توجد في المناطق المجاورة أو المتاخمة لحدود سوريا الطبيعية فتندرج في باب المسائل الخارجية، ويتم التعامل معها، قومياً، على هذا الأساس. فالأكراد الإيرانيون هم إيرانيون وكذلك الأكراد الأتراك هم أتراك- باستثناء الأكراد أبناء الأراضي السورية المحتلة من قبل تركيا وإيران فهؤلاء هم مواطنون سوريون تحت الإحتلال- وقس على ذلك سائر المجموعات الأخرى، من أرمن وشركس.

في إعلانه عن “استعداد للنظر في أية مطاليب جماعة إثنية أو أية دولة لما من شأنه أن يساعد في إنشاء علاقات أنترناسيونية أفضل في الشرق الأدنى”، يلمّح سعاده إلى إمكانية إعادة النظر في عملية توزع الجماعات المتداخلة على جانبي الحدود بين سورية وبعض الدول المجاورة، كالأكراد مثلاً، أو ربما تعديل الحدود، بشرط ألا تمس هكذا تسويات مبدأ السيادة القومية.

إنَّ الدافع إلى مثل هذه التصريحات هو إدراك سعاده العميق لخطورة المشكلات التي تواجهها سوريا مع جارتيها في الشمال الغربي (تركيا) والشمال الشرقي (إيران)، وخوفه من أن يتحوَّل العامل الكردي إلى حصان طروادة في قلب الهلال الخصيب لمصلحة أحد الطرفين الطامعين تاريخياً، بالثروات السورية سواء في أعالي دجلة والفرات في الشمال، أو في الأحواز إلى الشرق.

4 – منهج الحلّ القومي الاجتماعي

* الاعتراف بوجود المشكلة

سعاده، بوصفه إبن المدرسة العلمية، يدرك تماماً أن الاعتراف بوجود مشكلة ما، هو الخطوة الأولى في طريق حلها. وفي الطب النفسي، إن طريق الشفاء من المرض يبدأ باعتراف المريض بمرضه وبحاجته إلى العلاج.

لذلك، أقرَّ سعاده، أولاً بوجود مشكلة إسمها مشكلة الأقليات، وأنه يتعيَّن عليه، بوصفه صاحب مشروع نهضوي قومي، أن يتعرَّف على المشكلة ويدرسها من كل جوانبها لكي يتمكَّن من اقتراح العلاج الناجع لها. وهكذا فعل.

لم يفعل سعاده كما فعل معاصروه من مفكرين وسياسيين وحكام الذين رفضوا الاعتراف بوجود مشكلة إثنية – اجتماعية في سوريا، معتبرين الأكراد والأرمن والشركس مجرد “شذاذ آفاق” يجب القضاء عليهم بالقوة، لكونهم “عناصر غير عربية” وغير مرغوب فيهم.

وقد أثارت هذه السياسة الرعناء ردود فعل سلبية من قبل هؤلاء، فتحرَّكوا في أكثر من منطقة مهددين بالانفصال عن الوطن الأم. ووجد الأكراد سنداً من قبل الأتراك لاتفاق المصالح بين الطرفين. وكان من نتائج هذه السياسة أيضاً أن الفرنسيين تمكنوا من الاستفادة من فرصة النـزاع بين الحكومة المركزية في دمشق والأقليات فأبرموا اتفاقيتهم مع الأتراك والتي تم بموجبها التنازل عن انطاكية وكيليكيا والإسكندرونة للأتراك، فلم تحرك حكومة دمشق ساكناً بحجة أن أكثرية سكان هذه المناطق هي من الأقليات الكردية، والأرمنية، والآشورية – السريانية.  إن حل المشكلة بالنسبة للسياسة الكتلوية في دمشق، كان في الهروب من المشكلة لا في مواجهتها، فكانت النتيجة أن خسرت سوريا أغنى أراضيها وأجملها على الإطلاق.

* وصف الظاهرة/ المشكلة 

بعد إقراره بوجود مشكلة إثنية ودينية، بادر سعاده إلى دراسة هذه المشكلة، باحثاً عن أسبابها، ومبرراتها، فوجد أن الواقع يؤكد وجود عنصريات إثنية ودينية في سورية، وعليه قرر أن تجاهل الواقع لا يزيل الحقيقة بل يؤدي إلى اختبارات مؤلمة (16) كتلك الاختبارات التي جرت وتجري مع الأكراد في شمال شرق سوريا.

أما أسباب هذه المشكلة فمردها، كما سبقت الإشارة، إلى أن هجرات كبيرة دخلت سوريا في طور انحطاطها الأخير (الطور السلجوقي العثماني) كما خرجت منها هجرات كبيرة. وهذا التحول في تركيب البلاد الإثنولوجي أوجد اضطراباً في حياة سوريا الاجتماعية فتفسخت وحدة الشعب السورية النفسية، خصوصاً بما اختلط مع هذا التداخل الإثنولوجي من تداخل ديني روحي، إذ كانت الهجرات مختلفة في ما بينها لجهة انتماءاتها العنصرية والدينية وهو ما أدى إلى تعديل التركيب الاجتماعي النفسي (العقلي) للشعب السوري فتسارع الانحلال الاجتماعي النفسي إلى أوساطه، وتجزَّأت البلاد بين أديان وبين أقوام: فمسلمون ومسيحيون ودروز، منقسمون إلى مذاهب وشيع عديدة. وسوريون وأكراد وشركس وعرب وأرمن… إلخ(17).

ورأى سعاده أن “الدين كان هو الأمة. وتأسيس الأمة على الدين لا نتيجة له بنظره، غير تحويل الأمة المتعددة الأديان إلى أمم متعددة. وهكذا عاشت الهجرات في سورية أجيالاً، فظل الكردي كردياً والشركسي شركسياً والأرمني أرمنياً” (18).

* قواعد التفكير القومي 

إن مدرسة التفكير القومي الاجتماعي التي أرسى سعاده قواعدها تتناول المسائل من أساسها، إنها لا تذهب أفقياً مندفعة مع رياح النـزعات الجامحة، ولهذا عندما اعترضت سعاده مشكلة الأقليات لم يرتجل الحلول ارتجالاً كما كان يفعل الآخرون، بل عاد إلى أساس المشكلة، إلى أساس التركيب الإثنولوجي لسوريا وما طرأ عليه من هجرات عناصر غريبة في نفسيتها وتكوينها وثقافتها لأن “كل بحث في وحدة سوريا ونهضتها لا يتناول بالدرس قضية تركيبها الأثنولوجي لا يصل إلى نتيجة ناجحة”(19). وهو ما يعني أن التفكير القومي الاجتماعي يتناول القضايا عمودياً أولاً حتى يبلغ الأساس، ومن ثم يعود فيمتد أفقياً. إنه تفكير هندسي راسخ، لا تفكير حسابي عددي أولي(20) كما يقول سعاده. إنه لا يأخذه العدد ولا يستوعبه الشكل ولا ينفعل بما هو جارٍ أو طارئ.

* الحل القومي

بعد تحديده للمشكلة وتحليله لعواملها وعناصرها، حدد سعاده منهج الحل الذي تضمَّنته مبادئ الحياة القومية الجديدة التي أوجدت العامل الروحي – الاجتماعي – الثقافي الذي يتمكَّن من صهرِ الجماعات الدينية والإثنية وتحويلها إلى عناصر متجانسة متلاحمة في صلب الأمة السورية، بعد أن تكون هذه المبادىء قد أمنتها على حياتها وأشركتها في حقوق الشعب السوري وواجباته، لقاء قيامها بواجب الدفاع عن هذه الحياة، والاشتراك فيها اشتراكاً فعلياً، بدلاً من الطعن في أصولها وتهديدها بالطرد والتشريد كما فعلت الشركات السياسية السورية الحاكمة.

“ما كادت الحركة السورية القومية تحمل مشاعلها وتسير حتى أقبل على ضوئها جميع العناصر الدينية والإثنية في سوريا فوجدت فيها النور والحرارة. لم تبقَ في سوريا هجرة واحدة، غير اليهودية، إلا ورأت في مبادىء الحزب العدل الإجتماعي الإقتصادي لجميع العناصر الإتنية التي يتكون منها الشعب السوري. لم يقتصر الإقبال على الحزب على السوريين الأصليين بجميع مذاهبهم الدينية، بل تناول الهجرات أيضاً. فهي قد وجدت في مبادىء الحزب التأمين على حقها في الحياة السورية لقاء قيامها بواجب الدفاع عن هذه الحياة والإشتراك فيها اشتراكاً فعلياً. وكم هنالك من شركس أعلنوا أن مبادىء الحزب هي المبادىء الوحيدة التي يمكنها أن تحول الشركس من هجرة إثنية إلى عنصر حي في صميم الشعب السوري، يضع كل قوته السياسية والحربية في سبيل انتصار القضية السورية القومية، ولكنه لا يناصر، بل يقاوم كل حركة لا تحمل هذه المبادىء، خصوصاً الحركات السياسية المبنية على فكرة طرد العناصر غير”العربية” من البلاد السورية” (21).

إن مسألة العناصر السورية الإثنية والدينية هي من المسائل الرئيسية التي اهتم الحزب السوري القومي بمعالجتها وأوجد لها الحل الوحيد الذي يمكن أن تتولد منه الوحدة السورية القومية الصحيحة. وهذا الحل هو في مبدأه الأساسي السادس القائل:” الأمة السورية مجتمع واحد”. فهذا المبدأ يؤلف جزءاً هاماً من الإيمان القومي يعمل بموجبه السوريون القوميون بصورة عامة اكتسبت ثقة جميع العنصريات الإثنية والدينية أكانت أقلية أم أكثرية.

إن الحزب السوري القومي قد أزال قضية الأقليات بالفعل، لأنه أنشأ مجتمعاً جديداً ذا نفسية جديدة ومناقب سامية جديدة وفلسفة تشمل جميع مناحي الحياة القومية. وقد جربت السلطات القائمة أن تفسخ الوحدة السورية باللعب على وتر العنصريات وبالإغراء والوعود، ولكنها منيت بالفشل (22).

لقد اختبر شعبنا في المئة سنة الأخيرة كم هي واقعية وعلمية الحلول التي طرحها أنطون سعاده لمشكلات بلاده، لا سيَّما مشكلة الأقليات، وكم يأسف اليوم لتجاهل تلك الحلول، طوال تلك المدة، وكم عانى من ويلات ومآسٍ في هذا المضمار نتيجة السياسات الخاطئة التي جرته إليها المشاريع الفكرية والسياسية الرومنسية التي تحكمت بالفكر السياسي العربي، دافعة به من مأزق إلى مأزق، كأن الشعب، في نظرها، حقل اختبار لأفكارها ومغامراتها وتجاربها الفاشلة.

هوامش البحث

(*) إن المصطلحات الآتية:”بلاد الشام والعراق” و”الهلال الخصيب” و”سوريا” كما وردت في هذه الدراسة هي، كلها، مسميات لمنطقة طبيعية واحدة هي سوريا الجغرافية. وعليه، يصبح السوريون أبناء هذه البلاد، لهم  وطنهم كما لهم أمتهم وبالتالي قوميتهم الخاصة.

1 – سعاده، أنطون، الأعمال الكاملة، المجلد الأول (1921-1934) مؤسسة سعاده للثقافة، الطبعة الأولى، بيروت، 2001، ص 292.

2 – راجع مقالات سعاده الآتية: الجنسيات (المجلة، سان باولو، 1925)، حقوق الأمة بين الكتلة الوطنية والأجانب، مشاكل دولة الشام (النهضة، بيروت، 1937)، الجزيرة بعد إسكندرونة (النهضة، بيروت، 1937)، الحالة السياسية في الشام (سورية الجديدة، سان باولو، 1939)، أقليات. لا أقليات (سورية الجديدة، سان باولو، 1939)، وطن قومي للشركس (سورية الجديدة، سان باولو، 1939)، فلسفة القومية العصبوية (النهضة، بيروت، 1938)، حوادث البادية (النهضة، بيروت، 1938).

3- سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث (1938-1939) ص 42.

4- سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن( 1948-1949)، ص341.

5 – سعاده، كتاب التعاليم، طبعة 1970، ص 29.

6 – سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثامن، ص 242.

7 – سعاده، المصدر نفسه، ص 242.

8 – سعاده، المصدر نفسه، ص 244-245.

9 – سعاده، المصدر نفسه، ص 140.

10 – سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، المصدر المذكور، ص 198.

11 – سعاده، ، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث، المصدر المذكور، ص 403.

12 – المصدر نفسه، ص 403.

13 – سعاده، كتاب التعاليم، طبعة 1970، المبدأ الرابع، ص 20.

14 – سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث، المصدر المذكور، ص 403.

15 – أنظر: الأعمال الكاملة، المجلد السابع، المصدر المذكور، ص 402-403.

16 – سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الثالث، المصدر المذكور، ص 320.

17 – سعاده، المصدر نفسه، ص 402.

18 – سعاده، المصدر نفسه، ص 402- 403.

19 – سعاده، المصدر نفسه، ص 401.

20 – سعاده، المصدر نفسه، ص 401.

21 – سعاده، المصدر نفسه، ص 403-404.

22 – سعاده، المصدر نفسه، ص 322.

قد يعجبك ايضا