مؤثرات الماركسية على الفكر الاجتماعي/ زهير الصباغ




زهير الصباغ – الثلاثاء 2/11/2021 م …

تاول هذه المقالة مؤثرات الماركسية على الفكر الاجتماعي وعلى علم الاجتماع. وفي البداية سأقوم بطرح بعض التساؤلات والتي أسعى من ورائها الى اثارة بعض الافكار والقضايا الضرورية لمعالجة هذا الموضوع.• هل يوجد في الواقع فكر اجتماعي واحد وشامل أم يوجد اتجاهين فكريين اجتماعين، واحد فكر اجتماعي برجوازي والآخر فكر اجتماعي ماركسي؟
• هل تركت الماركسية اثارا ملحوظة وعميقة على الفكر الاجتماعي الاوروبي الذي نشأ في اواخر القرن التاسع عشر؟
• ما هي طبيعة العلاقة التي تربط بين الماركسية وبين الفكر الاجتماعي في عصر عولمة رأس المال؟
• هل لا زالت الماركسية تحدث اثارا ملموسة على الفكر الاجتماعي المعاصر، أم أفل نجمها مع سقوط عدد من النظم الاشتراكية الاوروبية؟
تستوجب اثارة هذه المواضيع اعطاء تقييم وتصنيف للفكر الاجتماعي المهيمن، وسيتم ذلك من خلال تفكيكه ومعرفة اتجاهاته الرئيسية، وبعدها القيام بمحاولة لاظهار مؤثرات الماركسية على الفكر الاجتماعي.
ظهر في داخل الفكر الاجتماعي، ومنذ نشأته، اتجاهين رئيسيين وهما الاتجاه البرجوازي والاتجاه الماركسي، وتميزت علاقتهما ببعض بالتناقض والصراع. من الناحية التاريخية، فان الاتجاه الماركسي كان الاول، وأعقبه الاتجاه البرجوازي. ولكن، أود البدء بمعالجة الاتجاه البرجوازي.
الفكر الاجتماعي البرجوازي
ولد الفكر الاجتماعي الحديث في اواخر القرن التاسع عشر وجاء كرد فعل على ازمة وتحديات فترة الانتقال بين النظام الاقطاعي المتهالك والنظام الراسمالي الصاعد. أدى تطور الرأسمالية، داخل النظام الاقطاعي، الى تفكيك المجتمع القديم ونشوء عدد من المشاكل والظواهر الاجتماعية مثل: المجتمع الطبقي الرأسمالي، التفاوت الاقتصادي بين الطبقات الجديدة، الاستغلال الرأسمالي، ظاهرة الفقر، الازدحام السكاني داخل المدن الجديدة والصاعدة، اوضاع صحية رديئة، انهيار القيم الاجتماعية القديمة، عمالة الاطفال، والاستلاب الاجتماعي.
وكرد فعل على هذه الظواهر والتحديات، نشأت داخل المجتمعات الأوروبية الجديدة ثلاثة اتجاهات فلسفية وايديولوجية (زايد، احمد، (1981) علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية (القاهرة: دار المعارف) ص ص58، 59-60) طرحت تصوراتها وحلولها للمشاكل الناشئة وهي:
(1) الاتجاه الراديكالي الذي احيا افكار عصر التنوير، مجد الدور الخلاق للعقل واعتبر الثورة المصدر الاساسي للحرية التي ستحرر الانسان من عدم المساواة الاجتماعية
(2) الاتجاه الليبرالي الذي نادى باستقلال الفرد وحريته وحقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية
(3) الاتجاه المحافظ، وهو اتجاه مناهض: للثورة، وللفردانية، ولليبرالية، وللتقدم الاجتماعي، وللماركسية.
كان الاتجاه المحافظ هو الذي ترك الاثر الاكبر على بدايات نشوء علم الاجتماع الاوروبي. وتأثر مفكروه الاوائل مثل اميل دوركايم، وماكس فيبر، وتالكوت بارسون، بالفلاسفة المحافظون أمثال أوجست كونت، وبيرك وفريدريك هيجل. أدان بيرك الثورة الفرنسية لما أدت اليه من تفكك اجتماعي وفوضى، واستبدال للقيم، واعتبر المجتمع كائنا عضويا، يعيد توازنه اذا تغيرت اعضاؤه، وذلك من خلال الاصلاح وليس الثورة. (المصدر ذاته ص 61) اما اوجست كونت فكان معاديا للثورة، وللاتجاه النقدي-الثوري واراد تحقيق قدر من السلام الاجتماعي والمحافظة على النظام العام. ( Irving Zeitlin (1969) Ideology and the Development of Sociological Theory New Delhi: Prentice Hall and Indian Private-limit-ed) p. 74) ونادى من خلال فلسفته الوضعية بان “… باستمرارية البناء الطبقي كما هو، بحيث يتوقف الصراع الطبقي من خلال احداث توفيق اخلاقي بين الطبقات. ويمكن تسهيل هذه المهمة عن طريق فرض سلطة اخلاقية بين الطبقات العاملة وقادة الشعب.”(المصدر ذاته)
نشأ الفكر الاجتماعي الاوروبي الاول في عصر هيمنت فيه هذه الافكار البرجوازية والمحافظة، والتي اظهرت عداء للثورة وانحيازا طبقيا بارزا للبرجوازية، ودفاعا عن النظام الرأسمالي وطبقته البرجوازية المهيمنة. وكان هذا حال العلوم الاجتماعية جميعها والتي تطورت في ذلك العصر فقد “… كانت تعكس الاراء المسبقة والمشكلات عند الليبرالية البرجوازية بشكلها الكلاسيكي…” (هوبسباوم، اريك (2008) عصر رأس المال (بيروت: الفارابي) ص 312)
الفكر الاجتماعي الماركسي
نشأ الفكر الاجتماعي الماركسي في الظروف الموضوعية ذاتها وهي فترة الانتقال بين الاقطاع المأزوم والرأسمالية الصاعدة، ولكنه تأثر بالتيار الراديكالي وبالثورة، وانتقد بشدة الاتجاه الفلسفي المحافظ. وكان “… المفكر الوحيد الذي طور نظرية شمولية لبنية المجتمع وتطوره … الاشتراكي الثوري كارل ماركس … والذي “… رفض في تحليله فصل الجانب الاقتصادي عن ” الاجتماعي والتاريخي…” ( المصدر ذاته، ص 312) اعتبر ماركس الصراع الطبقي واقعا يعكس تناقضات المجتمع الرأسمالي كما واعتبر الثورة اداة للتغيير الجذري من اجل انشاء مجتمع اشتراكي مبني على العدالة الاجتماعية والملكية العامة لوسائل الإنتاج، واضمحلال الطبقات.
وبالرغم من عدم اعتراف المفكرين الاجتماعيين المحافظين بتأثير الماركسية على نظرياتهم وافكارهم، فان مؤشرات عديدة تؤكد وجود تأثير ملحوظ. ويؤكد ذلك السوسيولوجي الماركسي البريطاني مايكل بوراوي Michael Burawoy حيث كتب ما يلي:
كانت، السوسيولوجيا الكلاسيكية لاواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على الاقل جزئيا، رد فعل للماركسية في فترة كانت بها الاشتراكية حركة قوية وقابلة للتطبيق في أوروبا. ومثلت الماركسية الشبح الذي طغى وجوده على الحيز الفكري، حيث شكلت بالتالي الارضية التي أنشأ عليها كل من فيبر، ديركهايم، سيمل وباريتو، صرحهم النظري الاصلي. أما ثورة أكتوبر، فدفعت بالماركسية لجهات مختلفة كليا، ومرة أخرى أجبرت النظرية الاجتماعية البرجوازية على اعطاء رد فعل… وفي الثمانينات، استعاد علم الاجتماع عافيته من خلال الاستعارة من الماركسية… (Burawoy, Michael,“For a Sociological Marxism: The Complementary Convergence of Antonio Gramsci and Karl Polanyi”, Politics and Society, Vol. 31, No. 2, June 2003, pp. 193-194)
الفكر الاجتماعي السائد في جامعاتنا العربية
تشكل التبعية للمركز الراسمالي العالمي واقعا لا يمكن تجاهله، فنحن تابعون اقتصاديا وسياسيا وفكريا للمركز الراسمالي. اننا نستورد مصنوعات المركز الراسمالي ونستورد افكاره. فعلم اجتماعنا هو في الحقيقة علم اجتماع غربي ورأسمالي. ونجد ذلك بوضوح في سيادة علم الاجتماع البرجوازي في جامعاتنا وأيضا في ادبياتنا الاجتماعية الاكاديمية.
بعض الجامعات وهم قلة، يطرحون في دائرة علم الاجتماع مساق واحد او اثنين يتم من خلالهما تناول الفكر الاجتماعي الماركسي. مثلا تقوم جامعة بير زيت الفلسطينية بطرح مساق التقسيم الطبقي ومساق النظريات الاجتماعية الكلاسيكية. ومن خلال هذين المساقين يتم عرض الفكر السوسيولوجي الماركسي.
قمت بتدريس مساق التقسيم الطبقي في جامعة بير زيت وذلك لعدة سنوات. ونقلت للطلبة الفكرة التالية. أنني اعتبر الفكر السوسيولوجي الماركسي كأحد الروافد الاساسية والمهمة في علم الاجتماع وعلينا الاطلاع على هذا الفكر. كما وقمت بتدريس مساق النظريات الكلاسيكية في علم الاجتماع. ويتم تدريس النظريات الكلاسيكية بحيث تشمل بعض المقتتفات من نصوص ماركسية، مثل “البيان الشيوعي” و”الايديولوجية الالمانية”. مع ذلك لم يتم إعطاء اهتمام كافي للفكر السوسيولوجي الماركسي في مساقات أخرى.
وكنت قد نقلت للطلبة فكرة أخرى وهي اننا نستخدم الماركسية مع غيرها، كأداة لتحليل المجتمع الراسمالي الطبقي في مساق “التقسيم الطبقي”. والماركسية أداة جيدة لتفكيك وتحليل المجتمع والنظام الراسمالي، وهي موجودة بقوة ولا يمكن تجاهلها.
أما في باقي مساقات علم الاجتماع فيتم تدريسها بمعزل عن الفكر السوسيولوجي الماركسي. بمعنى آخر فاننا نستعرض جزء من افكار وطروحات علم الاجتماع الماركسي ولكننا لا نستخدم وجهة النظر الماركسية كأداة للتحليل الاجتماعي، لا في مساقاتنا الاكاديمية الاخرى ولا في ابحاثنا العلمية.
جرت محاولة من قلة من المحاضرين، وبينهم بعض “اليساريين”، لالغاء الفكر السوسيولوجي الماركسي من خلال تغيير اسم ومحتويات مساق التقسيم الطبقي، ولكن نتيجة لمعارضة عدد من محاضري علم الاجتماع، فان المحاولة بائت بالفشل. بالطبع هذا لا يلغي محاولة مدرسي مساق التقسيم الطبقي والذين يحملون فكرا محافظا من القيام بتهميش الفكر السوسيولوجي الماركسي اثناء تدريسهم للمساق.
هل يعني افول الأنظمة الاشتراكية افول الماركسية؟
يعتقد عدد من المفكرين، وعدد اكبر من الناس العاديين، أن أفول الاشتراكية في غالبية الدول الاشتراكية، أدى الى أفول الماركسية، وهذا اعتقاد خاطيء. بالرغم من انهيار الانظمة الاشتراكية، فان الماركسية لا زالت تشكل اداة نقدية شاملة وجيدة لتحليل المجتمعات الراسمالية ولفهم ديناميكية حركتها وتناقضاتها الطبقية والعلاقات الطبقية وتغيراتها الداخلية. ان طول عمر الرأسمالية سيكفل طول عمر للماركسية.
مرت الرأسمالية بأزمات عديدة بعضها كانت عاصفة وكادت تؤدي لانهيار النظام الرأسمالي العالمي. مع ذلك، قامت الرأسمالية وانظمتها باعادة بناء ذاتها. وبالمقابل انهارت المنظومة الاشتراكية الأوروبية، وبقيت بعض الأنظمة الاشتراكية قائمة في اسيا وامريكا الجنوبية، ولكن لم يتم بعد إعادة بناء للأنظمة الاشتراكية.
قام بعض الماركسيين في الغرب بتطوير بعض أجزاء الماركسية، مع ذلك يجب على الماركسيين ان يواصلوا تطوير النظرية لكي تواكب التغيرات التي حدثت على العالم منذ وفاة لينين في العام 1924. فالبنية الفوقية والافكار تتغير مع تغير البنية التحتية أي العالم المادي-الاقتصادي والذي تسعى الماركسية الى فهمة ومن ثم تغييره.
غياب الفكر النقدي
يعتقد عالم الاجتماع اللبناني فريدريك معتوق ان مجتمعاتنا العربية وجامعاتنا العربية لا زالت تقبع في مرحلة النقل عن الغرب ولذلك لم يتطور علم الاجتماع لدينا بسبب غياب الوقفة النقدية من العلوم الاجتماعية المنقولة عن الجامعات الغربية. وفي معرض تناوله لهذه الحالة، كتب فريدريك معتوق ما يلي:
لا زالت العلوم الاجتماعية لدينا، نحن العرب، في طور النقل، نقل الفكر الاجتماعي الغربي وذلك بسبب غياب الوقفة النقدية الخلاقة… فالانسان الذي لا يتقن النظرية والذي لا يلم بجميع خفاياها لا يقدر، موضوعيا على نقدها… فغياب الفكر النقدي ليس بسبب تأخرنا في ميدان العلوم الاجتماعية، بل هو نتيجة موضوعية لعدم تعاطينا جديا مع المسألة النظرية. حيث غالبا ما نستسهل ما ليس بسهل ونلم باطرافه وبعناوينه العريضة دون ان نطلع عن كثب على تفاصيل هذه المسألة… فالضعف النظري هو سبب غياب الموقف النقدي من العلم المنقول عن الجامعات الغربية وهو سبب عدم تبلور الفكر النقدي حتى الان – بالرغم من مرور سنوات عديدة على مسيرة العلوم الاجتماعية في الجامعات والمجلات العربية… (معتوق، فريدريك (1985) منهجية العلوم الاجتماعية عند العرب وفي الغرب (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع) ص 135)
بعض الاستنتاجات
اثرت الماركسية في الفكر الاجتماعي في العالم ويمكن رصد هذه المؤثرات في الجوانب التالية:
(1) طرحت الماركسية منهجا مختلفا في الجانب الاجتماعي يعتمد على المادية والتحليل الطبقي للمجتمع البشري، بينما طرحت البرجوازية منهجا ينكر طروحات الماركسية ويدعو الى المحافظة على النظام العام، وينكر الصراع الطبقي ويدعو الى التضامن الاجتماعي والتوفيق بين الطبقات.
(2) اثرت الماركسية على الفكر الاجتماعي البرجوازي والذي حاول بناء بديل ايديولوجي للماركسية همه الاساسي انكار طروحات الماركسية وليس تحليل وفهم الظواهر الاجتماعية.
(3) لم يهدف المفكرون الاجتماعيون المحافظون الى فهم موضوعي وعلمي ومنطقي للظواهر الاجتماعية، بل سخروا جهودهم الفكرية لتحريف هذه الظواهر وتشويه مدلولاتها، فجائت طروحاتهم مغرقة بايديولوجية برجوازية تمجد الراسمالية وتدافع عنها.
(4) ستبقى الماركسية أداة تحليل شاملة وجيدة للمجتمع الراسمالي، وهي لم تكن بداية للتاريخ البشري ولن تصبح نهاية للتاريخ.

قد يعجبك ايضا