أزمة الوعي / د. عادل عامر

د. عادل عامر  ( مصر ) – الجمعة 22/10/2021 م …




الوعي شعور يعتمد على المعطيات المعرفية الخاصة بكل شخص ورؤيته وتحليله وتقييمه لأي أمر، وهو انعكاس شمولي للمنظومة العملية والحياتية التي يعيشها الأنسان، فأي سلوك أو نهج يتبعه تكون نتائجه مبنية على درجة ومساحة الوعي المختزن لديه، ليحقق التوازن بين سلوكياته سواء كانت سلباً أو إيجابا حسب قلتها أو غزارتها.  

 ومن أجل تكييف هذا القصد وبيان أهمية هذا الوعي الحضاري يجدر بنا أن نسقطه على واقع أزمتنا الراهنة التي تعيشها البلاد من جرّاء تلك الحوادث الإرهابية وذلك التطرف الفكري المأزوم لنشخص حقيقة الخلل الواقع ولا نتشاغل بالعرض عن توصيف المرض ..  

 إن الفترات الماضية بحوادثها الخالية التي مرت بالأمة ألقت في روعنا نمطاً من التفكير جعلت آخر ما نفكر فيه عند حدوث أزمة ما أن نلوم ذواتنا , وعادة ما نهمّش تأثير أنفسنا فيما يحدث بنا من مشكلات ؛ مع أننا نؤمن ” أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (سورة الرعد 32) ونقرأ قوله تعالى:” أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير” (سورة آل عمران165 )..  

إن أزمتنا الراهنة في جميع المجالات الحياتية سواء كانت أمنية أو غيرها هي (أزمة وعي) في فهم الدين وفقه التدين وخلل في معرفة الفرد بواجبات وحقوق الانتماء للمجتمع. بالإضافة إلى تلك الغشاوة المزمنة التي أفقدتنا رؤية المدخل الحضاري بالولوج في أزقة الوهن والولوغ في حضارات الوهم والعيش في وهد الماديات .  

إن الوعي الحضاري الشامل لحاجات الإنسان والمجتمع هو رهان المستقبل للأمة المسلمة مهما بلغت من ذبول مادامت الأمة تملك نبع الحياة وأكسير النصر ..  

ومع هذه الأهمية القصوى للوعي الحضاري ..لا بد من تحرير هذا المصطلح و بيان مفهومه وحقيقته ليتضح المقصود منه ويتمهد فهمه للتطبيق والعمل ..  

فـ(الوعي) من المصطلحات التي شاع استعمالها نتيجة للتطور الواسع في استخدامها كما يظهر في مجالات شتى خصوصاً في القضايا الفكرية والثقافية.  

وبالرجوع إلى أهل اللغة في بيان معنى الوعي.. يقول ابن فارس: “الواو والعين والياء: كلمة تدل على ضمَّ الشيء. ووعيتُ العلمَ أعيه وعياً . وأوعيت المتاع في الوعاء أُعيه.  

لذلك فان هناك دوماً مقومات للارتقاء بالوعي التي تعتمد على الفهم والإدراك المعرفية والواجب الوطني والمسؤولية الأخلاقية والمجتمعية، وما سيؤثر ذلك على درجة الوعي النفسي لدى الآخرين وهذه الدلالات تترجم بقوله عليه الصلاة والسلام ( أن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ). وبالتالي هناك مسؤولية أخلاقية ووطنية على الطبقة الواعية في هذا الوطن والتي تحتفظ بمخزون من الأفكار والمفاهيم، وترجمتها بحراك اجتماعي حياتي متكامل ليرسم وعياً ونهجاً سليماً صحيحاً للمواطن يكون اثره إيجابيا، قال تعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) يوسف، وقال تعالى ( قال بصرت بما لم يبصروا به ) طه.  

وهذه السلوكيات وطرق التوعية تؤسس لصناعة وترشيد وتثبيت أركان الوعي المبني على البينات، فعلينا جميعاً مسؤولية توعية المواطنين من أي خطر محدق مهما كان نوعه فيروسي أو غيره، ودلالاته وأبعاده وانعكاساته في حالة عدم الالتزام بالقرارات والإرشادات الصادرة عن الجهات المعنية.  

فهناك من يخطئ في تصرفاته وسلوكياته ونتيجة عدم وعيه او محدودية قدراته العقلية، وعدم قدرته على تشخيص الحالة بشكل صحيح او نتيجة قلق نفسي ليخلق تأزماً لصحته وواقعه الحياتي.  

وهذا ما يقودنا إلى صناعة أزمة الوعي التي يلجأ اليها أعداء الوطن، في أثارة الهلع في نفوس المواطنين مما يجعلهم يتصرفون بشكل هستيري، ولنجد بعض المولات والسوبرماركت خاوية من المواد التموينية بقصد تجاري، والصيدليات خاوية من المعقمات والأدوية الطبية بقصد تجاري،  

 والسوق السوداء تثبت حضورها لاستغلال المواطنين وغيرها من الممارسات على المواطنين خاصة من انعدام الدخل المالي المتأتي اليه من عمله ومصلحته، وما ترتب عليها من شروط للاستفادة من أي تعويض خاصة بذلك وغيرها الكثير، ليكون التأثير سلبي على الاقتصاد وعلى المواطن نفسه وعلى امن المجتمع والوطن.  

فأزمة الوعي تحيد المواطن عن مساره السليم، أي أن هناك متغير فكري بسبب الجهل بالتصرف السليم أو كيفية ادراة الأزمة يخلق ازمه مجتمعية ووطنية، فمصاب فيروسي واحد لمواطن من الممكن أن يسبب العديد من الإصابات في العديد من الأماكن والمناطق لتنتقل بكل سهولة من شخص إلى آخر بسبب المخالطة دون علم أو دراية، وهذا خطر على المجتمع وعلى الوطن وعلى أمنه واستقراره. وقد كان للمثقفين دور طلائعي تنويري ضد كل الأشكال المتأخرة، فتعرضوا لكل أنواع التضييق ما داموا يدعون للحداثة والتقدم ونبذ التخلف والقهر والاستبداد،  

غير أن البرنامج السياسي للسلطة السياسية بالمغرب اشتغلت لسنوات على هذا الملف لتتوجه بعمليات احتواء لعدد من المثقفين والمفكرين وإدماجهم في مؤسسات حكومية أو قريبة منها، كما تم تدجين عدد من الجمعيات الثقافية التي كانت خلايا فاعلة للنقاش والحوار الديموقراطي فحوَّلتها إلى بوتيكات مفتوحة على «الإدماج بالتناوب»، والاستفادة من المنح والأسفار والهبات، وهو الأمر نفسه، وبشكل أعنف، كان مع العديد من الأحزاب السياسية  

ما وقع في المغرب منذ نهاية التسعينات – في اعتقادي وتحليلي الشخصي – كان نكسة أخرى مغلفة في أطنان من الشعارات الزائفة والتحليلات التوجيهية الخاطئة… وهي تشبه (صفحة أخرى من الكناش نفسه) ما وقع في نهاية القرن 19 وفي بداية القرن 20 وأيضا في 1965.  

إن وعي السلطة السياسية في البلاد بالمسألة الثقافية كان عبر تحجيم دور الفكر والمفكرين واستبدال مفهوم الثقافة، وجعلها بالتالي لا تقوم بأي دور في ترسيخ قيم الصراع والمبادئ النبيلة أو في تأجيج وإنضاج الصراع الفكري والاجتماعي وتأثيرها على المسار السياسي. هكذا، ومنذ المرحلة الأخيرة، وتزامنا مع برنامج العولمة والثورة في عالم الاتصالات، انطلق بشكل مباشر وسريع برنامج فتح باب التوبة لعدد من المثقفين الذين أصبحوا طامحين في الاندماج الكلي وممارسة ثقافية نظيفة وحداثية ومتطلعة إلى المستقبل! مثلما انطلق برنامج، عمل على تنفيذه الإعلام السمعي البصري، وذلك بتشجيع ثقافة الاستهلاك، ثقافة المسابقات والجوائز والأغاني والنجوم والموضة والرقص في أسوأ الصور. مشكلات الوعي المصري  

(*) الاعتداء على المجال العام: ينتشر بين كثير من المصريين اعتقاد بأن الأشياء الموجودة في المجال العام هي أشياء مستباحة، له أن يتصرف فيها كما يشاء. عالم هؤلاء الأشخاص ضيق جدًا، يتكون من الأسرة والمال والممتلكات الخاصة، أما ما عدا ذلك فهي أشياء لا تمت لأحد بصلة، فلا هو يمتلكها ولا هي مملوكة لآخرين، إنما هي أشياء مشاع، يمكن لأي فرد أن يتصرف فيها كما يشاء. ظاهرة الشقق النظيفة، ذات الأثاث الفاخر، والألوان المبهرة، الموجودة في عمارات تتراكم الفضلات في مناورها وعلى سلالمها، لأن كثيرًا من السكان يمتنعون عن دفع جنيهات قليلة لتغطية تكلفة صيانة المنافع العامة، المملوكة لكل السكان بشكل مشترك.  

 (*) الوضع يصبح أكثر سوءًا لو خرجنا من العمارة إلى الشارع، فهناك تجد الكثيرين يعتبرون أنه من العادي إلقاء المخلفات في الشارع، وربما لفت نظرك أحيانًا أن من يقومون بذلك رجال ونساء شديدو الأناقة يركبون سيارات فارهة، تدل على أن أصحابها من الميسورين. الطرق الجديدة في المناطق النائية هي مساحات مستباحة من جانب سائقي الشاحنات التي تتولى نقل مخلفات البناء، وبعض القمامة أيضًا، فتجدهم يستكثرون علينا الطريق العريض، ويقررون أن مستخدمي الطريق لا يحتاجون لأكثر من حارة واحدة منه، فيحولون باقي الحارات إلى مكبات للنفايات.  

 (*) كل هذه الممارسات، وأمثالها الكثير، تعكس أنانية مفرطة، وعجزًا عن إدراك معنى وقيمة المنافع العامة، وحق كل الناس في الاستمتاع بها بشكل متساوٍ، وواجبهم المشترك في عدم الإضرار بها أو الاعتداء عليها. وفي المقابل، لا بد من تنمية وعي جديد، يدرك قيمة المنافع والممتلكات العامة، ومسئولياتنا المشتركة عنها.  

 (*) الفهلوة المجتمعية هي مظهر من مظاهر الوعي الرديء، ومعناها ببساطة أن يصل الفرد إلى غرضه بأي طريقة، وأن يتصرف في كل موقف وفقًا لطبيعته، وليس وفقًا لخطة أو مبادئ اختارها لنفسه عن وعي. بالنسبة للفهلوي، ليس مهمًا أن تكون طريقته في الوصول إلى الغرض مشروعة، وليس مهمًا لو أنه يلجأ للكذب الصريح للخروج، والذي يكون خروجًا مؤقتًا في أغلب الأحوال من مأزق ما. الفهلوي لا يحل المشكلات، ولكنها يرقعها، أو يضع طاقية هذا فوق رأس ذاك، فتنتكشف الحيلة بعد ساعات أو أيام، فيخترع الفهلوي حيلة أخرى تُخرجه من المأزق الجديد، لكنه أبدًا لا يفكر في حل المشكلة من جذرها.  

 (*) الفهلوة المنتشرة بين عموم الناس، بمن فيهم موظفون داخل الجهاز الإداري للدولة، هي المسئولة عن كل التهرب من تقديم حلول جذرية لمشكلاتنا، وكل الترقيعات التي لحقت بسياسات الاقتصاد والتعليم والصحة والعمران والتوظيف والإدارة على مدى عقود طويلة ماضية. وإذا كانت الفهلوة هي نمط الوعي الخرب، فلا أعرف بالضبط ما هو عكس الفهلوة الذي نريد أن نؤسس له في وعي مواطنينا؛ لأن الفهلوة هي عبارة عن حزمة من أنماط الوعي، التي لا بد من فصلها عن بعضها بعضًا، والتعامل معها كل على حدة. وعلى سبيل التبسيط فإنه يُمكن تمييز أنماط الوعي الفرعية التالية ضمن إطار المفهوم العريض للفهلوة.  

 (*) الكذب: يُمكن للفهلوي أن يكذب دون أن يشعر بأي تأنيب للضمير، فهو لا يهتم بأن ينطق بالحقيقة، ولكنه ينطق فقط بما يخدم مصلحته، فيزيد مكاسبه أو يقلل خسائره. يدعي الفهلوي أن لديه خبرات طويلة في أشياء لم يفعلها من قبل، فالمهم أن تتورط وتتعاقد معه. لدى الفهلوي أكاذيب جاهزة لتبرير أخطائه، وبشكل خاص فإنه لا يشعر بأي تأنيب ضمير عندما يُلقي بمسئولية الفشل على آخرين. الصدق هو القيمة البديلة التي نحتاج إلى غرسها في الوعي المصري.  

 (*) قصر النظر: تنكشف ادّعاءات الفهلوي بعد حين، وتصبح عصية على التصديق، فلا يعود من تعامل معه مرة للتعامل معه ثانية، لكن الفهلوي لا يهتم لكل هذا، فالمهم هو أنه خرج من الموقف الحرج، أما بناء علاقات عمل واستثمار وبناء طويلة الأمد فليست من أولوياته بالمرة، فهو في كل مرة يبدأ من جديد، فيظل دائمًا قريبًا من نقطة البداية، دون تراكم أو تقدم إلى الأمام. التفكير والتخطيط بعيد المدى هو القيمة البديلة التي نحتاج إلى غرسها في الوعي المصري، بدلًا من قصر النظر.  

 (*) الاتكالية والقدرية: في مرات كثيرة يتصرف الناس بطريقة توقعهم في المشكلات، أو تضع عليهم أعباء فوق طاقتهم، لكنهم مع هذا يواصلون التصرف بالطريقة نفسها، ظنًا منهم أن المشكلات تحل نفسها، أو اتكالًا على أن الأقدار سترتب لهم من ينتشلهم من المأزق. الإفراط في الإنجاب فيما وراء القدرة والموارد الاقتصادية، ثم البحث عن المحسنين من أهل الخير لاستجداء نفقات إعالة الأطفال الكثر. هناك أيضًا التورط في المبالغة في تجهيز العروس، فيما وراء ما هو متاح من موارد، والتورط في التوقيع على أوراق تنتهي بصاحبها في السجن، اعتمادًا على أهل الخير الذين يتولون إخراج الغارمات من الحبس.  

 (*) الاتكالية والقدرية هي نمط وعي لشخص غير قادر على تحمل المسئولية عن أفعاله، ولا يشعر بأي غضاضة في أن يتولى الآخرون تحمل هذه المسئولية عنه. تكوين الإنسان المسئول الذي يتحسب لتبعات أعماله، ويتحمل المسئولية عن القرارات التي يتخذها بكامل حريته وإرادته؛ هذا هو نمط الوعي المطلوب غرسه في الوعي المصري.  

 (*) لقد تكون الوعي الجمعي السائد بين عموم الناس بشكل تلقائي على مدى عقود وقرون طويلة، استجابة وتأثرًا بظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة، ويصعب تصور أن ما تم بناؤه تدريجيًا على مدى قرون طويلة يمكن تغييره في فترة قصيرة. الدراسات العلمية، والخطط المحكمة، والمثابرة؛ هي سبيلنا لاستبدال وعي جديد بالوعي الفاسد.  

 

 

قد يعجبك ايضا