سفراء التطبيع والقضية الفلسطينية / مهند إبراهيم أبو لطيفة

مهند إبراهيم أبو لطيفة  ( فلسطين ) – الإثنين 7/6/2021 م …




أثارت ممارسات وتصريحات السفير الإماراتي محمد محمود آل خاجة الأخيرة، موجه عارمة من الغضب العربي والفلسطيني الشعبي، وأعادت إلى الأذهان الدور المشبوه والخطير الذي قام به بعض القناصل من ممثلي الدول الأوروبية  في فلسطين في الفترة  ما بين 1842- 1914 تحديدا، ومساهمتهم المباشرة في تشجيع وحماية الإستيطان اليهودي في فلسطين، ودورهم في خلق ظروف موضوعية لقيام الكيان الصهيوني.  

أكدت مصادر عديدة أجنبية وعربية، على حجم الخدمات التي قدمها سفراء الدول الأوروبية الإستعمارية للحركة الصهيونية، وفي مقدمتهم سفراء بريطانيا وفرنسا والنمسا، والألاعيب التي استخدموها للتحايل على الإجراءات والقوانين التي حاولت عبرها السلطات العثمانية من منع الإستيطان اليهودي في فلسطين ولكنها بائت بالفشل. وابرزت المصادر التاريخية كيف إستغل السفراء الإمتيازات التي حصلوا عليها من قبل السلطات العثمانية ولإعتبارات سياسية وإقتصادية، في تسخير مناصبهم وحصانتهم في دعم الهجرة اليهودية غير الشرعية عبر منح المستوطنين لوثائق سفر وجنسيات تلك الدول ، ليتم التعامل معهم كرعايا أجانب، وتسهيل تملك الأراضي عبر وسطاء.  

في  كتابها الموثق: ” دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والإستيطان في فلسطين” ، الصادر عام 2007 في عمان، عن دار الشروق للنشر والتوزيع، قدمت الكاتبة نائلة الوعري، دراسة مفصلة عن هذه الجريمة الدبلوماسية التي أرتكبها هؤلاء السفراء في حق الشعب الفلسطيني في ذلك الوقت ، والتي ما زال يعاني من تبعاتها نكبة بعد نكبة.  

من اللافت للنظر في الكتاب، أن الظروف السياسية الدولية والإقليمية التي تحدث عنها الكتاب، والتي سمحت لهؤلاء السفراء بهذه التجاوزات، تتقاطع إلى حد كبير مع واقعنا الحالي، الذي يُسمى بحق : ” الزمن العربي الرديء “، والذي نرى فيه هذا الإنبطاح الفج أمام الكيان الصهيوني.  

كانت فلسطين في تلك المرحلة تابعة إداريا وسياسيا وأمنيا وإقتصاديا للسلطات العثمانية بشكل مباشر، وحيث أن الدولة العثمانية كانت في قمة ضعفها وإنحلالها وتشتتها وإنشغالها في حروب جانبية داخلية وخارجية، فقدت الدولة سلطتها المركزية على فلسطين، وإستفاد القناصل الأوروبيون (وفي مقدمتهم الإنجليز) من إنتشار الفساد والمحسوبية في الوسط البيروقراطي العثماني تحديدا منذ آواخر حكم السلطان عبد الحميد ولغاية 1917، للقيام بهذا الدور الوظيفي لصالح الحركة الصهيونية، وإنسجاما مع مشاريع وسياسات ومصالح دولهم الإستعمارية في المنطقة خصوصا بعد حرب القرم (1854- 1856).  

حاولت النخبة الفلسطينية عبر ممثليها في البرلمان العثماني، ورجال الدين والزعامات التقليدية وبعض المثقفين ورجال الصحافة، لفت الإنتباه والتحذير مبكرا من مخاطر الهجرة والإستيطان على مستقبل البلاد، ولكن شبكة العلاقات الصهيونية وغياب العرب عن المشهد، جعل تأثيرهم ضعيفا ومحدودا.  

استخدمت الحركة الصهيونية دعما ماليا واعلاميا غير محدود، لتنفيذ مخططاتها على حساب الوجود العربي في البلاد، وتلقت فيما بعد كل الدعم والإسناد العسكري واللوجيستي، بينما كان الشعب الفلسطيني الأعزل وحيدا، تمكنت الحركة الصهيونية من الإلتفاف على  مطالب بعض  العرب ” الرومانسية حد العمالة ” وفرضت أمرا واقعا بالقوة.  

من المفيد قراءة ما يحدث من تطبيع دبلوماسي ضمن هذا السياق التاريخي، فهو وبالتأكيد على حساب القضية الفلسطينية والأمن القومي العربي، وهو يعني القيام بدور وظيفي تكاملي مع الكيان الصهيوني ومشاريعه المستقبلية، وهو أيضا  لا يدعم بأي شكل من الأشكال حقوق الفلسطينيين ولا حتى سقف مطالبهم المرحلي المنسجم مع بعض القرارات والاتفاقيات الدولية، التي أسدل الإحتلال عليها الستار منذ مدة طويلة، ولايمكن تبريرها لا أخلاقيا، ولا دينيا، ولا سياسيا، ناهيك عن أنها تفتح مجالا حيويا علنيا أكثر رحابة للكيان على الصعيدين الأمني والإقتصادي.  

عندما كان القناصل الأوروبيون يعبثون بمستقبل الشعب العربي الفلسطيني، لم يكن في حساباتهم أي وزن للعرب ولا كان يعنيهم تطلعاتهم نحو الحرية والإستقلال بقدر ما يعنيهم تفتيت العرب إلى كيانات منفصلة وزعزعة ما تبقى من الدولة العثمانية ، واكبر دليل على ذلك إتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، وهكذا من ينبطح أمام الحاخام الأكبر للكيان لينال البركة ، لا يُدرك ما تعنية في التراث الحاخامي هذه البركة، وأنها تُمنح  لمن يعتبر قد أصبح  الخادم الأممي الغير يهودي للكيان، يعمل منسجما تماما وبشكل كلي لتحقيق مصالحه فقط.  

كان الخطاب الرسمي للدول الإستعمارية الداخلي والخارجي، وعلى شاكلته الصهيوني يروج للتنمية الإقتصادية، والتمدن، والتقدم العلمي والثقافي، والإزدهار الذي ينتظر المنطقة، وسيستفيد منه بشكل مباشر الفلسطينيون والعرب، وكانت النتيجة الإحتلال والحروب وسفك الدماء، الإقتلاع من الأرض، الهيمنة والتبعية الإقتصادية والسياسية، وسرقة ثروات المنطقة، فلا يمكن إيجاد مبرر أخلاقي أو أن يتم إيجاد تسويق أخلاقي للتطبيع الدبلوماسي أو بالأحرى تأكيد الولاء والطاعة، بالرغم من مليارات الماكنة الإعلامية.  

كما حرفت القوى الإستعمارية طاقات وإمكانيات العرب في مرحلة تاريخية مفصلية، عن الخطر الحقيقي القادم للمنطقة وهو الإستعمار المباشر وإقامة الكيان الصهيوني ، وزجتهم في معارك جانبية عبر وعود كاذبة ، واستفادت من التنافسية العربية- العربية وشهوة السطلة والمُلك، يتكرر نفس السيناريو الآن في منطقة الخليج نحو إيران مع فارق وجود المقاومة، الدرع الوحيد المتبقي كحائط سد ضد هذه المخططات، ولا يجب أن نستبعد أن كل ما نراه من تغيرات شكلية سطحية إعلامية، على مواقف بعض الدول، يأتي في إطار حصار المقاومة ولإفقادها مكاسبها ، وإدخالها في دوامة ودهاليز السياسة والدبلوماسية وبتمويل عربي ، للوصول إلى الهدف النهائي: وهو نزع سلاحها وتدجينها في النظام الرسمي العربي.  

لقد نحرت دبلوماسية بعض العرب العراق، وسوريا، وليبيا،واليمن، وقادت المنطقة إلى حالة غير مسبوقة من التردي والتراجع والتفتت، فمن يرغب بالحصول على ” صكوك الغفران” من الحاخامات ، وأقطاب النظام العولمي الحاكم ، عليه أن لا يتاجر بدماء الشعب الفلسطيني ولا بقضيته ومستقبله وحقوقه الوطنية، وأن لا يرتدي عباءة العروبة التي لا تصلح إلا لمن يُدرك معنى الكرامة.  

قد يعجبك ايضا