تقدير موقف لقرار بوتين بالانسحاب من سوريا / د. فايز رشيد

 

د. فايز رشيد ( الأردن ) الخميس 17/3/2016 م …

تتفاوت التكهنات والتحليلات حول الاسباب “الحقيقية”, التي دفعت الرئيس بوتين لاتخاذ قراره “المفاجئ” لبعض العواصم والجهات و”الصادم” لأخرى و”الصاعق” لغيرها, وربما “غير المعروف الاسباب والابعاد” لمن يريد لنفسه ان يكون في صورة المشهدين الاقليمي والدولي، التي باتت هي الاخرى ضبابية وملتبسة اكثر من اي وقت مضى. وبخاصة في ظل الحديث عن “صفقة” تبلورت بين واشنطن وموسكو، ستجد طريقها الى التنفيذ شاء من شاء وأبى من أبى، سواء في المنطقة, أو على تخومها ام في غير مكان من المعمورة وخصوصا في اوروبا.

كل ما سبق لا يعدو كونه اقرب الى “التنجيم” منه الى التحليل السياسي الرصسنلمن يكتب , كونه يتأثر بالبعد العاطفي المواقفي من الحدث,مع أنه لا بد وأن  يلحظ طبيعة ومستوى العلاقات الساخنة او الساكنة او المحتقنة التي باتت عليها علاقات موسكو وواشنطن، مع الاخذ في الاعتبار: ان الاخيرة تعيش سنة انتخابية مشحونة ومفتوحة على احتمالات عديدة ليس اخطرها وربما اكثرها احتمالا, ان يشق دونالد ترامب طريقه الى البيت الابيض (وهذا امر تتحسب له موسكو لانها مضطرة للتعامل مع اي ساكن في ذلك البيت الاميركي الشهير) فضلا عن الهاجس الذي يعيشه باراك اوباما نفسه, وقد  بات يُكرِّس ما تبقى له من اشهر معدودة في سدة الرئاسة, كي يترك اثرا او إرثاً يُحسب له ولا يسحب عليه، على النحو الذي رأينا بعض تجلياته في ما نقله عنه الصحفي الاميركي اليهودي الشهير جيفري غولدبرغ، من اقوال وتصريحات ومواقف وقراءات واتهامات غير معهودة ,لم يسبق لأي رئيس اميركي ان ادلى بها وهو في منصبه، والتي سيُتكشف الكثير منها في عدد مجلة “اتلانتك” لشهر نيسان/ابريل المقبل, حيث تم حجز “87” صفحة منها لنشرإضاءة  ما اصطلخ على تسميته بـ “عقيدة أوباما”.

قيل الكثير من الوصف في الرئيس الروسي بوتين ,وان احداً لا يعرف ما يدور في “رأسه” إلا بوتين نفسه!,ولهذا ادرجوا قرار انخراطه لمفاجئفي الازمة السورية يوم 30 أيلول/سبتمبر الماضي, ضمن هذاالوصف, يستشير ويناقش ، لكنه يعرف ما يريد ويقرأ جيداً الخرائط الداخلية والاقتصادية والجيوسياسية, والعلاقات الدولية ,وموازين القوى ومعادلات التحالفات والصراعات قبل ان يتخذ قراره.. وكان ان قلب التدخل الروسي العسكري الفاعل والجديّ والحازم والقوي… موازين القوى على الاراضي السورية, وبعث أنذاك برسائل مدوية في كل الاتجاهات وتشي : بأن روسيا ارادت ذلك وهي جاهزة لأن تدفع ثمن مواقفها وتُجبَر الآخرين أيضاعلى دفع ما يترتب عليهم من أثمان! ولم تكن تداعيات “الكمين” التركي لطائرة السوخوي الروسية “إف24” تشرين الثاني/نوفمبر الماضي, سوى ترجمة لهذا الحزم الروسي، الذي أجبر اردوغان على الانكماش والتراجع, وكبح جماح أطماعه التوسعية في الأراضي السورية, رغم ان “السلطان  العثماني” صرّح بأن “إعزاز” هي خط أحمر بالنسبة لأنقرة، لكن كافة الأطراف المراقبة والداخلة بعمق في الأزمة السورية كانت تعلم “ان لا خطوط حمراء امام الحزم الروسي”, الذي اعتبر اسقاط الطائرة الروسية طعنة في الظهر.

قرار الانسحاب الروسي.. اذاً، وعشية انعقاد او بدء الجولة الجديدة من مفاوضات “جنيف 3″، لا يمكن اعتباره مجرد “مفاجأة” فقط ، بل ثمة ما ينطوي عليه ويُخفيه من اسباب ومبررات , وربما خلافات او تضارب في وجهات النظر او المصالح بعيدة المدى بين دمشق وموسكو، وهو أمر يحدث بين الحلفاء والاصدقاء في الظروف العادية، فما بال ان الطرفين يخوضان معركة مُشتركة في ظروف اقليمية ودولية معقدة، يمكن لأي خطوة او قرار غير محسوب ان يأخذ الجميع الى الهاوية، علماً ان كل المنخرطين في الأزمة السورية اقليمياً ودولياً, يقفون الآن ومنذ خمس سنوات على حافة تلك الهاوية، التي اسقطوا فيها الشعب السوري ودمّروا جزءاً كبيراً من وطنه ويوشكون–لو استطاعوا–ان يدمروا دولته وكيانه الوطني الجامع.قيل الكثير في أسباب الانخراط الروسي في الأزمة، وشكك كثيرون في أقوال المسؤولين الروس, بأن مدة المهمة التي تضطلع بها القوات الجوية الروسية خصوصاً, لن تزيد على ثلاثة أشهر، وذهب “ثوار فنادق السبعة نجوم”  من المعارضات المؤتمرة بتحالف الرياض وتجمع أنقرة, بعيداً في وصف القوات الروسية، بأنها قوات “احتلال” وانها “مرتزقة” وتوعدوها بالمصير ذاته الذي واجهته القوات السوفياتية في افغانستان ,وغيرها من العنتريات التي كانت تعبيراً “فاضحاً” عن هزائم موصوفة يتلقونها في الميدان .

كما قيلايضا بأن القرار في سوريا لم يعد في يد الأسد بل في يد بوتين, وتحدثوا عن خلافات حادة بين موسكو وطهران, حيث بدأت الأخيرة تخسر نفوذها لصالح الروس, الذين يريدون تكريس “احتلالهم” لسوريا, واجبروا الرئيس السوري على عدم الزام روسيا بأي موعد محدد لاخراج قواتها من سوريا, وان السيادة في قواعدها البرية او البحرية او الجوية ستكون لموسكو وقوانينها وغيرها من الأقاويل التي تعكس امتعاضا داخليا لذويه, في ظل افتقاد القدرة على معاكسة اتجاه الرياح الروسية، حتى صَوّروا الأمر, وكأن روسيا جاءت فقط لفك “عزلتها” الدولية,والبقاء في “آخر” قاعدة لها في المنطقة وفي العالم خارج روسيا.الآن خرجت روسيا او بدأت بالخروج، رغم تشكيك الغرب واركان هيئة رياض حجاب بالأمر، وهم يُوهمون أنفسهم بأن المسألة لا تزيد وربما–عن كونها مناورة لتعويم الاسد او دفعه للتشدد, باعتبار ان موسكو بدأت الانسحاب! ويُدلِّلون على ذلك بما صرّحه الكرملين قبل أيام: بأن الانسحاب لم يكن بِهدف ممارسة الضغط على الرئيس الأسد.

بكل تبعاته المدوية، سينعكس قرار روسيا “بسحب الجزء الرئيس من قواتها من سورية”بكل تبعاته المدوية، ، على مصير هذا البلد العربي، مما يبقيه مفتوحا على كل الاحتمالات بنسب متساوية. بيد أن ما يرجحه محللون وخبراء وتحليلات صحفية،  أن القرار الروسي يستند إلى حقيقة “ألا حرب في سورية بعد اليوم”، أي أن الهدنة ستستمر في الصمود حتى تفضي عملية الصراع السياسي فيجنيف وسواها إلى “حلول” ترضي الأطراف المنخرطة في الحرب المدمرة.ويجمع المراقبونوالمحللون، على أن سياسة الرئيس الروسي فيالموضوع السوري لم تراهن على الحرب وحدها، إذ لم تتحدث موسكو عن حسم عسكري فقط، وظلت تلح على الحل السياسي المرضي لأطراف الصراع وداعميهم الإقليميين والدوليين، وهو ما قد يغضب حلفاء موسكو, التي تنتهج سياسة تحقق مصالحها ومصالح حلفائها، لكن بقراءة “براغماتية” تختلف جذريا عن سياسة موسكو السوفيتية, التي اعتادها العرب.فكما فاجأ بوتين العالم بعمليته العسكرية في سورية ليدفع بحليفته دمشق إلى تقدم ميداني ملحوظ، يأتي قراره ، بسحب الجزء الرئيس من قواته، ليحقق مكسبا سياسيا فيجنيف وسواها على صعيد الحل السوري.

واعتبر ما يسمى بـ”إعادة التموضع الروسي” في لحظة إطلاق عملية جنيف المتعثرة.مرتبط إلى حد بعيد وفق القراءة الروسية للوضع، بالرهان “لاستكمال الإمساك بقرار السلم، بعد الحرب. من ناحيتهم ,قال مسؤولون أميركيون إنهم لم يتلقوا أي إشعار مسبق لقرار بوتين البدء في سحب جزء من القوات العسكرية من سورية، وعبّروا عن دهشتهم من الإعلان المفاجئ الصادر عن موسكو.وأعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تناقش هاتفياً مع بوتين حول “الانسحاب الجزئي” للقوات الروسية. وقال محللون  ومراقبون : انه “إذا كان الموقف الروسي يعبّر عن حاجة موسكو إلى أفق سياسي لعمليتها ,حيث تبدو أكثر استعجالاً من السوريين،.

للانخراط في العملية السياسية وبرؤية متوازنة إلى الحل السياسيي.

وكُتب أيضا، أن الإعلان الروسي يتقاطع مع وصول نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى طهران برفقة وفد عسكري رفيع غير معتاد، لافتين النظر الى: أن القرار “يتجاوز بكثير ما قيل فيحاشيته، عن تنفيذ غالبية مهمات وزارة الدفاع والقوات المسلحة الروسية,ومن أن المعارضة قتلت ألفي إرهابي روسي”. واعتُبر القرار انه “ديباجة توجه رسالة مزدوجة إلى الداخل الروسي أيضا،الذي يعاني عقوبات اقتصادية بعد عدم تنفيذ ايران للاتفاق الروسي معها برفع أسعار نفطها. كما أن فيطيات القرار طمأنة للخائفين من انزلاق روسي في الحرب السورية” و”تهيئة الوضع لتطبيع” علاقات روسيا مع السعودية وحلفائها ( وبخاصة ان موسكو على اعتاب استقبال ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز إليها في زيارة رسمية).

وبالنسبة لكثير من المحللين، فانه كان لافتاً أن الهدنة انعقدت بعد عشرة أيام من لقاء سعودي – فنزويلي- روسي – قطري لتثبيت كميات الإنتاج النفطي، ومحاولة رفع أسعار النفط، التي قفزت من 28 دولاراً للبرميل الواحد، فور دخول الهدنة حيز التنفيذ في 28 شباط/فبراير الماضي، الى 41 دولاراً في اليوم التالي، وهو مؤشر على ارتباط الاتفاق الرباعي، لا سيما الروسي – السعودي بمسار الهدنة، التي أوقفت( وفقا لوحهات نظر عديدة) انهيار المجموعات المسلحة في سورية.أيضا, فان بقاء سربين من الـ “سوخوي 30 و35″، وهي الأسراب التي قال الروس إنها كُلفت بالبقاء في سورية، تحافظ على نوع من التواجد الروسي في سوريا. وتأمين حماية قاعدة حميميم، مع صواريخ الـ “اس 400” وقاعدة طرطوس البحرية، وهي أهداف روسية مهمة,قابلة للتوسع إذا ما ظهرت أخطار جديدة تهدد وحدة وجود الدولة السورية.السوريون من جهتهم، يؤكدون أنهم لا يخشون الانسحاب الروسي، ويقللون من حجمه وأهميته، إذ تقول مصادر سورية رفيعة إن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، تحدث قبل الإعلان عن القرار مع المسؤولين العسكريين، وطمأنهم إلى أن تقليص الوجود الجوي الروسي لن يكون كبيراً، وأن العمليات الجارية، لا سيما في تدمر، لن تتأثر بالإجراءات التي ستكون محدودة جداً. وقال لمسؤولين في دمشق إن “الإعلان كان ضرورياً بالمعنى الإعلامي، لتبرير عودة بعض القطع الجوية والبحرية”، فيما قال مصدر سوري إن اكثر من 70 في المائة من القوة الروسية الجوية ستبقى فيحميميم لمواصلة مهامها.بالطبع: ان قرار الرئيس الروسي يسحب ورقة من بين أيدي معارضيه الغربيين والاقليميين فالمعارضة السورية تشدد  على الاخيرة. كانت كل تلك الأطراف تتقول: بإن دخول روسيا هو الذي عرقل الحل وغيّر المعادلات. بالتالي, يريد بوتين تسهيل الحل السياسي وإحراج الخصوم.

من الواضح ان القيادتين الروسية والأميركية لم تستسيغا موقفي دمشق والمعارضة حيال مصير الرئيس الأسد. روسيا تقول إن هذا الأمر متروك للشعب السوري, وهي بالتالي ربما انزعجت من كلام الوزير وليد المعلم من أنه “لا يحق لـ ميستورا ولا لغيره الكلام عن انتخابات رئاسية لأن الأسد خط أحمر!على صعيد الحراك الدبلوماسي،  صرح وزير الخارجية الاميركي جون كيري ، انه سيلتقي الرئيس   بوتين الاسبوع المقبل لبحث الازمة السورية بعد اعلان موسكو سحب قواتها جزئيا من سورية.وقال كيري “ساتوجه الى موسكو الاسبوع المقبل للقاء الرئيس بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف لمناقشة كيف يمكن ان نحرك العملية السياسية بشكل فعال, ونحاول الاستفادة من هذه اللحظة” .كان البيت الابيض قد اعلن ان روسيا تنفذ على ما يبدو قرار سحب قواتها من سورية، بعد قراربوتين المفاجئ قبلها بسحب قواته جزئيا من البلد المضطرب.

وقال كيري ان ذلك، اضافة الى بدء محادثات السلام غير المباشرة في جنيف بوساطة الامم المتحدة، يفتح نافذة الاحتمالات للتوصل الى حل تفاوضي للنزاع المستمر منذ خمس سنوات.واكد قبل اجتماعه مع وزير خارجية جورجيا ميخائيل يانليدزي أنه”مع حلول الذكرى الخامسة على بدء هذه الحرب المروعة، ربما اصبحت امامنا افضل فرصة منذ سنوات لانهائها”واضاف “وقف الاعمال القتالية لم يكن مثاليا. ولكن لا يوجد حسب علمي اي وقف مثالي لاطلاق النار. وقد اعربنا ولا نزال نعرب عن مخاوفنا الجدية بشان الانتهاكات عند حدوثها”.

جملة القول: أن من الخطأ تصور ومقارنة الرئيس بوتين بالمواقف إبان الحقبة السوفياتية.كان التدخل الروسي في سوريا مدفوعا بمحدد استراتيجي عنوانه: المصالح الروسيةوانعكاس وتأثير ما يدور في البلد العربي على الحدود الشرقية للفيدرالية الروسية (ما عُرف بالجمهوريات الإسلامية ,التي انضوت تحت لواء الاتحاد السوفياتي) موسكو تعتبر هذه الجمهوريات خطها الدفاعي الأول , كما  أن جزءا رئيسيا من هذه المحددات تقتضيه سياسة الاثبات بأن روسيا هي في طورها الأخير لتشكيل القطب العالمي الموازي للولايات المتحدة. يتحلى الرئيس بوتين ببراغماتية عالية. صحيح أنه يتخذ القرارات بالتشاور مع العدد الأدنى من المعنيين في القيادة الروسية,لكنه وقبل اتخاذ أي قرار يخضعه لوجهتي نظر يقوم بها معهدان,أحدهما يسيطر عليه الصقورمن بقايا العهد السوفياتي, وآخر يسيطر عليه الليبراليون المتناغمون مع اهمية التعايش مع الغرب ومهادنته,للعلم ,وكما ذكر لي أحد مستشاري الرئيس بوتين, والمحسوبعلى”الحمائم”إن جاز التعبير! في مقابلة اجريها معه وتشمنا كتابي الصادر مؤخرا عن روسيا, فإن الرئيس الروسي يصطحب في جولاته الخارحية مندوبا من كل معهد, متخصصا بقاضايا البلد الذي يزوره . يسمع بوتين رأي كل منهما ثم يتخذ القرار.لم يرد بوتين من دخوله في سوريا أن يكرر التجربة السوفياتية في افغانستان ,كونه يدرك ويعي انعكاسات الالم والمرارة والرفض والعدد الكبير من الضحايا الروس, التي أحدثها التدخل في أفغانستان ,لدى الشعب الروسي. لكل ذلك,لمن يعرف حقيقة المواقف الروسية,فإن قرار بوتينسحب معظم القوات الروسية من سوريا ,يأتي في سياق النهج السياسي البراغماتي للرئيس الروسي.

قد يعجبك ايضا